بشير عيسىصفحات الرأي

ما بعد الحداثة: البحث عن منقذ!/ بشير عيسى

يرى معظم المفكرين العاملين في الحقل الثقافي، أن ما هو معروف باسم الحداثة فقد تبريره نحو العام 1960، وحلّ محلّه توجّه فكري عريض أطلق عليه مصطلح ما بعد الحداثة، وهو عبارة عن نظام فلسفي ينظر إلى المعتقدات الفلسفية القديمة والحديثة نسبياً، التي كانت رائجة وتوجّه الناس، كالإيمان بالتقدم والعقل، على أنها لم تعد صالحة! وهذا النظام يتقاطع ويتناقض على طول خطوط المواجهة مع الحداثة.

وللتوضيح، لا بد من الإشارة إلى أهم هذه التناقضات: ففيما تقبل الحداثة السرديات الرئيسة وتؤمن بالتقدم وإمكان معرفة الحقيقة، مع إقرارها بوجود تسلسل هرمي (النخبة)، فما بعد الحداثة يشكّك في السرديات الرئيسة والتقدّم، ويرى أنه لا يمكن معرفة الحقيقة، كما يرفض التسلسل الهرمي (وجود المساواة). وبينما تنتهج الحداثة «نمطاً موحداً»، نرى في الجانب الآخر العديد من الأنماط في الوقت نفسه (الانتقائية).

وأخيراً، هناك المسألة التي تشكّلها الخصوصية الثقافية ممثلة بفكرة «الهوية»، وهي فكرة حداثية تنطوي على شيء ثابت لا يتغير، لكن في أيامنا هذه، حيث تخترق العولمة أعتى الخصوصيات الثقافية، فإننا «نرتدي ونخلع هوياتنا بقدر ما نتمنى، أو نخشى»!.

لكن ثمة من يذهب أبعد، بالقول أن ما بعد الحداثة اسم آخر للنموذج المتقدّم للرأسمالية، الموجودة في الولايات المتحدة وأماكن أخرى من العالم. فقد أخذ هذا النموذج بشقّ طريقه مع انتقال الفعاليات الاقتصادية الأميركية الكبرى من القبول المتردّد للتدخل الكينزي من جانب الدولة، إلى إعادة التوازن للاقتصاد بعد الحرب العالمية الثانية إلى الدعم النشط للسياسة النيوليبرالية أواسط السبعينات، والتي ترفض تدخل الدولة في الاقتصاد. وقد نظّر لهذا التوجه الفيلسوف الاجتماعي الاقتصادي فون هايك، حيث يرى بناءً على حرية الأفراد، أن المنافسة في السوق تشكّل التناغم الاقتصادي المطلوب، الذي يعدّ «نتاج العمل الإنساني»، لكنْ ليس نتاج «التخطيط الإنساني». وبذلك يخلص الى أن على الحكومات أن تكون ديموقراطية، مع حدود ثابتة لمجال تدخلها وسلطتها الإكراهية. كما يعتبر أن التخطيط الاقتصادي الجماعي، وحتى في نمطه الديموقراطي الاجتماعي، «سيقود إلى نظام استبدادي شمولي»!.

لقد كانت نظريات فون هايك الجديدة، وفق الخبراء، المنافس الأهم لنظريات عالم الاقتصاد البريطاني جون مينارد كينز. فالأخير كان يؤيد تدخل البنك المركزي في حالات الركود والكساد، لقناعته بأن الأسواق الحرة لا تساهم تلقائياً في تحسين أحوال البشر ورفاهيتهم. والتوجه الكينزي ساد لثلاثين سنة بعد الحرب العالمية الثانية في الديموقراطيات الاجتماعية الأوروبية الغربية، وبدرجة أقل دول شرق آسيا الصناعية، أما في الولايات المتحدة فمع وصول رونالد ريغان، حدثت الانعطافة الكبرى نحو النيوليبرالية المعولمة!.

لقد شكّل ما بعد الحداثة إلى حدّ كبير الحامل الفلسفي للأيديولوجيا النيوليبرالية، ولأن «لكل تشكيل اجتماعي اقتصاده المماثل»، فهذه الطبقة الوليدة استطاعت أن تشكل بامتياز النموذج المتقدم للرأسمالية، ولو نظرنا من زاوية ماركسية لرأينا «أن القوة الاجتماعية المسيطرة المتمثلة في طبقة، تؤقلم وتعمم العقائد والقيم التي تلائم مصالحها». وهنا ثمة وجهتا نظر متعارضتان، الأولى تقول أن النيوليبرالية وصفة لكارثة اقتصادية واجتماعية وبيئية عالمية. والثانية ترى فيها العلم الاقتصادي الأفضل لغاية الآن!.

وما يعزّز هذه النظرة، قدرتها على مواكبة التحولات الدولية والتأثير فيها، مستفيدة من عاملين رئيسين، الأول: انتهاء الحرب الباردة لمصلحة الولايات المتحدة، والثاني تمثل بربط المؤسسات والأسواق والجامعات والبثّ التلفزيوني، بواسطة الأقمار الصناعية وشبكة الإنترنت، التي مهدت لإمكان عولمة الاقتصاد والسياسة، وبالتالي الثقافة، ما مكّنها من فرض رؤيتها على العالم، وبذلك بات قميص الدولة القومية ضيقاً عليها.

ضمن هذا السياق والنهج جاء تشاؤم المعارضين، إذ اعتبروا التأثير الذي تمارسه الليبرالية الجديدة وصل إلى مستوى الهيمنة الأيديولوجية على الدول كمقدمة لاستلابها، الأمر الذي دفع بالناس إلى البحث عن «استراتيجيات حماية، منطوية على السعي الى امتلاك هويات إنقاذية محصنة، غير صالحة لأزمان غير ذات علاقة بالمكان»، ما دفع بالبعض الى التحذير من أي صحوة عرقية، قومية أو دينية – جهادية، بوصفها ردوداً انتقامية على مزاج «عالم الماك» القائم على التفاهة والتسليع، والمقترن بالقيم والقوى الاقتصادية الغربية المهيمنة.

ولتوخّي الدقة، علينا النظر إلى السياسة التي انتهجتها الولايات المتحدة في أعقاب الحرب الباردة. ففي 2003، وصل الإنفاق العسكري إلى 417 مليار دولار، وهو ما يمثل 47 في المئة من الإجمالي العالمي. وفي 2008، أنفقت 41 في المئة من ميزانيتها الوطنية على الجيش والحروب السابقة، التي مثلت نحو 50 في المئة من الإنفاق الدفاعي العالمي، وذلك كله كان على نقيض الدول التي شرعت حينها بتقليص إنفاقها العسكري!. وفي استطلاع للرأي أجرته على قرائها في جميع أنحاء العالم، سألت مجلة «تايم» عن البلد الذي يشكّل أكبر تهديد للسلام العالمي في 2003، فحصلت الولايات المتحدة على النسبة المدهشة التي تجاوزت كثيراً ما حصلت عليه كوريا الشمالية والعراق.

ويبدو أن واشنطن نجحت في إيجاد وتسويق خرافة العصر، ممثلةً بإرهاب «القاعدة» و «داعش»، وذلك بعد أفول الشيوعية! الأمر الذي يضمن دورها المهيمن. وهي بذلك تكون كرجل الإطفاء الذي يشعل النار في الخفاء، ليظهر بعدها بوصفه البطل المنقذ!

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى