صفحات العالم

ماذا يعرف أوباما عن “التكفيريين”؟

إياد أبو شقرا

في خضم الانشغال بفهم أبعاد الأزمة السورية، قد يفيد المتابع النظر إليها من الزاوية اللبنانية.

صحيح الصورة داخل عالم السياسة اللبنانية أشبه ما تكون بمتاهة مظلمة، تعج بالمناورات والكلام المبطن والكثير الكثير من النفاق. والسبب الأساسي أن لا مشروع وطنيا مشتركا يتجاوز المحاصصة الطائفية والمزايدات داخل الطوائف نفسها. غير أن الأوضاع الإقليمية والدولية المؤثرة في لبنان فرضت بين الفينة والأخرى عمليات إعادة فرز وترتيب للمصالح العابرة، ومن ثم صار لبنان ساحة للصراعات الإقليمية، ومرآة لتناقضات التيارات المتصارعة.

وبعد الحرب اللبنانية بين 1975 – 1990، نجح النظام السوري حيث أخفق آخرون في إدارة التناقضات اللبنانية وإفهام قطاع واسع من اللبنانيين أنهم، أولا لا يستحقون العيش في بلد «مستقل»، وثانيا أنهم عاجزون عن تطوير ثقافة «المواطنة» الكفيلة بحماية ذلك البلد إذا قيض له أن يبقى مستقلا.

دمشق آل الأسد استغلت قلة تنبه اللبنانيين لأهمية المواطنة كأرضية ضرورية للاستقلال والسيادة، والاستقلال كصيغة حافظة وضامنة لاستمرار المواطنة. ونجحت سلطات دمشق في عهد حافظ الأسد بممارسة لعبة الغاية المزدوجة بذكاء معاوية، حيث كانت «تشد» الحبل و«ترخيه» في الوقت المناسب وفي ظل المعطيات المتاحة. كان الأسد الأب قادرا، بدهائه وقدرته، على احتواء الجموح الإيراني المتعجل تنفيذ مشروعه الإقليمي. وبالتالي، تمكن عبر ضبط إيقاع العلاقة مع ملالي طهران، لفترة لا بأس بها، من تحاشي إثارة قلق مكونات داخل لبنان وسوريا كان حريصا على طمأنتها، أو قل تخديرها.

الوضع اختلف مع بشار الأسد…

اختلف، على الأقل على الصعيد اللبناني، عندما نزع ملف لبنان من أيدي أصحاب العقول المجربة الهادئة وسلّمه إلى ولي العهد الطارئ وفريقه من طاقم التسيير الجديد. وبعد ذلك، أخذت المحظورات تتساقط، وبالتوازي أخذت تتداعى «العلاقات الخاصة» مع طيف من القيادات اللبنانية التي بات عليها التأقلم مع سياسة دمشقية «فوقية» جديدة تقوم على «العصا من دون الجزرة».

لا حاجة لاستعراض ما حصل في لبنان ومع اللبنانيين خلال سنوات بشار الأسد الأولى في الحكم، بل يكفي ذكر يوم 14 فبراير (شباط) 2005، عندما قتل رئيس وزراء لبنان الأسبق رفيق الحريري بتفجير ضخم مع عدد من المرافقين والمدنيين. يومذاك اتجهت الشبهات إلى دمشق وجهازها – وجهاز إيران – الأمني داخل لبنان، وبادرت دمشق ومعها حلفاؤها إلى ابتكار «السيناريو التكفيري» عبر قصة الأصولي «أبو عدس».

هنا لا بد من التوقف عند الهمس المنشور بتشجيع من دمشق و«الجهاز الأمني» عن أن الحريري كان على صلة بالتطرف السني وكان داعما للجماعات «التكفيرية» (!). أما الغريب فهو لماذا يقدم «التكفيريون» مثل «أبو عدس» على تصفية أحد داعميهم؟

أضف إلى ما سبق، أنه، لأشهر معدودات قبل اندلاع الانتفاضة السورية كانت شخصيات في الحكومة العراقية نفسها، تتهم النظام السوري بتسهيل وصول الجماعات «التكفيرية» إلى العراق عبر أراضي سوريا.. ثم هناك الداعية السوري الأصولي «التكفيري» الذي استقر في شمال لبنان بعدما أقام لفترة غير قصيرة في بريطانيا. هذا الداعية المثير للجدل الذي أوقف في خريف 2010 بعد إصدار القضاء اللبناني عليه حكما غيابيا بتهم الانتماء إلى تنظيم مسلح والدعوة إلى القتل والنيل من هيبة الدولة اللبنانية، أفرج عنه في أواخر نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 استجابة لطلب محاميه ونائب حزب الله نوار الساحلي، وكان الساحلي قد تولى الدفاع عنه بإذن من السيد حسن نصر الله أمين عام حزب الله!

وكان السيد حسن نصر الله، نفسه، أول من اعتبر مهاجمة جماعة «فتح الإسلام» (التكفيرية) داخل مخيم نهر البارد عام 2007 «خطا أحمر»، لكنه بعد اندلاع الانتفاضة السورية برر إرسال مقاتلين من «الحزب» للقتال إلى جانب جيش نظام الأسد لمواجهة «التكفيريين»!

وجود «التكفيريين» داخل سوريا غدا اليوم الذريعة الأولى عند القوى الغربية لتبرير السماح لبشار الأسد بالإجهاز على الانتفاضة السورية. ولكن، حتى الدول الغربية – وعلى رأسها الولايات المتحدة – تعرف جيدا كيف جاء هؤلاء ومتى جاءوا إلى الأراضي السورية. وأرجح أن الدوائر الأمنية الغربية رصدت وما زالت ترصد طبيعة العلاقة التناقضية التكاملية بين الجماعات «التكفيرية» وبعض البيئات الحاضنة التي تبدو لأول وهلة أنها على عداء مطلق معها.

اليوم نسمع من محللين وأكاديميين أفكارا وآراء عن أسباب إحجام واشنطن عن ردع نظام الأسد، ومن يقف وراءه.

بعض هؤلاء يرون أن العلة تكمن في اهتمام واشنطن بألا تصل الأسلحة «الفتاكة» والإعانات العسكرية إلى جماعات وتيارات «تكفيرية». وهناك فريق ثان يرى أن المشكلة محصورة في شخص باراك أوباما، ويصفه بأنه شخص «متردد».. ويذهب آخرون إلى الإشارة إلى «تعب» الأميركيين من الحروب، وحرص أوباما وأركان إدارته على احترام رغبات الشارع الأميركي، كما تعبر عنها استطلاعات الرأي العام. ثم هناك رأي رابع يقول إن الشرق الأوسط ما عاد في صميم اهتمامات واشنطن. ويطالعنا رأي خامس لا يخلو من السذاجة، أو التضليل.. يستبعد تماما وجود تواطؤ أميركي على وأد الانتفاضة السورية، وأن المسألة برمّتها مسألة قلة وضوح في الرؤية. وكانت تسريبات صحيفة الـ«نيويورك تايمز»، بالأمس، عن «ضيق» إسرائيلي من التسريبات الأميركية لعمليات قصف إسرائيلية استهدفت أهدافا عسكرية داخل سوريا.. تدفع إلى تصديق وجود «خلاف» في تشخيص الوضع السوري بين واشنطن وتل أبيب، ومن ثم استبعاد «التواطؤ».

ولكن من يعرف مركزية إسرائيل في سياسة الولايات المتحدة الشرق أوسطية، يستحيل أن يصدق وجود خلاف على نظام يحكم بلدا مجاورا لها منذ أكثر من أربعة عقود.

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى