صبحي حديديصفحات الثقافة

مارك توين: الإمبراطورية الأمريكية والوردة الدمشقية/ صبحي حديدي

 

على خلفية صعود دونالد ترامب، وما حملته شعبيته من إحياء لمناخات «الفلسفة الانعزالية»، أو ذلك السجال حول خيارَيْ انعزال الولايات المتحدة خلف شطآن المحيط، أم انقلابها إلى قوّة إمبريالية، ثمة إحياء لاهتمام من طراز آخر: الكاتب الأمريكي مارك توين (1835ـ1910)، وموقعه الخاصّ في النقاشات، فضلاً عن النصوص، التي اكتنفت فجر الإمبراطورية الأمريكية.

تجدر الإشارة إلى ثلاثة أعمال، باللغة الإنكليزية، أوّلها كتاب صدر قبل أيام فقط، بعنوان «الراية الحقّة: تيودور روزفلت، مارك توين، وولادة الإمبراطورية الأمريكية»، وفيه يذكّر ستيفن كينزر بأنّ معظم السجالات الأمريكية الراهنة حول موقع الولايات المتحدة إزاء العالم هي أصداء لسجالات احتدمت قبل قرن ونيف، بما في ذلك حوار السياسة والثقافة، أو البيت الأبيض والأدب على نحو أدقّ: روزفلت يدفع باتجاه التورّط الإمبريالي، وتوين يطالب بالانضباط ولجم نزعة التوسع.

كتاب ثانٍ، بعنوان «مارك توين وفرنسا: صناعة الهوية الأمريكية الجديدة»، وفيه يمزج المؤلفان، باولا هارنغتون ورونالد جين، بين السياسة، التاريخ الثقافي والنقد الأدبي، ليستكشفا كيفية لجوء توين إلى العلاقة مع فرنسا ـ عبر اللغة، والدراسة، والرحلة ـ لتشكيل ما سيسمّيه «الأمريكي التمثيلي»، حيث الهوية ليست متحركة ومتفاعلة وحيوية فحسب، بل هي أيضاً متحولة وخاضعة للتبدّلات الجوهرية.

وفي كتاب ثالث، «رجل الدولة وراوي الحكايات: جون هاي، مارك توين، ونهوض الإمبريالية الأمريكية»، يسعى مارك زونيتزر إلى تحويل الصداقة الشخصية، بين وزير خارجية (في رئاستَي وليام ماكنلي وروزفلت) وأديب روائي، إلى سيرة مشتركة لاختلاط السياسة والأدب، هنا أيضاً، على خلفية صعود الولايات المتحدة كقوّة كونية، والأزمنة العاصفة التي كشفت عن تصارع «القِيَم التأسيسية» لهذه الأمّة ـ الدولة العظمى، مع قِيَم أخرى تخصّ انقلاباتها الإمبريالية.

ولا يُنسى، في هذه السياقات وما يماثلها، أنّ الآداب الأمريكية الكلاسيكية، وخاصة في روايات هرمان ملفيل، وتوين، توفّر مادّة خصبة حول فلسفة أخرى عتيقة، تضرب بجذورها في الركائز العقائدية التي قام عليها أحد أبرز المعاني الرمزية لنشوء الولايات المتحدة الأمريكية: إنها «صهيون الجديدة»، أو «كنعان الثانية». وتلك، كما هو معروف، كانت صيغة ميتافيزيقية ـ أدبية، لا تخلو مع ذلك من روح تبشيرية إمبريالية، تكمل، أيضاً، النظرية الشعبية الأعمّ التي سادت منذ القرن الثامن عشر في مختلف المنظمات المسيحية ـ الأصولية الأمريكية، والبروتستانتية الإنجيلية بصفة خاصة.

السوريون، من جانب آخر مختلف، يحفظون لأدب توين تلك النصوص الثمينة عن سوريا عموماً، وعن دمشق بصفة خاصة، والتي ضمّها عمله «أبرياء على سفر»، أو «الأبرياء في الخارج» كما تقول الترجمة الحرفية للعنوان. وهذا كتاب صدر سنة 1869، ويصف ترحال توين في أوروبا والمشرق سنة 1867، وكان الأكثر مبيعاً بين مؤلفات توين في حياته، ويظل اليوم أيضاً بين الأكثر مبيعاً ضمن فئة أدب الرحلة.

يكتب توين عن العاصمة السورية: «تاريخ دمشق يعود إلى ما قبل إبراهيم، وهي المدينة الأقدم في العالم. أسسها عوص، حفيد نوح. تاريخها الباكر غارق في ضباب العصور القديمة التي شابت. فإذا وضعتَ جانباً الأمور المكتوبة في الفصول الأحد عشر الأولى من العهد القديم، فإنك لن تجد واقعة مسجلة جرت في العالم إلا وبلغ دمشق خبرُها. عُدْ بالذاكرة إلى الماضي الغامض أنى استطعتَ، وستجد دمشق حاضرة على الدوام. وفي كتابات كلّ قرن، طيلة أكثر من أربعة آلاف سنة، تردد اسمها وصدحت له الأغاني. السنون في ناظر دمشق محض هنيهات، والعقود مجرّد لمحات زمن متطايرة. إنها لا تقيس الزمن بالأيام والشهور والسنين، بل بالإمبراطوريات التي شهدتها تقوم، وتزدهر، وتندثر إلى خرائب».

في الفقرة ذاتها يتابع توين أنّ دمشق «ضرب من الخلود. شهدت إرساء مداميك بعلبك، وطيبة، وإفسوس، وأبصرت هذه القرى تتطوّر إلى مدن جبارة، تدهش العالم بعظمتها. وعاشت دمشق لتراها بائدة، مهجورة، متروكة للبوم والوطواط. شهدت الإمبراطورية الإسرائيلية في أوج غطرستها، كما شهدتها تُباد. شهدت بلاد الإغريق تقوم، وتزدهر طيلة ألفَيْ سنة، ثمّ تموت. وفي كهولتها أبصرت روما تُشيّد، وتهيمن على العالم بجبروتها، قبل أن تراها تفنى. لقد عاشت دمشق كلّ ما حدث على الأرض، وما تزال تحيا. لقد أطلّت على العظام النخرة لآلاف الإمبراطوريات، وستطلّ على قبور آلاف أخرى توشك على الموت. ورغم أنّ سواها يزعم حيازة اللقب، فإنّ دمشق تظلّ، بحقّ، هي المدينة الخالدة». ولا يختم توين افتتانه بالعاصمة السورية دون اقتباس الشعر: «رغم عمرك الذي من عمر التاريخ ذاته، فإنك نضرة مثل نَفَس ربيع، متفتحة مثل براعم وردك الجوريّ، عابقة مثل زهرة برتقالك، أواه يا دمشق، يا لؤلؤة الشرق!».

وعلى هدي هذا النصّ من توين، وحديث الإمبراطورية أمريكية، يقود السياق إلى «مزرعة» آل الأسد في سوريا، إذْ، مجدداً ودائماً: أية علامات في وسع طاغية صغير، مثل بشار الأسد، أن يحفرها على أسوار الشام العتيقة، سوى أنه ساد هنا هنيهة، فاستبدّ ونهب ودمّر وذبح وسلّم البلد، ثم اندحر وباد واندثر؟

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى