صفحات سوريةعمر كوش

ما الذي يقف وراء مستحيل لافروف؟

 

عمر كوش

تصريحات وزير الخارجية الروسي، سيرغي لافروف، حول استحالة رحيل بشار الأسد، يمكن أن تفهم على أكثر من صعيد، حيث يمكن، أولاً، إدراجها في سياق المفاوضات التي تجريها الولايات المتحدة الأميركية وروسيا بخصوص تفسيرات “اتفاق جنيف”، وتصورات ساستها للحل في سوريا. ويمكن، ثانياً، فهمها على أنها تعكس الرغبة الروسية في بقاء الأسد ونظامه في السلطة، من دون الاكتراث لمطالب الثائرين ولدماء السوريين. كما يمكن أن تفهم على أنها تدخل في سياق تصلب الموقف الروسي، وعدائه للثورة السورية ولسائر الثورات العربية.

ولا شك في أن الوزير لافروف يعي أن المستحيل في أكثر من لغة إنسانية حيّة، يحمل معنى اللا ممكن والممكن في الوقت نفسه، والاستحالة تحمل أيضاً معنى التحول، إذ مع استمرار نفاد الوقت أمام النظام سيستحيل الموقف الروسي، أي سيتحول من حال إلى حال، كما حصل من قبل لهذا الموقف في أكثر من مناسبة، وحيال أكثر من أزمة دولية، ولم يصب أصحاب الموقف المتحول ومنهم السيد لافروف نفسه – بالحرج في اللجوء إلى الحجج الواهية والكذب المكشوف واللف والدوران، كي يبرروا موقفهم الجديد.

غير أن اللافت هو ان السيد لافروف بات يتحدث في الشأن السوري، وكأنه الناطق الرسمي باسم النظام، وينسى أنه يتحدث باسم دولة “عظمى”، بل، ويزاود على مقولات رموز النظام وأزلامه، ويردد أكاذيبهم ويتخيل مستحيلاتهم، فبالنسبة إليه كان من المستحيل أن يتحرك سوريون مطالبين بالكرامة والحرية، أو أن يجرأ أحدهم منهم على كسر حاجز الخوف، الذي أسهم أسلافه من الساسة في مساعدة النظام على بنائه. وكان مستحيل أيضاً أن يصمدوا طوال أكثر من اثنين وعشرين شهراً في مواجهة الحرب الشاملة التي يشنها النظام ضدهم، بالرغم من وحشية الانتهاكات وتعدد المجازر والجرائم. لكن الثوار السوريين سخروا من لافروف ومن تصلبه الخشبي، وحولوا مستحيلاته إلى ممكنات.

وقد كشف تعامل الساسة الروس وقادتهم مع الوضع في سوريا، تركيبة العقل السياسي المتحكم فيهم، وطبيعة النهج المخاتل الذي اتبعوه في معاداة الثورة السورية، والدعم الهائل للنظام السوري، قرين نظامهم وشبيهه في النهج والممارسة والتوجهات. وكشف كذلك حجم التورط والتورّم الذي أصابهم، كي يحافظوا على نظام دخل في دائرة بركان ثائر، لن تهدأ حممه إلا بإسقاط أصحاب كافة رموزه ومكوناته.

ولعل أي زائر لروسيا سيكتشف فوراً أوجه التماثل بين النظام الروسي والنظام السوري، إذ فور وصوله الى المطار، سيفاجأ بنظرات رجال الأمن المريبة نفسها حياله، والمعاملة ذاتها، وطرق الرشوة، وغرف الأمن السرية، وسوى ذلك. والأمر يعود إلى سنوات مديدة من التعاون الأمني الاستخباراتي ما بين روسيا ونظام الأسد الأب ثم الابن، فضلاً عن التعاون العسكري، والدعم والاسناد، وتبادل المصالح ما بين المافيات الحاكمة في البلدين.

غير أن الأهم هو أن العقلية السياسية المتحكمة بالساسة الروس، لا تختلف كثيراً عن عقلية طغمة النظام السوري، إذ الهاجس الأساسي الذي يسكن أذهانهم هو البقاء في الحكم إلى الأبد، لذلك تتشابه الممارسات، وتختلف درجتها وشكليتها، من حيث ان النظام الروسي دخل في لعبة ديموقراطية، لا تحقق هدف الديموقراطية في تداول السلطة، بل تدخلها في لعبة تبادل الأدوار على كرسي الرئاسة الروسية ورئاسة الوزراء بين كل من فلاديمير بوتين وديمتري ميدفيديف، مع بقاء الحزب الحاكم “روسيا الموحدة” في السلطة إلى أجل غير محدد. واللاعب الأساس هو الرئيس الروسي الحالي فلاديمير بوتين، الذي دخل في هذه اللعبة، نظراً لأن الدستور الروسي لا يسمح له بثلاث ولايات متتالية. بينما عملياً يمكن لبوتين أن يرشح نفسه من جديد للانتخابات الرئاسية المقبلة في عام 2018، وأن يبقى في السلطة حتى عام 2024.

ويسوّق الساسة الروس لعبة تبادل الأدوار، بتفضيل القيادة الروسية الحاكمة الاستقرار على أي شيء آخر، سواء كان ذلك في بلدها، أو في أي بلد آخر، لذلك يجري تبرير فكرة مستحيل لافروف، الذي يستند على مقولة استحالة تغيير الأنظمة بالقوة، أو من الخارج، لذلك يركن الروس إلى الاستثمار الذي تقدمه تحالفاتهم وعلاقاتهم مع الأنظمة العربية المتقادمة، بالرغم من الإشارات الخجولة إلى مطالب الشعوب المحقة. لكن الواقع هو أن دوافع وحيثيات مستحيل لافروف، ترجع إلى أمور عدة، منها تخوف روسيا من تأثر وضعها الداخلي برياح التغيير الديموقراطي التي تجتاح المنطقة العربية، ومن إرهاصاتها على دول الاتحاد الروسي، وعلى مستقبل دول آسيا الوسطى، وبخاصة الدول الحليفة لها، مثل أذربيجان وكازاخستان وطاجيكستان وبيلاروسيا.

ويبدو أن عقلية الساسة الروس جعلتهم يعتبرون أنفسهم خاسرين، استراتيجياً واقتصادياً، بسبب مواقفهم المشككة والمريبة من التحولات التي أحدثتها الثورات العربية في كل من تونس ومصر وليبيا واليمن، وربطوا ما يجري في سوريا بالتهديد المباشر الذي يأتيهم من نشر رادارات الدرع الصاروخية في تركيا، إضافة الى خوفهم من خسارة ما يتوفر لأسطولهم البحري في ميناء طرطوس، بوصفه الموقع الاستراتيجي المميز على الشواطئ السورية، ما يُمكّنهم من التواجد في مياه البحر الأبيض المتوسط. وهنالك اعتقاد في الأوساط السياسية الروسية، يفيد بأن حمايتهم للنظام السوري، يمكن أن توفر حضوراً روسياً قوياً في مختلف ملفات الشرق الأوسط، وفي التسويات التي يمكن أن تحصل في المستقبل بخصوص إيران وملفها النووي، بل ويمكن أن يشكل سابقة يمكن البناء عليها مع إيران والعراق ولبنان، ضمن سياسة بناء حلف جديد في المنطقة، تكون روسيا محوره الأساس والفاعل.

كان الأجدى بالساسة الروس أن يحسبوا بدقة ارتدادات وإرهاصات معركة دعمهم للنظام السوري على حياة الشعب السوري، لا أن يقفوا ضد ثورته، لأن الشعب باق ومستمر في الطريق الذي اختاره، مهما ارتكب النظام من فظائع وأعمال وحشية، والنظام راحل آجلاً أم عاجلاً، أياً كان داعموه، من روس وإيرانيين وصينيين وسواهم. لكن يبدو أن ما يسمى المجتمع الدولي متواطئ معهم، أو على الأقل أعطاهم الضوء الأخضر كي يتصلبوا في مواقفهم، بالنظر إلى أن القوى الغربية الفاعلة لا تريد لثورة الشعب السوري أن تبلغ مرادها وفق مطامحه وآماله، بل تريد أن تجهض ثورته من خلال حل سياسي، هو أقرب إلى صفقة دولية، يجري وضع لمساتها وخطوطها العريضة بين اللاعبين الكبار، الذين اجتمعوا في جنيف، ثم في دبلن، وعادوا من جديد إلى جنيف، كي يشركوا الأخضر الإبراهيمي معهم، بعد أن أطلق تهديده للسوريين بالجحيم الذي ينتظرهم، ووعيده بمئة ألف شهيد جديد، إذا لم يقبلوا بحل غامض، يبعدهم عن تحقيق مرادهم، ويبقي قتلتهم في أمكنتهم، دون حساب أو عقاب.

والواضح أن تضخيم الكلام عن ما يتضمنه “اتفاق جنيف” – وهو ليس باتفاق والحديث عن “جنيف2″، يراد منهما فرض حلّ غامض على السوريين، انبرى لتسويقه الأخضر الإبراهيمي، من خلال الحديث عن “حكومة بصلاحيات كاملة”، وأن ذلك لن يتم إلا من خلال “حوار سياسي”، مع أن النظام أغلق كل أبواب الحوار منذ بداية الثورة السورية، وراح يمعن في حرب شاملة ومدمرة ضد الثورة وحاضنتها الاجتماعية. وجاء خطاب رأس النظام الأخير ليؤكد استمرار إغلاقه للمجال السياسي، واستمرار الحرب الشاملة، والتغوّل في القتل والتدمير.

والمفارق في الأمر أن كلاً من النظام السوري والقادة الروس والأميركيين يراهنون على إجهاض الثورة السورية، وعلى نكوص واستسلام قواها، لكن الثورة السورية هي ثورة غير قابلة للإجهاض، بالنظر إلى الإصرار والعزيمة المنقطعة النظير لناسها، والاستعداد لتقديم التضحيات، خصوصاً أنها تواجه نظاماً فقد جميع مبررات استمراره، وعليه الرحيل آجلاً أم عاجلاً.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى