صفحات الرأي

ما الذي يمنع انتقاد الإسلام؟/ أنس الحوراني

 

 

ترجمة: ياسر الزيات

جرت1 العادة أن يسارع أغلب المسلمين، ما إن يتعرض الإسلام للنقد، إلى توضيح أن هذا النقد مغلوط أو لا أساس له من الصحة. كان التكتيك المتّبع، وما يزال، هو الزعم أن النقد الموجه إلى الإسلام ينطوي على سوء فهم أو إساءة تفسير لعناصر «الإسلام الحقيقي»، والذي بقي على الدوام شيئاً غامضاً، بل عدة أشياء متناقضة. غير أن هذا التكتيك الدفاعي تكرّر وتكرّر حتى أصبح جملة مبتذلة أشبه بعلامة ثقافية تميّز البلدان ذات الأغلبية المسلمة. كان هذا التكتيك –في أحسن حالاته– مفيداً في مكافحة الإسلاموفوبيا والاستعداد المشترك لدى المستشرقين والرجعيين للخلط بين الدين الإسلامي والإرهاب المنظم، غير أنه –في أسوأ حالاته– تحول إلى أداة بيد مختلف المؤسسات الدينية في البلدان ذات الأغلبية المسلمة لإسكات أي شكل من أشكال النقد. مع صعود التطرف الإسلامي والتطرف المعادي للإسلام في الآونة الأخيرة، برز سؤالان يحظيان اليوم بأهمية شديدة: ما الذي يمنع انتقاد الإسلام؟ وكيف يمكن انتقاد الإسلام؟

للإجابة على أول سؤال، علينا أولاً تعريف الإسلام. هذا التكتيك أقل شيوعاً بين المدافعين عن الإسلام، فمن شبه المستحيل تعريف أي دين. ولكن ما هو الإسلام على أية حال؟ يمكن القول إنه نظام صُنع معنى، يتكوّن من مرجع مركزي أو نص أساسي، ومن عدد من السلوكيات والممارسات التي تحمل توقيعه. هذا التعريف العام محدود بالطبع، ويصلح أساساً لتعريف الديانات الإبراهيمية.

ومع ذلك، من شأن نظرة فاحصة على التعريف العام المذكور أعلاه أن تكشف عن سمة هامة أخرى للدين: اللامركزية.

الإسلام حالة نموذجية لفهم لامركزية الأديان. إذا اعتبرنا القرآن المرجع المركزي أو النص الأساسي للإسلام، نجد أنفسنا أمام سؤالين. الأول هو: أي تفسير أو فهم للقرآن نقصد؟ بعض كبرى نقاط الخلاف بين جذعَي الشجرة الإسلامية، السنّي والشيعي، تعود إلى اختلافات في فهم أو تفسير النص القرآني – غنيّ عن القول إن كلا الجذعين يقرأ ويدرس مادياً النص نفسه. تفاوت الفهم والتفسير أمر ملازم لأي نص، ناهيك عن النص الديني. أما السؤال الواجب الثاني فهو: هل ينبغي اعتبار القرآن النص المركزي المطلق في الإسلام؟ لا يمكن فصل هذه المركزية عن هيمنة الجذع السني، لأن القرآن ليس النص المركزي لدى معظم الطوائف الإسلامية الصغيرة؛ نبذ هذه الطوائف أثناء مناقشة الشأن الإسلامي غير مقبول ببساطة.

وبمجرد أن نطرح القرآن كمرجع مركزي أو نص أساسي، نجد أنفسنا أمام عدد لا يحصى من المصادر المتعلقة باللاهوت والممارسات والشرائع الإسلامية، والتي تختلف من طائفة إلى أخرى. وبمجرد أن نفهم أن هذا الشيء قابل للتطبيق على أي دين آخر، تتكشّف لنا لامركزية البنية الدينية. الإسلام هو النقطة المرجعية لجميع الجذوع والطوائف المتصلة به، والمحتفظة جميعاً بفرادتها واختلافاتها عن بعضها بعضاً.

لكي نفهم هذا تماماً، علينا أن نتذكر أن في جذر كل دين نواة فردانية. تاريخياً، ظهر الدين كمجموعة من المعتقدات التي تسعى لاستقصاء العالم وتفسيره وانتزاع المعنى منه – أما تطوير سلوكيات وممارسات جمعية حوله فقد حدث لاحقاً. هذه النواة الفردانية هي ما يمنح الدين لامركزيته، وهي ما يعطي الأفراد، بغض النظر عن اختلاف معتقداتهم، استحقاقاتهم الإيمانية الخاصة بهم ضمن هذا الدين أو ذاك.

غير أن ظهور المجتمعات الطبقية في الحضارات المبكرة سرّع ترتيب الأديان هرمياً ومأسستها بيروقراطياً. أقصد أن كل دين –وكل جذع ديني، كل طائفة، إلخ– طوّر هيئة تمثيلية أو مؤسسة أو كنيسة رسمية، مع وجود تسلسل هرمي واضح وجهاز بيروقراطي معقّد. وما إن تطوّرت هذه الهيئات، بدأ توسّل الجانب الجمعي للدين بهدف السلطة، وجرى وضع سياسات «إلهية». وهكذا تمايزَ الدين كمنظومة معتقدات شخصية عن الدين كعقيدة جمعية، ولم يتغير هذا الأمر منذ ذلك الحين تقريباً.

ويتفاوت شكل ومستوى ترتيب ومأسسة كل دين بشكل كبير تبعاً لمجموعة من العوامل الاجتماعية-الاقتصادية والتاريخية. في المسيحية الكاثوليكية مثلاً، نتج عن الترتيب والمأسسة نظام بابوي وهرمية ضخمة تابعة للكنيسة الكاثوليكية، بينما نتج عنهما في الإسلام السني مشروع الخلافة وهرمية المرجعيات السنية.

إلا أن مشروع الخلافة لم يكن أبدا مشروعاً دينياً فقط، ولم يكن للمرجعيات السنية أية مركزية على الإطلاق، ولم يكن لأي منها في أي يوم ما يعادل نظاماً بابوياً عابراً للحدود. يبدو أن السلطة الدينية السنية هي في الواقع مجموع العُقَد التي تربط بين سلطات دينية محلية لامركزية (كالمدارس أو المساجد المحلية مثلاً). حتى الآن، أقرب شيء إلى السلطة الإسلامية السنية المركزية العابرة للحدود جامعات الأزهر والمدينة والمصطفى، علماً أنها ما تزال محدودة النفوذ الديني والانتشار الجغرافي.

إن غياب المركز في الإسلام السني مجرد مثال توضيحي، وهو يساعد على فهم عدم تعرّض الإسلام برمته للنقد طوال التاريخ. في عصر التنوير في الغرب، كان هناك مرمى واضح لنيران الأصوات الناقدة لنفوذ المسيحية داخل الدولة، ولقيمها وممارساتها ومعتقداتها: الكنيسة، تلك المؤسسة الدينية المركزية العابرة للحدود – حتى الكتاب المقدس الذي وجّهت له تلك الأصوات سهام النقد كان الكتاب المقدس كما تفهمه هذه الكنيسة. وقد أسّست هذه الأصوات الناقدة تقاليد لم ينشأ ما يعادلها في البلدان ذات الأغلبية المسلمة. يعزى ذلك أساساً إلى غياب أية مؤسسة دينية مركزية عابرة للحدود يمكن تصويب النيران عليها.

منذ بداية الحلم بالخلافة في البلدان ذات الأغلبية المسلمة، استفادت عُقَد السلطات الدينية المحلية من الخلط بين الدين كمنظومة معتقدات شخصية والدين كعقيدة جمعية. وقد أتاح لهم هذا الخلط مزاعم تمثيل الإسلام، وتأطير أي نقد موجّه إليهم على أنه انتقاد يستهدف الإسلام نفسه. خلق هذا الخلط أيضاً وهماً بأن الإسلام كيان متجانس. لم يكن هذا الخلط شائعاً في البلدان ذات الأغلبية المسلمة فحسب، فالتاريخ يعلّمنا أن أية مؤسسة دينية تتمتّع بعلاقات مع الدولة ستستخدم هذه العلاقات للتصدّي للانتقادات.

في حالة الإسلام، استغل المستشرقون وكارهو الإسلام هذا الخلط منذ بداية انتشار الدين هناك. عندما ذكر رئيس الوزراء الهنغاري فيكتور أوربان عام 2015 أن الإسلام «كتاب قوانين يصلح لعالم آخر» كان يتذرع بالتجانس الوهمي إياه الذي ينجم عن ذلك الخلط.

هذا كله يجعل من انتقاد الدين مهمة شاقّة. لكن لا ينبغي أن نمتنع عن انتقاد الدين فقط بسبب غياب المركزية وغياب التجانس. علينا بدل الامتناع أن نفكّر بدقة أكبر، وأن نتحلّى بالمزيد من الصرامة والوضوح لإنتاج نقد أكثر مسؤولية. علينا أيضاً إبداء المزيد من الحساسية والتعاطف في شكوكنا واستفساراتنا؛ أن نسأل أنفسنا مثلاً: أي عنصر من أي جذع أو طائفة من هذا الدين ننتقد الآن؟ وهل نقوم بخلط عنصر ما مع عقدة سلطة محلية تدعي أنها تمثل الدين؟ وإذا كان نقدنا يستهدف سلطة دينية أو مؤسسة دينية ما، علينا أن نسأل أشياء من قبيل: ما هو السلوك أو منظومة السلوكيات التي ننتقدها بالضبط؟ وكيف يرتبط هذا السلوك أو منظومة السلوكيات مع جذع أو طائفة الدين الذي نتحدث عنه؟

إن فك التشابك بين الدين والسلطة الدينية قد يصعّب قليلاً الحديث عن الدين، لكنه ضروري من أجل نقد سليم ونزيه. دون ذلك، ستظل المؤسسات الدينية تمثل الأديان وتدّعي تجانسها، وسيظل كارهو الإسلام وكارهو الأجانب يظلمون مختلف المؤمنين ويعادونهم، وسيظل العالم مكاناً أقتم وأضيق علينا جميعاً.

موقع الجمهورية

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى