صفحات سوريةميشيل كيلو

ما بعد النظام!


ميشيل كيلو

ليس هناك من خطأ أشد فداحة من خطأ الصراع الخفي أو المعلن على السلطة بين القوى المشاركة في حراك شعبي أو مجتمعي، قبل الانتصار على النظام الذي يراد التخلص منه. وليس هناك ما هو أشد خطورة على شعب يقاوم الاستبداد من تقسيمه إلى أتباع لهذا الفريق أو ذاك من الفرق المنخرطة في الشأن العام، على الجانب المعارض. أخيرا، ليس هناك ما هو أكثر إضرارا بمصالح النضال العامة من شروع قوى دخلت متأخرة إليه، أو كان حضورها ضعيفا فيه عند بداياته، في خوض معارك خفية ضد بقية قواه، خصوصا إن كانت تحمل – وهي غالبا ما تحمل – سمات سلوك تآمري سري وخفي. باختصار شديد: من الخطأ الفادح والجسيم اقتسام جلد الدب قبل اصطياده.

حدث شيء من هذا أو ما يماثله في مصر، حيث خاضت قوى إسلامية معركة إسقاط النظام باعتبارها معركة ربطتها أكثر فأكثر بوصولها إلى السلطة، رغم أن النظام لم يكن قد سقط بعد. هذه القوى، عملت على الانفراد بجلد الدب قبل اصطياده، ولولا بطولات المواطن العادي لكانت هددت الانتفاضة الشعبية أو أفشلتها، نتيجة لما انتهجته من سياسات متعددة الأهداف والمستويات، تجسدت من جهة في محاولات مدروسة لإزاحة «حلفائها» عن مواقعهم، رغم حساسية لحظة الصراع واتصالها بموازين قوى كان يجب أن تبقى موحدة ليكون الحسم سريعا ومضمونا، ومن جهة أخرى في خططها لحرف قطاع واسع من الجماهير عن هدف نضالها الأصلي، ولحشدها وراء أهداف حزبية ضيقة ترجمت قراءة آيديولوجية محدودة، ويرجح أن لا تكون صحيحة للمرامي المجتمعية العامة.

وبالنظر إلى أن قوى وجماهير الانتفاضة الشعبية العربية ليست متماثلة في طابعها وهويتها، مع أنها متفقة على هدفها: إقامة دولة مدنية ديمقراطية، فإن ركض واحدة من قواها الرئيسية هي فضلا عن ذلك قوة شعبية ومنظمة، وراء هدف حزبي خاص يكون غرضه حرف جهدها نحو تغيير موازين القوى لصالحها داخل الحراك، وتمكينها من احتلال مواقع تتيح لها التحكم بموازين وعلاقات القوى الثورية، وحسم مسألة السلطة قبل سقوط النظام، وهذا يلحق ضررا جديا بوحدة وفاعلية الحراك الشعبي والسياسي، ليس لأنه يشق صفوف المجتمع وتعبيراته المناضلة وحسب، وإنما كذلك لأنه ينقل المعركة في مرحلة مبكرة، وفي وقت غير مناسب، إلى داخل هذه القوى وعلاقاتها، مع ما يمكن أن يترتب على نقلها من هوامش واسعة يمارس النظام ألاعيبه عبرها، بينما تتحول المعارضة، التي كانت موحدة الإرادة، إلى معارضات متصارعة، متنافرة الرأي وحتى المقاصد، تجد نفسها مجبرة على خوض معارك خفية لا لزوم لها، ما دام من الحماقة اقتسام جلد الدب قبل اصطياده، وليس بوسع أي قوة إسقاط نظام استبدادي متحكم وقديم بمفردها. هذا الأمر، يزداد سوءا إلى أن يبلغ درجة الخطورة الحقيقية على العمل الثوري المشترك، إن كانت القوى العلمانية قوية وفاعلة في المجتمع، وكان لها شعبية واسعة تفوق في مرحلة الانطلاق شعبية أي قوى أخرى، لكنها تصير مستهدفة من الذين يريدون حسم مسألة السلطة خلال المعركة: قبل سقوط الاستبداد، مثلما تفعل اليوم جهات إسلامية سورية منضوية في المجلس الوطني وخارجه، تعتقد أنها ستحقق مأربها عبر دفع القواعد الشعبية المنتفضة إلى التطرف السياسي والمذهبي، وهجر النزعة السلمية التي كانت ميزة حراكها، والتوجه نحو السلاح والعنف، مع ما يحمله هذا كله من مخاطر قد تقوض تماما النضال في سبيل الحرية، ويحدثه من تبدل في طبيعة الصراع ويلحقه من ضرر بالشعب وقضاياه العادلة.

ثمة بين نماذج العمل الثوري نموذجان رئيسيان يتقاطعان عند حالات وسطية متنوعة. هناك أولا: الثورة التي تتم ضد حكم استبدادي أعاد إنتاج مجتمعه انطلاقا من سلطته وتوطن أمنيا وآيديولوجيا بقوة فيه، ونجح لفترة طويلة في إرغامه على رؤية نفسه بدلالة السلطة والخضوع لقيمها ومصالحها. في هذا النموذج، لا تنجح الثورة إن لم تكن فعلا مشتركا يسهم فيه أغلبية الشعب وجميع المنخرطين في العمل السياسي العام والمنظم، على أن يكون بينهم حد أدنى من التناقضات غير العدائية وقدر أعلى من التوافق في القول والفعل، ويعملوا على تسوية وإزالة أي تناقضات توجد في ما بينهم أو داخل المجتمع يمكن للنظام استغلالها لدق أسافين داخل أطراف النضال الشعبي، وينقلوا تناقضات المجتمع إلى السلطة، كي لا تبقى موحدة وتفقد قدرتها على الصمود في وجه الحراك وقواه. إلى هذا، لا بد من تحقيق أعلى حد من وحدة المنطلقات والسبل والأهداف على صعيدي القاعدة المجتمعية وقياداتها. بغير ذلك لا يسقط الاستبداد، وبخاصة إن كان وراءه جزء وازن من الشعب، واستطاع تحويل معركة مجتمعه ضده إلى صراع مذهبي أو جهوي أو إثني يشق المجتمع، ونجح في قلب المعركة إلى عراك يدور حول أهداف لا علاقة لها بمطالب الشعب الأصلية، وخاصة منها مطلب الحرية: الجامع والموحد، ودولة المواطنة الديمقراطية. في هذا النموذج، يسقط الاستبداد بقدر ما يتوفر شرطان: وحدة الشعب ووحدة القوى السياسية التي تعبر عنه من جهة، وسرعة تصدع النظام من جهة أخرى.

هناك، بالمقابل، نموذج تنخرط فيه قوى متصارعة تتنافس وتتسابق على أهداف خاصة بكل منها. يحدث هذا عندما تتوزع بدائل الوضع القائم على قوتين أو مجموعة قوى ترشح كل واحدة منها نفسها للحلول محله، مثلما حدث مثلا في تاريخ روسيا الحديث، حين تنافست قوتان مجتمعيتان متناقضتان هما العمال والبرجوازية، عبرت عنهما قوى سياسية متصارعة إلى درجة التنافي، على إرث النظام القيصري. في هذا النموذج، نحن أمام تطور يأخذ الدولة من نظام إلى بديله، ولسنا أمام انتقال من شكل حكم إلى آخر، مثلما يحدث اليوم في ما نسميه «الربيع العربي».

في هذين النموذجين، لا ينجح التغيير إذا لم تتقاطع أهداف وسياسات قواه المنظمة وجماهيره في موقفها المشترك من النظام القائم، أو إن هي اختلفت على رؤيتها له وأهدافها الخاصة حياله. إنه تقاطع يحدث في جميع الثورات، وقد حدث في الثورة الروسية ووصل إلى حد قيام تحالف بين خصمي النظام القيصري المتصارعين، أدى إلى تشكيل حكومة مؤقتة مشتركة بينهما، وإن كان قيامها لم يضع حدا نهائيا لصراعاتهما، مع أنه غلب، وقتيا، عداءهما المشترك للقيصرية على تناقضاتهما الخاصة، التي لو بقيت مستعرة لكانت ربما أفضت إلى هزيمتهما كليهما.

في النموذج المصري بالأمس والسوري اليوم، نحن أمام نمط معدل من النموذج الثاني، لا يدور حول مصير النظام الاقتصادي/ الاجتماعي، بل حول شكل الحكومة السياسي. ثمة مشكلة حقيقية هي أن الانتفاضة لا تواجه قيصرية متخلفة، بل نظاما أمنيا محدثا من رأسه إلى أخمص قدميه، دأب على تفكيك المجتمع وشحنه بالتناقضات وعزز تأخره وضعفه وانقسام صفوفه، ومنعه لفترة جد طويلة من بلورة وتكوين تعبيرات تنظيمية مستقلة تتصف بالقوة. لهذا، من غير الجائز إطلاقا وقوع تنافس بين خصومه وهو في عز قوته، أو قبل أن يخسر القسم الأكبر منها ويغدو ذهابه محتما. المشكلة التي يواجهها النضال اليوم هي أن بعض قواه بدأت تخوض منذ اليوم معركة ما بعد النظام، وتنقل المعركة إلى داخل المجتمع، في تجاهل فاضح لأسس الصراع ضد الاستبداد، مع أن ما تفعله يلاقي سياسات النظام في نقاط عديدة، كالدعوة إلى العنف، والانفتاح على التدخل الخارجي، وتقسيم وشق المجتمع إلى كتل وتجمعات متناحرة أو مقتتلة.

ليس ما يجري بالأمر العفوي أو القليل الأهمية. ولا بد من وقفه عبر جهد وطني جامع يضم كل من يرغب في اصطياد الدب قبل تقاسم جلده، وإلا أصاب الحراك المجتمعي وتعبيراته السياسية ضرر يصعب جدا إصلاحه.

 أما السؤال الذي يطرح نفسه الآن فهو: ألا يستحق تطور كهذا وقفة تأمل ومصارحة تنجزها أطراف المعارضة السورية، يكون بين مقاصدها وضع اليد بكل وضوح على الجرح، وفعل كل ما يلزم للتخلص من هذا النهج وسياساته ومضاره، ونبذ القائمين عليه، إنقاذا للانتفاضة ولوحدتها ولأهدافها؟

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى