سلامة كيلةصفحات سورية

ماذا يجري في الوطن العربي؟


سلامة كيلة

ما الذي يجري في الوطن العربي؟ هل هو حراك شعبي أم انتفاضة أم ثورة؟

مع زحمة ما جرى في البلدان العربية تداخلت المفاهيم، ودخلنا في متاهات نقاش مشوَّش، ومشوِّش. فماذا نسمي ما حدث في تونس ومصر واليمن وليبيا وسوريا، وكذلك المغرب والجزائر والأردن والبحرين؟ هل هو حراك شعبي؟ أم هو انتفاضة شعبية؟ أم أنّه ثورة شعبية؟ وما الأساس الذي يسمح بالتحديد أصلاً؟ هل هو الحجم أم النجاح والفشل؟ أو طبيعة الأهداف؟

إذا كانت المصطلحات والمفاهيم مشوشة عموماً في الخطاب السياسي العربي، فإنّ ذاك التشوش يظهر واضحاً في تناول المصطلحات التي باتت محورية في الأشهر الأخيرة، نتيجة الثورات ذاتها التي غمرت كلّ الوطن العربي، وبالتالي تفضي إلى سوء فهم، وسوء حوار، نتيجة التحديد العشوائي لمصطلحات هي في صلب النقاش الجاري. ربما تلك من سمات الخطاب السياسي العربي عموماً، وهي السمة التي تجعل التنافر والعجز عن الوصول إلى توافق، والتفهّم المتبادل، من الأمور «الطبيعية»، لأنّ الأولويات غير متوافق عليها، وأقصد المصطلحات والمفهومات. بالتالي، ما معنى تلك المصطلحات/ المفهومات؟

إنّ كلّ نشاط شعبي من أجل مطالب هو حراك، سواء كانت جزئية أو «فئوية» أو شاملة. لذلك، يمكن أن يكون الحراك إضراباً عمالياً أو تظاهرة، أو توقيع عريضة. بمعنى أنّ المصطلح يتضمن فعلاً ما لمصلحة فئة أو طبقة أو شعب، بغض النظر عن الشكل الذي يتخذه، والهدف الذي يسعى إليه، سواء تعلق بتحقيق مطلب بسيط، أو طالَبَ بإسقاط النظام.

أما الثورة، فهي التحرّك من أجل تغيير النظام، بغض النظر عن الشكل الذي تتخذه، سواء كان الإضراب العام أو العصيان المدني أو الانتفاضة الشعبية، أو الثورة المسلحة، وأيضاً بغض النظر عن النتيجة التي يمكن الوصول إليها، أكانت الانتصار أم الهزيمة أم تحقيق جزء من المطالب. لذلك، الثورة حراك هدفه التغيير، لا الإصلاح أو تحقيق بعض المطالب الجزئية، وهي تحرك الشعب عموماً أو طبقة منه (أو ربما جزء له طابع قومي معيّن) من أجل التغيير. بمعنى أنّ كلّ صدام مع السلطة الطبقية السياسية كسلطة، هو ثورة، بغض النظر عن الآليات وعن النتائج. من ثم سنلمس أنّ الانتفاضة هي كلّ تحرك شعبي يهدف إلى التغيير من خلال التظاهر والإضراب، وكلّ أشكال الاحتجاج غير المسلحة. وهنا تكون الانتفاضة هي شكل الثورة، فيكون النضال المسلح أو العصيان المدني أو الإضراب العام أشكالاً أخرى لها. بمعنى أنّ الانتفاضة هي شكل من أشكال التغيير تقوم على تحرك الشعب عبر آليات التظاهر وأشكال احتجاج أخرى. ويمكنها أن تتحوّل في لحظة إلى انتفاضة مسلحة، حين تتحوّل أداة التظاهر من الشعارات وأشكال الرد البسيطة على قمع النظم (الاشتباك بالأيدي، العصي، الحجارة، وحرق الدواليب) إلى حمل السلاح من أجل السيطرة على مراكز السلطة، للاستحواذ عليها. يختلف ذلك عن النضال المسلح الذي يبدأ بإنشاء مجموعات صغيرة تتدرب على استخدام السلاح وتهاجم أجهزة السلطة وجيشها، لتتطور إلى جيش مسلح بديل يستطيع السيطرة على السلطة. تنجح تلك الحالة غالباً في مواجهة قوى الاحتلال، أكثر مما تنجح في إطار الصراع الطبقي المحلي، بينما سيبدو ضرورياً لانتفاضة شعبية أن تتحوّل إلى انتفاضة مسلحة حين تعيش مأزق السيطرة على السلطة، نتيجة قوّة الأجهزة الأمنية/ العسكرية لدى السلطة.

الحراك، بالتالي، هو كلّ نشاط شعبي لتحقيق مطالب، والثورة هي الحراك الذي يسعى إلى تحقيق المطالب عبر تغيير النظام، والانتفاضة هي شكل حراك الشعب في مواجهة النظام. وهنا ليس مهماً ربط ذلك بالمآل الذي يمكن أن يفضي إليه الحراك: الانتصار أو الهزيمة أو الإصلاح، فالثورة تنتصر أو تنهزم، أو تغيّر قليلاً، لكنّها ثورة. وكلّ حراك شعبي عام يتمظهر في شكل تظاهر وأشكال احتجاج أخرى هو انتفاضة، بغض النظر عن نتيجتها، نجحت أو فشلت.

لذلك يمكن القول إنّ ما يجري في الوطن العربي هو حراك، وهو انتفاضة، وهو ثورة كذلك، لأنّه انتفاضة لا حراك فقط. إنّه ثورة لأنّه يهدف إلى إسقاط النظم عبر الشعب، وهو انتفاضة لأنّه يتخذ شكل التظاهر والإضراب والاعتصام. كلّ ذلك بغض النظر عن النتيجة التي يمكن أن يوصل إليها: هل نجح في تحقيق الأهداف التي طرحها أم فشل في ذلك.

هذا التحديد يسمح لنا بأن نتلمس «مشكلات» الحراك، وتحديد «نقاط الضعف» فيه، والأسباب التي جعلته يسير إلى ما يسير إليه من عجز عن تغيير حقيقي للنظم، ومحاولات الالتفاف عليه. فهناك مشكلة كسر قوة السلطة والسيطرة عليها، من أجل تحقيق التغيير الذي يحقق مصالح الطبقات الشعبية. وهناك مشكلة توضيح مجمل المطالب والأهداف التي يقوم عليها إسقاط النظم. وبالتالي مشكلة تحوّله إلى اعتصام «سلبي» بدل أن يفضي إلى زحف من أجل السيطرة على أجهزة السلطة.

فبعكس الإضراب العام أو العصيان المدني أو الثورة المسلحة، التي تنطلق كلّها من «إرادة واعية» (سواء بفعل وجود أحزاب أو نقابات) فإنّ الانتفاضة هي في الغالب حراك عفوي يبدأ نتيجة ظروف محدَّدة تدفع قطاعات مجتمعية كبيرة إلى النزول إلى الشارع للتعبير عن غضبها وتمردها، وسعيها إلى رفض الوضع الذي تعيشه، وبالتالي مطالبتها بالتغيير الذي يعني تحقيق مطالب أو إسقاط النظام، أو البدء بالمطالبة بمطالب معينة تتطور إلى طرح إسقاط النظام. والنتيجة التي يمكن أن تصل إليها، تعتمد على اندماج أحزاب فيها (وهذا يفترض أنّها تعي وضع الشعب، وتتلمس مشكلاته، وبالتالي تستعد لأداء دور واضح حين يثور)، هي متوافقة مع مطالب الشعب. وما يبدو واضحاً في الوطن العربي أنّ هذا الوضع غائب نتيجة عجز الأحزاب، وعجزها عن فهم وضع الشعب وتلمس ممكنات ثورته.

إذاً، الانتفاضة هي الشكل العفوي لتعبير الشعب عن تمرده، لذلك تجهض في الغالب. بمعنى أنّها لا تحقق مطالب الشعب، وإنْ استطاعت إسقاط حكّام وتغيير شكل النظم. وهي لا تنتصر إلا إذا ترابطت مع فعل سياسي واضح، يعبّر عن مصالح هؤلاء المنتفضين. يشهد الوطن العربي انتفاضات من هذا القبيل، إذ ليس من أحزاب تعبّر عن الطبقات الشعبية، وما يمكن أن يتحقق في حده الأقصى هو تغيير ديموقراطي لا يقود إلى تغيير النمط الاقتصادي، هو ما يحقق مطالب تلك الطبقات. لقد انطلقت الانتفاضات كتعبير عن حراك سلمي لا يريد الانتقال إلى أيّ شكل من أشكال العمل المسلح، على أساس أنّ السلمية هي القوة التي تفرض القدرة على مواجهة نظم مسلحة حتى العظم، لذلك، نجد أنّها تسير نحو استعصاء أو إلى تغيير «من فوق»، من خلال قيادات الجيش التي هي جزء من النظام القديم. ما يجري هو حراك ثوري يتخذ شكل الانتفاضة السلمية، ونحن نشهد عثراتها ونلمس نقاط ضعفها نتيجة طابعها العفوي، لكن ليس من الممكن أن تتوقف دون تحقيق التغيير العميق، وإنْ على مراحل.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى