خولة دنياصفحات سورية

ما أصعب أن تحب سورية…!!!

 


خولة دنيا

استعير عنواني من جملة قرأتها في آخر زيارة لي لطرطوس “بتصرف”، كانت الجملة  الأكثر إدهاشاً لي مما أقرأه على جدران البيوت أو المدارس خصوصاً، عادة ما نقرأ (A+D = LOVE) أو (أحمد +ريما = حب للأبد)… الخ من جمل المراهقين..

هذه المرة وقفت مندهشة يالها من جملة (ما أصعب أن تحب سها!!) كانت تعني العشق والوله في آن معاً، كانت جملةً معبرةً وفريدة من نوعها بالنسبة لي..

حينها قلت لنفسي ما أجمله من عنوان لقصة قصيرة أنسج تفاصيلها كما أريد، أتخيل الحب الذي أريد، وأتوِجّهُ بهذه الجملة المدهشة.

الآن لا أرى حباً يماثل ذاك الحب، والوله والعشق، وغيره من تدرجات أتحفنا بها تراثنا العربي الرائع من أوصاف لمراحل الحب.. لا أجمل من الحب الذي نحمله لهذا البلد الذي اسمه سورية.. فقررت أن أهدي إليها جملة ذاك العاشق الولهان لأنني لست أقل منه ولهاً  بسهاي التي اسمها سورية..

منذ الصغر كانت تعني لي أكثر من بلد.. كانت شبكة حب.. أحاطتني في حارتي الضيقة في دمشق من جيراني الشوام الرائعين، وأتاحت لي اللعب لسنوات متقدمة في باحة ذاك البيت الرائع بحديقته وشجرة نارنجه التي كنت اعتبرها شجرتي فقد زرعت سنة ولادتي فكنت أتعمشق عليها وأستغرب لماذا تتسارع بالكبر تاركةً إياي أبدو صغيرة وضئيلة هكذا، ولكن غايتي من العمشقة وقطف ثمارها التي أثمرت قبل أن أثمر أنا نضجاً، كانت كافية أن تنسيني مع طعم النارنج المائل بين الحموضة والمرار، أسئلتي الغبية تلك.

وعلى الرغم من انتقالي بعدها لأعيش بين طائفة أخرى مختلفة (المسيحية)، غير أنني لم أزداد إلا حباً لسورياي، مع ليندا وجول وطرفة وأديل وغيرهم من الأصدقاء.. كنت أتلمس نوعها آخر من المعرفة والحب.. شاركت فيها بطقوس الكنسية.. وكنت افرح وأنا أرى الخوري يدخل بيتنا صباح العيد ليرشه بالماء المقدس، ونحن الصغار نضع (الفراطة) التي تعطينا إياها أمي في سطل حديدي صغير مع طفل يرافقه.. حينها تعودت أن أزور الكنيسة وأحضر دروس الدين المسيحية، وأناقش أستاذ الديانة الإسلامية في كل جملة يقولها.. وأظن بعقلي الطفولي أنها مناقضة لما سمعته في درس الديانة الأخر. كان الله  واحداً فلماذا يختلف من كتاب إلى آخر..!!

في تلك السنوات رأيت الأطفال الجدد الذين زاروا مدرستنا لفترة قصيرة أثناء أحداث حماه.. وحينها تساءلت أين الآنسة سحر والآنسة حنان اللواتي كن يأتين من حماه لتدريسنا في صفوف الابتدائي؟.. كانت سنوات الوعي المختلف.. وبداية اكتشاف الآخر.. غير أن ذاك الآخر كان جميلاً، محباً.. يملأ حياتي بالسعادة.. يلعب معي.. ويدرس معي.. ويزور بيتي وأزور بيته.. كان الآخر تجسيداً لسورياي الحبيبة نفسها.. وعندما أقلب دفاتر ذكريات الطفولة لأرى ما كتبته إنصاف، أو أميمة أو صفوان.. أعلم كم كنت أحبهم كلهم (أشة لفة) كما يقال….

ذاك البيت الدمشقي نفسه عدت إليه في سنوات الصبا وأثناء دراستي الجامعية، لأنخرط في هموم سوريايَ الحبيبة تلك.. فكان البيت الذي قطفت فيه أول قبلة من حبيب أشعرني بالحزن وهو يولي الأدبار وراء حلمٍ مختلف، كما كان ذاك البيت الذي شعرت فيه لأول مرة بالحب الجارف تجاه مناضلٍ كنت أحلم بلقيا مثله فصببت عليه كل ما أملكه من مشاعر مخلوطة بالرغبة والوطن والعمل السياسي، غير أنه كسابقه اختار أن يولي الأدبار تاركةً إياي على حواف الحلم أعالج مأساتي العشقية  لوحدي..

جميلة تلك الأيام، ولكن الأجمل فيها كان سورية، هذه الحبيبة التي بدأت تحتل ماخلفته المراهقة من حبٍ جارف لفلسطين، حينها بدأت أشعر بالحب تجاه كل الكائنات الرائعة المحيطة بي، كما تجاه الأزقة والحارات والشوارع الفسيحة، والجوامع والكنائس، والمتاحف والأصدقاء الذين يشاركوني الحلم… كانت فترة التعرف على سورياي هذه.. والوله بها..

لم أترك شارعاً يعتب علي، ولا زقاق..، ولا رغيفاً سخناً، ولا منقوشة زعتر، كلها كانت ترافقني في تجوالي.. وعندما التقيت بجلال كان (جلال + سورية = حب للأبد) رافقني في مشوار استمر لعشرين عاماً.. لم يخلو من الهجر والترك.. والابتعاد والاقتراب.. والخلاف (السياسي عموماً!) وعشق هنا وتجربة حب فاشلة هناك.. لكن ماحملته تجاهه كان يشبه ما أحمله تجاه سورياي هذه.. فما أصعب أن تحب جلال..!! كما ما أصعب أن تحب سورية..

جلالي كان من طائفة مختلفة، وعلى الرغم من أني ولا ليوم واحد فكرت بهذا الموضوع، إلا أنه كان عائقاً من نوع خاص، أمام الأهل على الأقل، أهلي وأهله..

وعندما تزوجنا كان زواجنا خاصاً وفريداً من نوعه.. اكتفينا فيه بعزيمة الأهل والأصدقاء أن تعالوا لنحتفل فلقد قررنا الزواج.. .. هكذا بكل بساطة.. كما هي بساطة الحب من أول نظرة أو بساطة اللقاء بشخص ترتاح لوجودك معه. وما كان من الآخرين إلا أن جاءوا..

عندما تزوجنا كان المهر أن نبقى نحب سورية .. ربما، فقد كان الشخص الوحيد الذي أشعرني بأني يمكن أن أعيشه دهراً.. وان أموت بقربه مطمئنة إلى أنني لم أضيع لحظة في حياتي دون جدوى..

كان خياره بحبي يساوي خياره بحب سورية، كما كان خياري بحبه يساوي خياري بحب سورياي..

كيف؟.. سأقول لكم..

سورية كانت الحلم، والحلم هو وطن حر.. والحرية تبدأ بنا نحن صانعيها ومكرسيها، في حبنا كنا أحراراً حتى آخر قطرة دم في عروقنا.. حرية لم أكن أجسر على الانتقاص منها لديه ولم يكن يجسر على الانتقاص منها لدي.. كان الصديق والرفيق قبل أن يكون الزوج… بالأحرى بقي الصديق والرفيق والحبيب.. ولم يقترب كثيراً من كونه الزوج..

كان بإمكان كل منا أن يحلق مايحلو له التحليق، ويبتعد في سماء مليئة بالمفاجآت ما رغب بذلك، ليعود وهو العارف أن العش بانتظاره..

عشي كان ذراعين حبيبتين، لم أجسر يوماً على التفكير أنهما لن تحتضناني.

كان يقدمني للأصدقاء بكلمتين فقط: حبيبتي وصديقتي.. وأنا كنت أمزح وأقول: وزوجته كذلك..

بعد عشر سنوات وحتى في يوم اعتقاله كان حبيباً وصديقاً، كنت أخشى عليه وهو كان يخشى عليَّ.

جلالي كان لا يتذمر من تذمري وأنا أشكو ابتعاده عني، أو اهتمامه بأصدقائه أحياناً أكثر مني، كان يحاول ابتداع الطرق الجديدة للاستمرار في علاقة تراوح في مكانها حيناً، وتتراجع حيناً.. وتتوهج في أحيان كثيرة..

لم أكن أغار من سورياه، ولم يكن يغار من سورياي، كان عشقنا المشترك..

وكما استمر حبي لها طوال حياتي، دفع هو ثمن حبه لها مرة تلو أخرى.. اعتقالات طويلة الأمد.. عمل سياسي.. منع سفر لم يزل عنه حتى اليوم.. مراجعات أمنية.. لحظات ضعف شخصية دفع ثمنها من سنواته وأعصابه وتفكيره.. ولكنه كان يعود قوياً متمسكاً بحبه لها.

كانت سورية قاسمنا المشترك كما حبنا…

في هذه الأيام الثلاثة، وفي كل مرة أرى على التلفاز لحظات اعتقاله من الشارع وهو يغني (حماة الديار عليكم سلام….) وأرى كيف يُدفع به في سيارة الأمن بهمجية.. تترقرق دمعة .. لا ادري لماذا.. فقد كنت أعلم أن هذه اللحظة قادمة ولابد.. إن بالنسبة لي أو بالنسبة له..

نعم هي كانت قادمة.. ولكنها اختارته أولاً…

علمه بقدومها لم يمنعه عن الاستمرار في التحليق وراء حلمه.. حلمه الخاص (سورية الحرة كما داخله الحر)

وعلمي بقدومها كذلك لم يمنعني من التحليق الدائم وراء حلمي الخاص (سورية الحرة كما داخلي الحر..)

ما أصعب أن تكون حراً في بلد مكبل بالسلاسل..

وما أصعب أن تحب رجلاً حراً أو امرأة حرة بينما القيود تكبل الكلمة والصوت والأيادي…

ما أصعب أن تحب جلال

وما أصعب أن أحبك يا سورياي….!!

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى