صبحي حديديصفحات الثقافة

ماضي الرقابة الآتي/ صبحي حديدي

منذ رحيل آرثر ميللر (1915 ـ 2005)، الكاتب المسرحي الأمريكي الكبير، يخصص فرع الولايات المتحدة لمنظمة PEN الدولية، المعنيّة بحرّيات الكتابة والكتّاب، محاضرة سنوية باسمه، تتناول محنة التعبير (سبق للروائية والكاتبة المصرية نوال السعداوي أن ألقت محاضرة العام 2009). أمّا هذه السنة، فقد شاء المنظّمون خلط حرّية الرأي بنواهي القانون، فاستضافوا سونيا سوتومايور، عضو المحكمة العليا للولايات المتحدة الأمريكية؛ فشاءت، بدورها، أن تتحدّث عن الرقابة والرقابة الذاتية، وكيف تبدّل مفهوم الحرّية طبقاً لتبدّل الظروف.

والحال أنّ المحاضرة ليست أقلّ من مناسبة سنوية للتذكير بما تعرّض له ميللر نفسه من رقابة، بصدد مسرحية “المحنة”، التي قد تكون أهمّ أعماله، وأخطرها أيضاً؛ والتي تدور حول المحاكمات الشهيرة لساحرات بلدة سالم الأمريكية، أواخر القرن السابع عشر. إلا أنّ دلالات النصّ كانت تشير إلى أمريكا الحديثة، وصيد السحرة الذي مارسته “لجنة النشاطات المعادية لأمريكا”، التي دشّنت فجر الـ “مكارثية” بوصفها أسوأ استبداد ثقافي وفكري عرفته الولايات المتحدة على امتداد تاريخها. ففي عام 1947 انضمّ ميللر إلى لائحة 320 من العاملين في مختلف اختصاصات “صناعة التسلية”، حسب التعبير الذي يفرده القاموس الأمريكي لأعمال المسرح والسينما والغناء والأوبرا وسواها من الفنون، مُنعوا من العمل بقرار من اللجنة تلك.

إلي جانب ميللر توفّرت أسماء عدد كبير من خيرة كتّاب وفنّاني الولايات المتحدة آنذاك: ريشارد رايت، جوزيف لوزي، بول روبسون، ليليان هيلمان، داشيل هاميت، كليفورد أوديتس، لويس أنترمير، وسواهم. وذنب هؤلاء كان مزدوجاً: أنهم ينتمون بهذا الشكل أو ذاك إلى تيّارات اليسار، ويُشتبه تالياً بانتمائهم إلى الحزب الشيوعي؛ وأنهم رفضوا ممارسة الدسيسة على زملائهم، والإدلاء بمعلومات عنهم إلى اللجنة. وفي كتاب السيرة الذاتية الذي أصدره سنة 1987 بعنوان “على مرّ الأيام: حياة”، يروي ميللر تفاصيل مثيرة عن تلك الحقبة، لعلّ أشدّها تأثيراً في النفس ليس صموده هو شخصياً أمام اللجنة، بل انهيار صديقه المخرج المسرحي والسينمائي الكبير إيليا كازان.

وكان كازان قد أطلق أوّل أمجاد ميللر حين أخرج “كلّهم أبنائي” في العام ذاته، 1947، وأتبعها بإخراج “موت بائع جوّال”، ثمّ مسرحية تنيسي وليامز الأشهر “عربة اسمها اللذة”. وميللر، على نحو يمزج بين التعاطف مع الرجل والسخط الشديد على مؤسسة الكونغرس، يصف وقوع كازان في حيرة بين مواصلة مساره الفنّي والاعتراف على زملائه، أو التزام الصمت والاعتكاف بعيداً عن هوليود: “أصابني فزع شديد وأنا أصغي إليه. كان ثمة منطق قاتم في ما كان يقوله: إذا لم تُبرّأ صفحته فإنه لن يأمل أبداً، وهو في ذروة طاقاته الإبداعية، في إنجاز فيلم آخر في أمريكا، والأرجح أنه لن يُمنح جواز سفر للعمل في الخارج”.

والحال أنّ لجنة الكونغرس، تلك، شُكّلت للتحقيق في النشاطات المعادية لأمريكا داخل صفوف أتباع اليسار وأتباع اليمين على حدّ سواء، ولكنها انتهت إلى استثناء المجموعة الثانية تماماً ونهائياً، واقتصرت محاكم التفتيش على أهل اليسار وحدهم. كان مطلوباً من اللجنة أن تحقق مع المنظمة العنصرية الشهيرة “كو كلوكس كلان”، إلا أنّ رئيس اللجنة نفسه، مارتن دايز، كان صديقاً مقرّباً من المنظمة ومتعاطفاً معها وخطيباً في اجتماعاتها؛ وعضو اللجنة، جون رانكين، اعتبرها “مؤسسة أمريكية عريقة في نهاية الأمر”!

تغيّرت أحوال الرقابة في أمريكا المعاصرة، بالطبع، ولم يكن التغيير سنّة الحياة فقط، بل كان محتوماً أيضاً؛ ولكن ليس إلى درجة تتيح اعتبار كابوس الرقابة، من الطراز الذي تربص بأدب ميللر على أقلّ تقدير، نسياً منسياً تماماً. هكذا قالت محاضرة سوتومايور، في نهاية المطاف، وفي خلاصاتها العملية. وهكذا يقول تقرير صدر قبل أيام عن فرع منظمة Pen، الأمريكي ذاته، يفيد بأنّ واحداً من كلّ ستة كتّاب في أمريكا قام بالفعل بمراقبة كتابته، طواعية؛ متأثراً بافتضاح طرائق “وكالة الأمن الوطنية”، في التجسس على المواطنين.

ثمة صيد للسحرة يتواصل، إذاً، بأنماط جديدة ومتجددة؛ أو على تلك الوتيرة العتيقة الشهيرة، التي تجعل ماضي الأيام… آتياً، لا ريب فيه.

موقع 24

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى