مراجعات كتب

“ماذا وراء هذه الجدران” لراتب شعبو سيرة كاتب حرّ في المعتقل محاكمة إنسانية حارة لما فعلته الديكتاتورية العسكرية في سوريا/ جمال سعيد

 

 

يستنطق راتب شعبو “زمن السجن الميت والقاتل” متجاوزاً برودة جدران السجون المختلفة التي تجري فيها حوادث روايته “ماذا وراء هذه الجدران”(سيرته في المعتقل)، ليشهر أوجاعاً كابدها الكثير من السوريين، وليضع بين أيدينا محاكمات أخلاقية ووجدانية وإنسانية حارة لتجربة قبيحة ومرة.

“ماذا وراء هذه الجدران” هذا السؤال/ العنوان لا يدعي لنفسه البراءة. تطول الإجابة عنه لتتجسد في رواية مبنية على أساس توثيقي صلب، يمثل جزءاً من موقف أخلاقي متماسك، لرجل يرى أن “نقل التجربة بصدق واجب وحقّ في الوقت ذاته”. ما يمنح هذه الرواية (وهي سيرة وشهادة في الوقت نفسه) نكهة خاصة، أنها لا تؤرخ للروح والوجدان عبر المتخيل بل عبر المعيش والملموس في مرحلة من أقسى المراحل التي عاشها السجناء السياسيون المهملون في سوريا.يقول الكاتب حول هذه الرواية، في سياق لقاء أجرته مجلة “الشاهد” اللندنية: “ما كنت حريصاً عليه في المقام الأول هو الصدق. السجن المديد يعرّيك من “سياستك” وتتحوّل فترة السجن إلى مواجهة مباشرة بين إنسان وسجن. قد لا يصحّ هذا الكلام مع سجناء لهم حظ من الشهرة، أو المواقع السياسية والاهتمام الإعلامي، فهؤلاء تبقى “سياستهم” حاضرة وتشكّل نوعاً من الوسيط بين “إنسانيّتهم” وسجنهم. لكننا كنا سجناء مهملين ومتروكين وكانت إنسانيّتنا (أقصد بشريّتنا أو طبيعتنا كبشر)، على تماسّ مباشر مع جدران المهاجع والزنازين”.

لم يكتب راتب شعبو روايته بصفتها نوعاً من التحدي. لقد مارس تحديه لجلاده بالتخرج في كلية الطب بعد إطلاقه، وردّبتخرجه على ما قاله رئيس الفرع له أثناء تعذيبه بأنه لن يتخرج يوماً – سمعت الرواية على النحو الآتي:”وضع الضابط المرموق يده على شفته العليا حيث ينبغي أن يكون شارباه، وقال رغم أنه حليق الشاربين:”بيكونو هالشوارب على كس شرموطة إذا بتتخرج وبتصير دكتور” – ولكن ما استدعى كتابة الرواية كان أمراً آخر. “ليس في مذكّراتي أي كلمة مكتوبة داخل السجن، كل ما فيها مكتوب بعد سنوات من الإفراج عنّي (…) كانت كتابة مذكّراتي عن السجن أجمل ساعاتي اليومية، رغم أنني بكيت كثيراً أثناء الكتابة، غير أنني كنت كمن يفرغ دمّلاً من الألم. هي إذاً مذكرات سجين، وأي مذكرات”.

ومع أن هذه السيرة/الشهادة/الرواية غنية بالدلالات، وتحمل الكثير من الرسائل حول كيفية إدارة الديكتاتورية لصراعها مع خصومها، والمسافة الطويلة التي فرضتها أنظمة الطغيان، والتي يتعين على مجتمعاتنا قطعها للدخول إلى العصر، وسيرة تظهر آليات المراقبة والمعاقبة التي لم يعرفها فوكو، وانتهاك الروح والجسد الانسانيين الذي لم تصل إليه هذيانات زكريا تامر أو كوابيس كافكا، ومع أنها تؤرخ للوجدان والمجتمع في سوريا، يقول الكاتب:”لم أكتب مذكّراتي عن السجن لأنقل رسالة، على الأقلّ لم يكن هذا في وعيي. كتبت كي أرتاح، وكنت أرتاح كلّما شعرت بأنني نقلت تجربتي بالشحنة التي كانت تعتمل في داخلي. أنا المسجون كنت أكتب بمتعة، وفي ذهني أهلي السوريون في الدرجة الأولى. أكتب لهم لأشكو ولأفيد ولأسلّي ربّـما. أكتب لهم كأنني أكتب رسالة إلى صديق. أكتب وأنا متّكئ على نسيج أتخيّله من الودّ والانتماء الواحد، والتضامن الخفي ضد فئة تسرق أرزاقنا وأفراحنا وأعمارنا. أكتب وأنا أتنفّس دفء التعاطف والشعور المشترك بالمأساة. بالفعل كان ذلك جزءاً قاسياً من حياتي وحياة أصدقائي الذين شاركتهم وشاركوني معنى السجن المغلق الآفاق، وكانت الكتابة سبيلي إلى التحرّر، أو إلى شيء من التحرّر، لأنني أدرك أنه تحرّر مستحيل. فأنا أقول بكثير من الحزن، إن السجن الماراتوني عطب شيئاً عميقاً في بنيتي النفسيّة، فقد بتّ أقلّ تحسّساً بالذلّ الشخصي من ذي قبل وأقلّ عنفواناً. وبات ضميري أكثر طواعية لنفسي، وأكثر تواطؤاً معها، في ما يتعلق بقضايا السلامة الشخصية. وقد عثرت في عيون شباب وشابّات سوريا المنتفضين في الساحات والشوارع، بهتافهم ضد الديكتاتور، على ذاتي الضائعة أو الهاربة مني، وكأنني أستعيد بهم توازناً فقدته في غمار ماراتون السجن المشؤوم”.

تبدأ الرواية بمقدمة تظهر في أول جملة فيها سيارة الأمن، وهي تزور ذات فجر، بيت الراوي لإلقاء القبض على أخيه الفار من وجه الاعتقال السياسي. في تلك المقدمة القصيرة، وقبل أن نقرأ ما يكتبه عن وجوده في كركون الشيخ حسن، يذكر:”حصلت على جرائد وكتابات رابطة العمل الشيوعي. كنت أقرأها خفية وبنهم. قرأتها كي أعجب بها كما المؤمن يقرأ القرآن كي ينبهر به. كان يسحرني الكلام القطعي والتعابير الجديدة بالنسبة لي والنبرة الاستعلائية الواثقة المدعومة بولوج مواضيع ممنوعة وبمواقف معارضة جريئة(…) وكان ميلي النفسي إلى أخي المطارد هو ما جعل قلبي مفتوحاً لهذا الاتجاه الفكري الذي يعتنقه”.

بعد تلك المقدمة التي تحاكم وتفسر وتتحدث عن “الإيمان” في دنيا السياسة، وعن الأسباب الطبيعية لاعتناق الشاب المتحمس لرأي أو إيمانه برأي، تبدأ الرواية في سرد تفاصيل رحلة في السجون السورية: فروع التحقيق التابعة للأمن السياسي، وكركون الشيخ حسن، وسجن عدرا ثم سجن تدمر الرهيب. وتظهر الرواية تفاصيل الاستبداد والقهر والإذلال والانتهاك التي يكرسها القمع العاري، وهو سلاح الاستبداد السياسي في أحط صوره.

تنتهي السيرة/الرواية بالخروج من السجن. يوضح الراوي أن مكابدة تجربة السجن لا تنتهي بالخروج منه. ثمة أشياء دفنت داخل الكاتب/المعتقل الذي أطلق سراحه. وثمة صلات تقطعت. لهذا نراه يغرق في الدراسة. ويقول في روايته:”الدراسة تشكل واجهة جيدة ومحمودة، تحاول وراء هذه الواجهة أن ترمم تشتتك بالكتابة والترجمة والعلاقات الجديدة والرحلات. لكنك في كل هذا لا تعثر على ما تفتقده. ثمة أمر أفلت من يدك بصورة نهائية وتحاول عبثاً استرداده. هناك فراغ في مصفوفة نفسك لا تقدر على ملئه. تشعر بثقل هذا الفراغ الذي لا يملأه نجاحك الدراسي ولا كل محاولات الشعور بالحرية! أخذك السجن وختم على نفسك. خرجت منه فهل يخرج هو منك”.

أمضى راتب شعبو في السجن 16 سنة وثلاثة أيام. لعل “ماراتون السجن” الذي خاضه مع آخرين، هو “الماراتون الأخير من نوعه” في سوريا. الماراتون الذي تظهر الرواية ما انطوى عليه من لهاث لنفس السجين ومداوراتها وقدرتها على التحمل، في مواجهة أدوات همجية لا بد من تجاوز كل أشكالها للدخول إلى العصر، أو لتحقيق الحد الأدنى الذي نحتاجه بصفتنا محض بشر.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى