صبحي حديديصفحات الرأي

ماركس بعد 200 سنة/ صبحي حديدي

 

تسجّل سنة 2018 استعادات هامة لولادة أو رحيل عدد من الشخصيات التي ما تزال فاعلة في عصرنا، في ميادين شتى. هنالك، من باب الأمثلة فقط، 200 سنة على ولادة الروائية البريطانية إميلي برونتي، والروائي الروسي إيفان تورغنيف؛ وهناك 100 سنة على ولادة والزعيم الأفريقي نلسون مانديلا، والزعيم المصري جمال عبد الناصر، والمخرج السينمائي السويدي إنغمار بيرغمان، والمغني المصري الشيخ إمام، والروائي السوري عبد السلام العجيلي، والمترجم والموسوعي اللبناني منير البعلبكي…

وهناك، بالطبع، 200 سنة على ولادة الفيلسوف الألماني كارل ماركس (ترير، 5 أيار/ مايو 1818 ـ لندن، 14 آذار/ مارس 1883)؛ صاحب صروح فكرية وفلسفية واقتصادية كبرى مثل «رأس المال»، «نقد فلسفة الحقّ عند هيغل»، «حول المسألة اليهودية»، «العائلة المقدسة»، «الأيديولوجيا الألمانية»، «بؤس الفلسفة»، «الصراع الطبقي في فرنسا»، «18 برومير لوي نابليون»، و«البيان الشيوعي»، بالتعاون مع فردريك إنغلز. وبالطبع، إلى ماركس تُنسب الفلسفة الماركسية، التي كانت وتظلّ واحدة من أعمق فلسفات الأحقاب الحديثة؛ والأكثر مطواعية للتطوير والتعميق؛ وبعض التشويه والتزييف والتجميد أيضاً، في السياسة والاقتصاد والعقيدة بصفة خاصة.

وللمرء أن يبدأ من استذكار بعض أقوال ماركس، التي صارت مأثورة حقاً عند أنصاره ومناهضيه على حدّ سواء؛ مثل «التاريخ يكرر نفسه، في صورة مأساة أوّلاً، ومهزلة ثانياً»؛ أو: «لا شيء يمكن أن يكتسب قيمة دون أن يكون موضوع فائدة»؛ أو: «يمكن قياس التقدم الاجتماعي عن طريق الموقع الاجتماعي للجنس المؤنث»؛ أو: «الدين تنهيدة المخلوق المعذب، وقلب عالم لا قلب له، وروح شروط لا روح فيها. إنه أفيون الشعب»؛ أو: «الفنّ هو، دائماً، اعترف سرّي، وفي الآن ذاته بمثابة حركة أبدية لزمانه»؛ أو: «الثورات قاطرات التاريخ»؛ أو: «أفكار الطبقة الحاكمة هي الأفكار الحاكمة في كلّ حقبة، أي أنّ الطبقة التي تشكل قوّة المجتمع المادية هي في الآن ذاته قوّته الفكرية الحاكمة»؛ أو: «حتى الآن قام الفلاسفة بتأويل العالم فقط، والمطلوب تغييره».

وحين انهار المعسكر الاشتراكي، كان طبيعياً أن ترتفع عقيرة يمينية هنا وأخرى ليبرالية هناك تقول بسقوط الماركسية مع انهيار المعسكر الذي كان يرفع رايتها، أو عند تهديم جدار برلين تحديداً. كان هذا الافتراض قياساً ميكانيكياً، لم يصمد طويلاً أمام سلسلة الاختبارات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، أو حتى تلك الثقافية، التي شهدها العالم بعدئذ؛ في قلب «المعسكر الرأسمالي» إياه، أوّلاً. ولقد اتضح، سريعاً في الواقع، غياب الصلة المباشرة بين مصير الجمود العقائدي السوفييتي، أو «الماركسية السوفييتية» في أفضل تسمية شاملة؛ وبين الماركسية، بوصفها منهج تفكير، وأداة تحليل، وترسانة جدل.

في المقابل، وعلى العكس، اتضح أنّ الجمود العقائدي في صفّ «الماركسية الرسمية»، إذا جاز القول، كان عاملاً معيقاً لجهود عشرات الأحزاب الشيوعية والماركسية في صياغة خطّ وطني وطبقي وديمقراطي مستقلّ وأكثر استجابة للشرط الوطني المحلي، من جهة؛ وحركة التاريخ، وتطوّر المجتمعات والأفكار إجمالاً، من جهة أخرى. كذلك ساجل البعض، ليس دون صواب كبير، أن اضمحلال الجمود العقائدي الرسمي سوف يحرّر الماركسية الحقة من القيود، وسيجعلها فلسفة تحرير ومقاومة في وجه العولمة وتطورات الدولة الرأسمالية.

والمرء اليوم لا يلمس الماركسية بوضوح تامّ في فكر وتفكير شخصيات يسارية مثل المؤرخ الكبير إريك هوبسباوم أو الناقد الأدبي تيري إيغلتون أو المنظّر الإجتماعي إعجاز أحمد، أو الفيلسوف الإيطالي أنتونيو نيغري، أو حتى أعمال الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز، فحسب؛ بل يعثر على ماركس وقد بُعث حيّاً وحيوياً، في أعمال فيلسوف التفكيكية الفرنسي الأبرز جاك دريدا، وذلك في كتابه الهامّ للغاية «أطياف ماركس». إلى هذا، ليست مبالغة أبداً أن يعثر المرء على أفكار ماركس حاضرة في منهجيات علاج مأزق الرأسمالية، كما تلجأ إليها دوريات يمينية عريقة مثل أسبوعية «إيكونويست» أو يومية فايننشيال تايمز»!

وفي حوار أجريته سنة 1995 مع المفكر والناقد الفلسطيني الراحل إدوارد سعيد، حرصت على معرفة موقفه من الماركسية المعاصرة تحديداً، فسألته: أنت تمتدح كثيرا عمل ماركسيين من أمثال لوكاش وغرامشي وأدورنو ورايموند وليامز. كيف ترى الماركسية اليوم؟ وأجاب الراحل: «المسألة عندي هي نفخ الحياة في خطاب معارض هام، يقع على عاتقه اليوم واجب العثور على بدائل للوضعية الجديدة كما يمثلها أشخاص من أمثال ريشارد رورتي، وللنظرة القدرية التأملية للعالم، والتي تكتسح العديد من المثقفين هذه الأيام. «وتابع الراحل: «ثمة حاجة ماسة لإحياء الماركسية كمسألة سياسية وأكاديمية ذات صلاحية في الأزمة الراهنة التي تعصف بالتربية والبيئة والقومية والدين وسواها من المسائل. هذا تحدٌ رئيسي كما أعتقد، وهو عندي سؤال مفتوح، وأجد نفسي معنياً به على نحو جدٌي، ومشدوداً للغاية إلى النموذج الذي أرساه أشخاص مثل غرامشي ووليامز. السؤال أيضاً: أما يزال هؤلاء صالحين اليوم؟ وجوابي الحدسي هو: نعم، أكثر من ذي قبل.»….

وفي الذكرى الـ200 هذه، لعلّ من الخير استعادة قول أخير مأثور، رفعه ماركس في وجه الجمود وعبادة الفرد وتكريس الأصنام: «إذا كان من أمر مؤكد، فهو أنني لست ماركسياً»!

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى