صفحات الرأي

ماذا عن سيكولوجية “الجماهير الإلكترونية”؟/ ياسر البنا

 

 

 

نعيش في مرحلة، نعرف فيها الكثير عن طريقة تفكير “الجماهير”، وكيفية تشكيل “الرأي العام”، ودور الساسة، والنخب، والإعلام في توجيه الشعوب، وندرك كذلك كيفية نشوء الثورات، والثورات المضادة أيضا. ويرجع الفضل في هذه المعرفة إلى مؤلفات وأبحاثٍ كثيرة وضعت في هذا المجال، وصدّقتها الأحداث، على مدار الحقب الماضية.

لكن، ماذا عن “الجماهير الإلكترونية” التي تملأ فضاء العالم الافتراضي اليوم؟ هل تنطبق عليها قوانين الجماهير الحقيقية التي تملأ الميادين والشوارع؟

يرى غوستاف لوبون، (1841–1931)، في كتابه “سيكولوجية الجماهير”، والذي ما زال يعتبر الإصدار الأهم في هذا المجال، على الرغم من مرور أكثر من مائة عام على تأليفه، أن الجماهير لا تعقل، وترفض الأفكار أو تقبلها كلاً واحداً، من دون أن تتحمّل مناقشتها. فهل هذا ينطبق كذلك على الجماهير الإلكترونية؟

ويشير لوبون، أيضاً، إلى أن الفرد ما إن ينخرط في جمهور محدد، حتى يتخذ سمات خاصة قد لا تكون موجودة فيه سابقا، وقد لا ينتبه لأفعاله التي أقدم عليه، مع الجماعة أو الحشد، إلا بعد أن يغادره، ويستفيق من “الغيبوبة”، أو بمعنى آخر، يكون الفرد أشبه بالشخص الذي تعرض لعملية تنويم مغناطيسي.

إنه يقول كذلك إن الجماهير “مجنونة بطبيعتها. تصفق بحماسة شديدة لمطربها المفضل، أو لفريق كرة القدم الذي تؤيده، وتعيش لحظة هلوسة وجنون”. فهل هذا أيضا ينطبق على الجماهير الإلكترونية؟

وتحدث لوبون كذلك عن قدرة النُخب والإعلام المُذهلة في قيادة الجماهير وتضليلها وخداعها، فهل جماهيرنا الإلكترونية بالسذاجة نفسها؟

ولو اتجهنا إلى مفهوم “الرأي العام”، وثيق الصلة بعلم النفس الاجتماعي، نجده يقول إن غالبية الرأي العام مُنساق، ويتحكم به “قادة الرأي” الذين قد لا تتجاوز نسبتهم الـ5 % من الشعب، فهل الرأي العام الإلكتروني، بهذه الدرجة من (الإمّعية)؟

قد يرى بعضهم أن الإجابة على التساؤلات السابقة سلبية، في الغالب، حيث يُلاحظ أن “النقاش” يغطي على سلوك “الجماهير الإلكترونية”، ما يدفع، مع مرور الوقت، إلى تكوين حالة من “الوعي” والإدراك، تجعل من الصعب التأثير على سلوكها، وتحرم الساسة والنخب والإعلام من القدرة على سوقها، كيفما شاءت.

لكن، في المقابل، نرى شواهد كثيرة تشير إلى أن سلوك “الجماهير الإلكترونية” لا يختلف كثيراً عن سلوك جماهير الميادين والشوارع.

فعلى سبيل المثال، تابعنا مشهداً أقدم فيه محتال على فبركة خبر على لسان أحد كبار علماء المسلمين، يفتي فيه بجواز أكل الرجل زوجته في حال “الجوع الشديد”. وعلى الرغم من غرابة الفتوى ولامنطقيتها، وجدنا تصديقا كبيراً، وربما كاملاً، في بعض الصفحات، من أفراد “الشعب الإلكتروني”، للأكذوبة، واتجاها كبيرا نحو مهاجمة ذلك “العالم”، من دون أن يُكلف أحدهم عناء البحث عن حقيقتها وأصلها ومصدرها.

في هذه الحادثة، تحولت صفحات مواقع التواصل الاجتماعي إلى مظاهرة كبيرة غاضبة، وساخطة، لربما لو تحولت إلى مظاهرة شوارع حقيقية، ومرت بجوار منزل ذلك “العالم”، لكانت قادرة على تحطيمه، وقتله.

ما الفارق هنا بين هذا السلوك وسلوك “الغوغاء” الذين صدقوا الشائعات التي أطلقها “المنافقون”، وتسببت في مقتل الخليفة الراشد عثمان بن عفان؟

يذكّرنا هذا المشهد كذلك، (من حيث الدلالة على غياب العقل لدى الجماعة) بسلوك الجماهير الفرنسية الغاضبة (إبّان الثورة الفرنسية) التي احتشدت أمام دار البلدية (5 أكتوبر/تشرين الأول 1789)، مطالبة بـ”الخبز”، وسمعت صوتا ينادي “إلى القصر”، فتحولت نحوه من دون أي تفكير أو نقاش، وكادوا يقتلون الملك والملكة في تلك الليلة.

على المستوى الشخصي، أتمنى أن يكون “النفي”، هو إجابة كل التساؤلات الواردة أعلاه، وأن نصل جميعا إلى مرحلة، نرفض فيها أن تسوقنا أي جهة كانت. ولكن، ليت الأمور بالتمني.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى