صفحات سوريةمصطفى كركوتي

ما بديل أوباما لاستبعاد الحلول العسكريّة؟ /مصطفى كركوتي

 

لا توقعات غير ما نراه حتى الآن في السياسة الأميركية إزاء قضيتي سورية وأوكرانيا. فما دامت العلاقات مع إيران روحاني تشهد تقدماً، على رغم توسع حقول الموت في أرجاء كبيرة في سورية، وما دام الموقف إزاء روسيا بوتين لا يتعدى حدود الصراخ، على رغم ما يجري على الأرض من إجراءات توحي بتوسع روسي في أوكرانيا، فلا رهان على تغيير مهم في سياسة واشنطن.

ففي لقاءات المسؤولين الأميركيين الأخيرة مع ممثل المعارضة السورية أحمد الجربا، لم يبد أحد أي إشارة إلى تصعيد الموقف إزاء حكومة بشار الأسد عسكرياً، وواضح أن هذا هو الحال إزاء الوضع في أوكرانيا، منذ جولة باراك أوباما الأخيرة في أوروبا التي أحيت في عواصم أوروبية رئيسية النقاش، ليس فقط بشأن الحالة العامة للعلاقات عبر الأطلسي، ولكن أيضاً، وهذا الأهم، حول مسائل حيوية إستراتيجية تمس مباشرة الهوية الأوروبية والاستقرار في أوروبا وعلاقتها بجوارها الشرق أوسطي.

وكانت لتلك الجولة، وبخاصة جزءها البلجيكي، رمزيتها المهمة، إذ أنها زيارة بروكسيل الأولى لأوباما كرئيس أميركي، إضافة إلى أنها المقعد الدائم لكل من «الناتو» والاتحاد الأوروبي. فقد ألقى الرئيس الأميركي أمام ألفين من طلبة أوروبا الشباب في صالة الفنون في وسط بروكسيل، خطاباً اعتُبِر الأهم لرئيس أميركي منذ خطاب بيل كلنتون في شأن أزمة كوسوفو عام 1999. فإدارة كلنتون كانت مترددة في مسألة التدخل عندما بدأت الأزمة عام 1998، إذ خاض الحرب طرفان هما: قوات الفيديرالية اليوغوسلافية في مسعى لابقاء كوسوفو ضمن أراضي صربيا في مواجهة مقاتلي كوسوفو الألبان أو ما عُرف آنذاك باسم جيش تحرير كوسوفو. وما كان لتلك الحرب أن تنتهي بسرعة لولا تدخل مباشر من «الناتو» لمصلحة جيش التحرير في حزيران (يونيو) 1999.

وبمناسبة الذكرى المئوية للحرب العالمية الأولى هذا العام، حرص أوباما على تذكير مستمعيه ببعض دروس التاريخ الناسجة للعلاقات الأميركية-الأوروبية. وكانت أوكرانيا وفلاديمير بوتين الموضوعة الوحيدة في جولة أوباما الأوروبية إذ لم يأتِ على ذكر الحرب والموت في سورية على الاطلاق.

على عكس سابِقَيْه كلينتون في كوسوفو، وجورج دبليو بوش في أفغانستان عام 2001 والعراق في 2003 وإعلان الأخير «الحرب على الإرهاب»، فإن أوباما تناول الأزمة الأوكرانية برخاوة لا نظير لها عاكساً بذلك واقع العالم السياسي الراهن كما تراه إدارته. وقال: «يجب أن لا ننسى أننا ورثة المناضلين من أجل الحرية» ولكن يجب أن ندرك أنه «لا حل عسكرياً لها ولا يوجد حل سهل لها في الأساس». وأكد أنه «علينا أن نواجه التحدي لِمُثُلِنا ونظامنا العالمي نفسه بقوة واعتقاد صلب».

صحيح أن الولايات المتحدة تبقى القوة الكبرى الوحيدة في عالم اليوم ولكنها لم تعد تلك القوة التي ترد على أي تحدٍ بالسلاح من دون شروط معقدة. فهذا واضح في حالة سورية ولا يبدو أننا سنراه يحدث إزاء أوكرانيا. وعلى رغم دخول الأزمة السورية عامها الرابع يصعب توقع نهاية للنزيف الدامي فيها ما دام لا يحدث تغير ملموس في ميزان القوى.

كثيرون من المراقبين الأوروبيين يستعصي عليهم فهم موقف الإدارة الأميركية بالنسبة الى أوكرانيا. ويقول هؤلاء: إذا كان العامل الإيراني في الشرق الأوسط يكبح واشنطن عن الحركة تجاه الحسم في سورية، فما الذي يلجم حركتها في أوروبا تجاه أوكرانيا التي هي بوابة الروس إلى أوروبا والأوروبيين إلى روسيا؟

بعض المعلقين الأوروبيين يرون ثمة مبررات محسوبة وراء كلام أوباما حول أوكرانيا. فالأخيرة ليست عضواً في الاتحاد الأوروبي ولا في منظمة معاهدة شمال الأطلسي، ولذلك لن يكون الرد على موسكو أكثر من مسعى لـ «عزلها» في مناطق يستطيع التحالف الغربي التحرك فيها. ويشرح أوباما ذلك: «جئت إليكم اليوم كي أقول إنه لا ضمانات لما حققناه من إنجازات هنا وحول العالم، وإذا استمرت القيادة الروسية في مسارها الراهن يجب أن نتأكد من تعميق عزلها». أي أن استخدام القوة العسكرية لن يفيد في استرجاع شبه جزيرة القرم أو الحيلولة دون دخول روسيا المحتمل إلى شرق أوكرانيا.

إذاً، مواجهة روسيا راهناً تنحصر في مزيد من الضغط والديبلوماسية المفتوحة. فقد عبَّرت هذه السياسة عن حدها الأقصى بإجراءات سياسية محددة. ومعلوم الآن أن الولايات المتحدة اتخذت إجراءات مهمة للتأكيد لحلفائها في شرق أوروبا على «صلابة» سياستها بالمزيد من الطلعات الجوية لطائرات الناتو فوق دول البلطيق الثلاث، وإرسال وحدة جوية إلى بولندا. وإذا كان الوقت، كما يرى الأوروبيون، لا يزال متاحاً أمام واشنطن لبدء حوار جاد في شأن مستقبل أوكرانيا وترتيب إجراءت مهمة مع موسكو حول الوضع النهائي لشبه جزيرة القرم، فربما تمكنت واشنطن من التقاط تقاطعٍ ما تلتقي عنده مع طهران لفتح باب المناقشة في شأن سورية لإعادة ترتيب البيت السياسي فيها.

لكن هذا يعتمد على أى مدى ستنزع إيران نحو إعادة نظر محورية في شأن سياستها في الإقليم ومستوى التفاهمات بينها وبين واشنطن حول دورهما ومصالح كل طرف منهما فيه. وزير الخارجية السابق هنري كيسينجر يقدم رأياً في الشأن الأوكراني يلخصه بالتالي: «غالباً ما يطرح الشأن الأوكراني نفسه وكأنه قضية تحتم على أوكرانيا ضرورة الاختيار بين الشرق والغرب. ولكن إذا كان لأوكرانيا أن تبقى وتحقق الانتعاش، فعليها ألاّ تنتمي إلى هذا الطرف أو ذاك، بل عليها أن تلعب دور الجسر بين الطرفين».

الوضع في سورية مختلف بالطبع، إذ إن دمشق ليست في محل صراع بين شرق وغرب، على الأقل راهناً، ولكنها ساحة مواجهة إقليمية حاسمة تستخدم فيها إيران كل إمكاناتها، بما في ذلك ميليشيا «حزب الله» اللبناني، ونفوذها القوي في العراق ودورها الاستراتيجي في أفغانستان، لترسيخ سياسة توسعية على رغم أنها غير قابلة للحياة في المدى الطويل. وموقف الولايات المتحدة بالتالي تجاه الوضع السوري لن يتحدد كما يبدو إلا من خلال شبكة تفاهمات إقليمية تسعى إليها كل من واشنطن وطهران.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى