صفحات سورية

ماذا ينتظر السوريون؟ /د. رياض نعسان أغا

 

مع ظهور دولة «داعش» بين الشام والعراق بات شبح التقسيم يتجسد حقيقة وواقعاً في المشهد السوري، فقد غابت سوريا التي نعرفها دولة قوية متينة وتحولت إلى أشلاء يتقاسمها أصحاب المصالح الكبرى، ويعبث بها العابثون من كل صوب، ولم يكن أحد من السوريين يريد هذا المآل المفجع الذي عمّ فيه الخراب والدمار، ولم ينتصر سوى طوفان الدم، وما تزال دائرته تتسع، ولم يعد خبر نزيفه يثير أحداً مهما كان الحدث مريعاً.

وكان من أخطر النتائج نزوح وتشرد ملايين السورين باحثين عن الأمان وعن مكان يأوون إليه بعد أن تم تدمير قراهم ومدنهم وبعد مقتل مئات الآلاف من ذويهم أو تعرضهم للاعتقال، وقد رحب الأشقاء العرب والأتراك بأفواج النازحين، ولكن القضية كبرت، ولم تعد دول الجوار ولا الدول المضيفة قادرة على القيام بواجبات استضافة ملايين اللاجئين وقد تحولوا إلى عبء كبير، وضاقت بهم الأرض على رحابتها، ولم تعد المعالجات الإغاثية قادرة على سد الاحتياجات. وبعض الدول بدأت بتعقيد قبول اللجوء إليها، وبات كثير من السوريين لا يجدون سوى الخوض في البحار وقبول مغامرة الموت غرقاً على أمل الوصول إلى بعض الدول الأوروبية التي تقبل اللجوء، وقد بدأت تستقبل المئات في البداية ولكنها وجدت نفسها أمام مئات الآلاف! ومع دخول القضية سنتها الرابعة وانسداد الآفاق كبرت مشكلة انتهاء صلاحية جوازات السفر التي لا يقبل النظام تجديدها لمعارضيه، واضطر كثير من السوريين إلى استخدام جوازات مزورة، وتعرض آلاف منهم إلى السجن في دول العبور، وبعضهم تسلق الجبال البلغارية واليونانية للوصول إلى الدول الاسكندنافية. وأما اللاجئون في تركيا فقد صاروا وقود حملات انتخابية ومادة صراع سياسي، وانعكست عليهم التجاذبات فباتوا قلقين، ولا ننكر أن بعض الشباب السوريين قد يتصرف بطريقة انفعالية أو غير لائقة فينعكس تصرفه على السوريين جميعاً، وقد شهدت بعض المدن التركية مشكلات سرعان ما تمت معالجتها ولكنها ألقت بظلال الخوف من المستقبل على قرابة مليوني سوري يعيشون حالة مضطربة داخل تركيا. ومع أننا نقدر رحابة صدر الشعب التركي إلا أننا ندرك أن العبء كبير.

وتبدو القضية أشد صعوبة في الأردن حيث تعجز إمكاناته عن تلبية الاحتياجات المتزايدة، أما في لبنان فقد بدأت قضية السوريين تتجه إلى تصعيد دموي وسط الصراعات الطائفية التي عانى منها لبنان قبل أن تحتدم بسوريا. والمجتمع الدولي ما زال سلبياً أمام مأساة التغريبة السورية المعاصرة التي فاقت كل ما سبقها من هجرات ونزوح جماعي في العالم، وإن يكن المجتمع الدولي قد تنادى لموقف إنساني فقد تراخى كثيراً في السعي إلى حلول سياسية جذرية.

واليوم يواجه السوريون مأساة وجود ستة ملايين طفل وتلميذ بلا مدارس في مخيمات اللجوء وفي أصقاع التشرد السوري، والمدارس التي أنشأها الناشطون بإمكانات بسيطة، لا تستوعب أكثر من بضع آلاف في الداخل والخارج. وهناك مئات الآلاف من الطلاب الجامعيين الذين انقطعوا عن مواصلة الدراسة في السنوات الأخيرة وبات مستقبلهم مهدداً. وثمة عدد محدود من الذين تمكنوا من إيجاد حلول عبر الخلاص الفردي، فبعض السوريين وجدوا رحابة في بعض الدول الشقيقة التي قدرت الظروف وتساهلت معهم كما هو الحال في دولة الإمارات الشقيقة التي قبلت كثيراً من التلاميذ السوريين بظروفهم الاستثنائية، وكذلك فعلت دول أخرى، ولكن الخلاص الفردي لا يشكل حلاً للأكثرية التي تواجه فقراً مدقعاً، وتعيش حالة نزوح مقفرة في داخل سوريا وخارجها.

واليوم لم يبق على دخول العام الدراسي الجديد سوى شهر ونصف تقريباً، ولا مدارس، وبالطبع لامشافي ولا مرافق خدمات في كثير من مناطق اللجوء، وقد كان مفجعاً أن تتعرض المدارس والمشافي البسيطة التي بناها السوريون في ملاجئهم وحتى تلك التي بنيت في المخيمات على الحدود مع تركيا للقصف أو التفجير.

ومع الصمت الدولي المريب وغياب المبادرات لأي حل ممكن، ومع حالة الارتباك التي تسيطر على النظام الذي لم يقم بأية مراجعة أو تقييم لحله الأمني وما حقق من نتائج على الأرض، ومع الجمود الذي يسيطر على المعارضة بعد أن تمزقت وصارت موضع تهكم شعبي ولم تعد موضع أمل أو تفاؤل، ومع انتهاء حكومتها الافتراضية دون أن تحقق ما سعت إليه من حضور وهي التي لم تتفاعل معها دول العالم، ولم يعتد بها أصدقاء سوريا أنفسهم، ومع الذهول المفجع الذي يعيشه ملايين السوريين، تسارع دولة «داعش» المزعومة التي بات السوريون مقتنعين بأنها نتاج دعم دولي خفي، ببناء قدراتها وتنظيم إداراتها، وتضم المزيد من المناطق وليس بعيداً أن يرضح كثير من المشردين للقبول بها أمراً واقعاً، وأن ينضموا إليها مضطرين إذا وفرت لهم شيئاً من الحماية والخدمات الضرورية كالماء والغذاء والكهرباء! وهذا ما بدأ يحدث في بعض مناطق دولة «داعش»، وقد قبل آخرون أن يتنازلوا للنظام عن أحلامهم ببناء دولة مدنية يحققون فيها ما طمحوا إليه من حرية وكرامة بعد أن رأوا أحلامهم صارت هباء وقد تعرضوا لخذلان مفجع. وهكذا يكون التقسيم قد أصبح حقيقة وأخشى أن تقترب ساعة اندلاع حرب لا مهرب منها بين كل الأطراف المتصارعة يكون وقودها الأبرياء الباحثون عن الأمان.

ولقد تنادينا للدعوة إلى مؤتمر وطني شامل يكون هدفه إنقاذ سوريا وليس إنقاذ النظام أو المعارضة، فقد آن الأوان لأن يعود الجميع إلى وقفة أمام النتائج، وهذا لا يعني دعوة للرضوخ أو الخنوع، ولا إذلال طرف لطرف، وإنما يعني مواجهة حقيقة أننا فشلنا جميعاً بسبب العناد والمكابرة، وسنورث أبناءنا وأحفادنا فواجع ستمتد إلى عقود طويلة. وقد خسرنا جميعاً وطناً يستحيل أن نجد بديلاً عنه، وكل من يحلم بإفناء الآخر وإبادته أو هزيمته سطحي وجاهل ولا يرى المستقبل، ولن تنجح خطة التغيير الديموغرافي بجعل الأكثرية السكانية أقلية، مهما ازداد عدد النازحين منها، ولا نريد أن يلجؤوا إلى دولة دينية تعلن حرباً طويلة المدى، فلن تحقق الحروب سوى مزيد من الدمار للجميع.

إننا نستغرب هذا الصمت الدولي المريع على ما يحدث، ونستنكر تجاهل البحث دولياً عن حلول لمأساة تتفاقم، حتى لقد بات السوريون يتساءلون هل تريد الدول الكبرى أن تستمر مأساة هذا الشعب كما استمرت من قبل مأساة الفلسطينيين والعراقيين؟ وهل تريد لـ«داعش» أن تظهر صورة إسلام عنيف قاتل تنفر منه البشرية؟ وأعتقد أن على السوريين ألا ينتظروا الحلول من الآخرين، فلابد من مبادرات وطنية تسمو فوق الجراح لإنقاذ سوريا، فهل من مجيب؟

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى