صفحات الناسوليد بركسية

ما بعد بعد ضرب الطفل السوري في بيروت…/ وليد بركسية

 

 

تتخطى مقاطع الفيديو التي نشرتها صفحة “وينيه الدولة” وتظهر اعتداء رجل لبناني على طفل سوري، معنى العنصرية والطائفية، التقليديين والضيقين، بين رجال تقول التعليقات أنهم شيعة تابعون لـ”حزب الله”، وبين لاجئين سوريين سنة ضعفاء وفقراء، والذي كان سيشكل السياق الوحيد للقصة لو أن الأمر توقف عند مقطع واحد يصور عملية الضرب كما هو المعتاد، لكن إتباعه بمقطع آخر يصر فيه المجرم على ما قام به وكأنه أمر طبيعي يمارسه كل البشر ضمن روتينهم اليومي ولا يستحق الضجة المثارة حوله، يجعل المسألة أكثر تعقيداً.

ففي المقطع الثاني، الذي نشر الاثنين، يظهر الرجل ج.ج نفسه، وهو يقوم بضرب الطفل سعيد من جديد بعنف وقسوة أكبر، ويقول بعنجهية أن الأمر “نكاية بصفحة وينيه الدولة وكل المنتقدين وكل السوريين”، قبل أن تقوم السلطات باعتقاله أخيراً، وكأن “القانون” هنا لا يحاسب على الجريمة الأولى “البسيطة” المرتكبة في 28 نيسان/أبريل الماضي، بل على الجريمة الثانية التي تشكل رسالة تحد لشرعية السلطة نفسها أمام هذه الممارسات الفردية التي لا تجد حرجاً في ارتكاب فعل غير إنساني ثم الإقرار به والتباهي به كأنه إنجاز أو بطولة ما.

وتقول الأنباء التي أوردتها صفحة “وينيه الدولة” أن الأمن العام ألقى القبض “أبو رياض” كما يعرف عن نفسه أثناء ضربه الطفل سعيد (12 عاماً) والعامل بأجر زهيد في أحد مقاهي منطقة بئر حسن على أطراف بيروت، مضيفة أن الرجل المعتدي هو أحد زبائن المقهى ودفع لسعيد مبلغ 5000 ليرة لبنانية (3 دولار تقريباً) من أجل ضربه وتصويره كمزحة بينهما! وهي النقطة التي يشرحها سعيد بنفسه في مقطع آخر وآثار الضرب ظاهرة على وجهه، ما يعطي انطباعاً بأن المقطع صوّر تحت التهديد مثلاً، رغم أن ظروف تصوير هذا الفيديو بالتحديد ليست المشكلة هنا.

فإن كان الفيديو الأول، ناتجاً عن الشعور بفائض القوة الذي يدفع لممارسة العنف تجاه الأضعف، وهو السبب نفسه وراء عشرات المقاطع الأخرى التي تظهر إذلال لاجئين سوريين في دول اللجوء، أو ممارسات الميليشيات ضد المدنيين كفيديو لعناصر من “حزب الله” وهم يهينون مجموعة من المدنيين السوريين المهجرين في حلب، وسط البرد والثلوج، أو تصرفات عناصر جيش النظام السوري خلال وجوده في لبنان ضد المدنيين على حواجز التفتيش، إلا أن الفيديو الآخر يحيل إلى الثقافة المجتمعية العنفية التي تجعل أولئك الأفراد يرون في تصرفاتهم أمراً طبيعياً، وإن كانوا عادة لا يعبرون عن تلك “الطبيعية” في مقاطع ثانية كحالة الرجل في فيديو اليوم.

ويجب القول أن هذا النوع من التباهي ليس طارئاً أو صادماً بقدر ما يبدو، بل هو أمر دائم التكرار في المحادثات اليومية الخاصة عموماً، والتي قد تحوي فظائع تتراوح من تعذيب قطة إلى ضرب طفل على قارعة الطريق مثلاً، وما هو أسوأ من ذلك. كما أن سرد تلك التصرفات لا يقتصر على من يقوم بها، بل يتسلى الأفراد بالحديث عن فظائع الآخرين أيضاً، ضمن مقياس بطولي لا استهجاني. كل ما اختلف اليوم أن ذلك العنف يأخذ مشهداً بصرياً بتأثير أكبر وانتشار أوسع بسبب قوة السوشيال ميديا التي لم تكن متوافرة قبل عقد واحد من الزمن فقط.

وهنا يسقط الكثير من المحددات الضيقة في الفيديو، مثل جنسية الجاني والضحية، وتصبح حالة قابلة للتكرار بغض النظر عن المكان، طالما أنه يجري في الشرق الأوسط الذي تتشارك معظم دوله “ضبابية” القانون، أو الاستهتار به، بأثر من المخيلة الشعبية والثقافة المجتمعية ومبادئ التربية، وهي خاصية قد تكون موجودة حتى في الدول التي تُرسم على أنها أكثر “تقدماً” من بقية دول المنطقة، كبعض دول الخليج، حيث تصدر مقاطع مشابهة مثل فيديو الخادمة الأثيوبية المروع قبل فترة، كما أنها خاصية تتكرر في الدول الأكثر قمعية مثل سوريا الأسد بكل جبروت النظام الأمني فيها، حيث يخشى الناس القانون لكنهم لا يحترمونه، لأنهم أصلاً لم يكونوا جزءاً من صياغته أو الاتفاق عليه بعقد اجتماعي أصلاً.

البحث في “غوغل” عن عبارة بسيطة مثل “ضرب طفل سوري في لبنان”، تحيل فوراً إلى كمية مروعة من مشاهد الفيديو التي تظهر حالات اعتداء بالضرب على أطفال سوريين، معظمها لا يلقى الانتشار الإعلامي مثل حالة فيديو الطفل سعيد اليوم. وبإزالة كلمة سوري من البحث تظهر النتائج مزيداً من المقاطع التي يضرب فيها الأطفال من جنسيات أخرى بمن فيهم الأطفال اللبنانيون، كما تظهر نتائج مروعة لضرب أطفال سوريين في تركيا مثلاً حيث يوجد عدد كبير من اللاجئين هناك، ومن نافل القول أن النتائج تظهر حالات اعتداء أخرى ضد أشخاص بالغين أيضاً وبطرق شديدة الوحشية أحياناً.

والحال أن معظم تلك المقاطع ليس موثقاً من طرف ثالث، بل يقوم بتصويرها ونشرها الضارب المعتدي عادة، ومعظمها يحوي خطاباً من طرف واحد بين الجاني والضحية يحتوي كماً لا يصدق من العنف والتحقير والفوقية ضمن سياق “فائض القوة”، وتتشابه تلك المقاطع الفردية مع عدد كبير من المقاطع التي انتشرت بعد الربيع العربي، للموالين للسلطات وهم يضربون ويهينون المعارضين، وبالتحديد شبيحة النظام السوري الذين كانوا “متميزين” مقارنة بأقرانهم في مصر أو تونس.

فيديو سعيد ما زال موجوداً وينتشر عبر مواقع التواصل مدفوعاً برغبة واضحة للتعاطف مع الضحية، وكلما اشتد هذا التعاطف، زاد التملص الفردي من الثقافة المجتمعية التي تشكل إطاره، وكأن كل فرد في تعاطفه يحاول إثبات براءته أمام نفسه ومحيطه مما يراه ويدرك أنه شريك فيه بطريقة أو بأخرى.

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى