صفحات سورية

ماذا يعني الخلط بين مفهوم الدولة والسلطة الحاكمة؟!


ميشال شماس

تصريح الناطق باسم وزارة الخارجية السوري السيد جهاد مقدسي منذ أسابيع ” بأن معركة إسقاط الدولة قد انتهت”، ذكرني بما جرى معي لدى استدعائي والتحقيق معي منذ سنوات في أحد الفروع الأمنية على خلفية كتاباتي في مواقع النشر الالكترونية، ولازلت أذكر عندما سألني المحقق باستغراب :” كيف تكتب في مواقع معادية لسوريا؟ قلت له: لم أجد في هذا الموقع ما يشير إلى معاداته سوريا”، فاستدرك المحقق بالقول: “ولكنه ينشر مقالات وأخباراً ضد النظام السوري أي أنه معاد للنظام والقيادة السورية” عندها قلت له :” فرق كبير بين أن تكون ضد النظام وتكتب ضده أو تنتقده وبين أن تكون ضد الدولة السورية والشعب السوري، عندها، أبدى المحقق انزعاجه من كلامي.. وسألني بعصبية: ما هو الفرق برأيك يا استاذ؟

قلت له: إن السلطة في سوريا ليست هي الدولة السورية، والدولة السورية ليست هي السلطة السورية، فسوريا الدولة هي الباقية، وأما السلطة فليست ثابتة بل تتغير، فتذهب سلطة وتأتي سلطة أخرى محلها، أما سوريا الدولة والشعب والأرض فهي باقية أبد الدهر، وما يؤكد قولي هذا هو الشعار الذي تم رفعه في عهد الرئيس الراحل حافظ الأسد (قائدنا إلى الأبد حافظ الأسد) هذا الشعار المخالف لمنطق الحياة والذي سقط بمجرد وفاة الرئيس حافظ الأسد.. عندها قال لي المحقق: ” لا.. هيك بلشت تغلط..!”.

أعود لتصريح المقدسي الذي يخلط عمداً بين مفهوم السلطة الحاكمة وبين الدولة، والذي لاقى استغراب الكثير من المهتمين بالشأن السياسي، فعلى حد علمي لم يطالب أحد في سوريا ولا في خارجها بإسقاط الدولة السورية، والمعركة التي تجري حول سوريا وفي داخلها ليس الهدف منها إسقاط الدولة السورية، بقدر ما تهدف إلى إسقاط النظام السياسي الحاكم أو تغييره. اللهمّ إلا إذا كان السيد المقدسي يعتبر أن سقوط السلطة الحاكمة في سوريا هو سقوط للدولة السورية، إن هذا الخلط بين مفهوم السلطة والدولة ودمجهما مع بعض هو منطق مرفوض الهدف منه هو الإيحاء للرأي العام السوري بأن وجود سوريا ومصيرها يتعلقان بوجود السلطة الحاكمة واستمرارها في الحكم وهو أمر غير صحيح مطلقاً. وإن هذا الخلط في بين مفهومي السلطة والدولة لا يقتصر على سوريا بل يشمل مختلف البلدان العربية التي مازالت جميعها تدمج بين السلطة الحاكمة والدولة، وهذا ما أدى إلى انتشار الظلم والاستبداد والفساد والتخلف على أوسع نطاق…

إن هذا الخلط بين مفهوم الدولة والسلطة واعتبار أن السلطة هي الدولة والدولة هي السلطة وعدم التفريق بينهما لم يحدث اليوم، بل له جذوره العميقة الممتدة في التاريخ بدءاً من زمن الحكم الأموي والعباسي، مرورا بالإمبراطوريات المتعاقبة التي مرت على المنطقة. وتكرّس ذلك المفهوم بشكل واضح بعد قيام الوحدة السورية المصرية عندما عطل جمال عبد الناصر الحياة السياسة في سوريا، وتم اختصار دولة الوحدة بشخصه وتكريس مقولة “أن أي نقد للسلطة القائمة في تلك الدولة هو نقد للدولة نفسها” واستمر الأمر على هذا المنوال بعد انقلاب عام 1963 واستلام حزب البعث الحكم في سوريا واحتكاره السلطة، ثم سيطر هذا المفهوم كلياً بعد استلام الرئيس الراحل حافظ الأسد سدة الحكم في سوريا في عام 19970 والخلط بين مفهوم الدولة والسلطة مازال مسيطراً حتى الآن، ما أدى إلى خلق حالة من التماهي بين السلطة والدولة، والذي أدى بدوره إلى انحسار مفهوم الدولة تحت ضغط التفرد بالحكم والاستئثار بالسلطة، كما أدى تركيز السلطة في الدولة بشخص الرئيس بفعل الصلاحيات الواسعة الممنوحة له بموجب النصوص الدستورية إلى الإيحاء للناس أن الرئيس هو السلطة والدولة والعكس صحيح .

ويقودنا هذا الحديث إلى وجوب التفريق بين مفهومي دولة السلطة وسلطة الدولة، حيث تعني الأولى نظرياً أن أجهزة الحكم فيها، من مؤسسات ودستور وقوانين وتشريعات تعمل في منظومة واحدة لتحقيق مصالح السلطة الحاكمة، ويصبح الوطن وثرواته ومواطنوه ملكا لها، وتنعدم مظاهر الديمقراطية ومشاركة المواطنين في صنع وإدارة مستقبلهم، وتتدنى مشاعر حب الوطن ومبادئ وقيم العمل من أجل المصلحة العامة ويعم الفساد أجهزة الدولة.

أما مفهوم سلطة الدولة فيعني نظرياً أن جميع أجهزة الحكم فيها، من مؤسسات ودستور وقوانين وقيادة سياسية، كلها تعمل في منظومة متكاملة تهدف إلى تحقيق غايات الوطن وطموحاته، التي تُعلي من قيمة المواطن ومشاعر حب الوطن، وتقوم علي مبادئ فلسفية واجتماعية واقتصادية وسياسية وثقافية واضحة يشارك المواطن في صنعها والدفاع عنها، من خلال نظام ديمقراطي تعددي يؤكد مبدأ تداول السلطة واحترام الدستور، بصرف النظر عن السياسية والدين والعرق والجنس واللون.

– دمشق

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى