إياد الجعفريصفحات المستقبل

ما بين الوعر وعكرمة: أمثولة تاريخية/ إياد الجعفري

 

 

كان لافتاً أن يرفع أطفال حي الوعر في حمص لافتاتٍ تُدين التفجير الذي أودى بحياة عشرات الأطفال في حي عكرمة منذ يومين. ولمن لا يعرف، فحي الوعر آخر الأحياء التي يسيطر عليها الثوار في حمص، ويغلب عليه المسلمون السُنة، فيما يُعتبر حي عكرمة الحمصي أيضاً، موالياً للنظام، ويغلب عليه العلويون.

أدان الائتلاف الوطني المعارض التفجير، فيما قدمت بعض وسائل إعلام المعارضة التعازي لأهالي الضحايا، رغم أنهم من الموالين الأشداء للنظام. كانت بادرة مهمة. ففي الأمس القريب، قبل عامٍ فقط، وزع بعض أنصار النظام الحلوى على المارة في مناطق من دمشق بعد ساعات من مجزرة الكيماوي التي طالت مئات الأطفال والنساء والرجال في الغوطة في ريف العاصمة.

لم يشهد تاريخ الصراع الراهن أية بادرة إيجابية من جانب الكتل الاجتماعية المحسوبة على النظام السوري، تجاه أية حادثة مروعة طالت أطفالاً في الجانب الآخر، رغم كثرة تلك الحوادث، بحيث يصعب حصرها اليوم. لكن في حادثة نادرة من نوعها في تاريخ الصراع المسلح في سوريا، كان لافتاً أن الطرف الذي أُثخن بالجراح يقدم التعازي للطرف الذي أثخنه.

البعض قد يقرأها على أنها خطوة لاستغلال حنق الموالين للنظام، بغية زيادة التحريض، علّ الغضب المُعتمل في نفوس المحسوبين على الأسد، جراء استهتار حكومة الأخير بأطفالهم وأبنائهم، يؤدي إلى تغيرٍ في الاصطفافات المجتمعية السورية القائمة اليوم.

وقد يقرأها البعض على أنها مسعى لتشتيت وجهة أي خطوات انتقامية محتملة تجاه حي الوعر تحديداً، والذي بات البقعة الوحيدة الخارجة عن سيطرة النظام في قلب حمص.

وبينما يراهن البعض على ما يُشاع من مؤشرات لتورط شخصيات محسوبة على أمن النظام في تفجيرات حي عكرمة الأخيرة، يراهن آخرون على استدارة، لم ينعدم الأمل فيها ، من جانب العلويين، تضر بالنظام، وببشار الأسد تحديداً.

لكن في ما سبق، لم نجد أية قراءة ترى الأمر من زاوية تاريخية. ففي زوايا الكتب التي يمكن أن نقرأ فيها تأريخاً رصيناً للعلاقة بين مكونات الكيان السوري، نجد الكثير من الأمثلة التاريخية المماثلة لتلك التي حدثت أخيراً في حي الوعر، وتمثلت في تعزية أهالي الأخير لألدّ خصومهم في حي عكرمة الموالي للأسد.

يقول ألبرت حوراني، المؤرخ البريطاني الشهير، من أصل لبناني، في أحد مؤلفاته: “كانت الإمبراطورية العثمانية تتألف من عدد كبير من المجموعات المحلية العشائرية واللغوية والدينية، التي تشكل في مجموعها جاليات مغلقة. وقد كان كل منها بمثابة “عالم” يقتصر على أعضائه ويطالبهم بولائهم المطلق. وقد تلامست هذه العوالم دون أن تختلط ببعضها البعض، فكان كل منها ينظر للآخر بعين الشك والريبة، وربما الكراهية. وكانت معظمها يغلب عليها الركود وعدم التغيير والمحدودية. أما عالم أهل السنة، رغم تمزقه بشتى أشكال التشقق الداخلي، إلا أنه ظل يتمتع بشيء من الشمولية والشعور بالثقة وروح المسؤولية التي كان يفتقدها الآخرون. وكانت الجاليات الأخرى هامشية وبعيدة عن السلطة وصنع القرار التاريخي”.

نجد مصداقاً لروح المسؤولية التي تمتع بها “أهل السنّة” ليس فقط في كتب ألبرت حوراني، بل في تجارب تاريخية ما تزال ماثلة في أذهان المطلعين، من أشهرها تلك الخطوات التي قام بها زعماء الكتلة الوطنية، التي كان يغلب عليها رموز البرجوازية الحلبية والدمشقية، بغية استيعاب العلويين والدروز، في الكيان السياسي السوري، وإجهاض مساعي فرنسا لفصلهم عن البلاد. كان من أبرز تلك الخطوات تعيين أحد وجهاء العلويين محافظاً للعاصمة دمشق. تلك الخطوات آتت ثمارها يومها، رغم دور شريحة من العلويين في قمع الحراك المناهض للفرنسيين من خلال “جيش المشرق” الذي كان يرتكز أساساً على الأقليات لقمع الأغلبية في سوريا، بهندسة فرنسية.

الكثير من الأمثلة التاريخية تؤكد غلبة روح المسؤولية لدى الغالبية السُنية في سوريا، على النزعات الثأرية أو الآيديولوجية المتطرفة لديها. مقابل أمثلة تاريخية أخرى تؤشر إلى حساسية مُفرطة لدى الأقليات في سوريا حيال أي تهديدٍ قد ينال من وجودها، بصورة دفعت بعضها لاصطفافات نالت من الأغلبية السُنية، وأضرت بها، آخرها اصطفاف جزء من الأقليات وراء بشار الأسد في حربه الشعواء ضد معارضيه، الذين يغلب عليهم الانتماء السُني.

لا يُلغي ذلك وجود حالات تطرف، وسلوك طائفي لدى جزء من المكوّن السُني في سوريا، لكن ذلك الجزء العملي من التطرف الطائفي السلوكي بقي محدوداً، بحيث كانت آخر حادثة تعرض فيها الأقليات للاضطهاد، وسجلتها كتب التاريخ المعاصر، هي أحداث دمشق عام 1860، رغم كل الجدل المحيط بها.

بالمقابل، تلقت الغالبية السُنية الكثير من الصفعات المؤلمة من شركائها في الوطن، من أبناء الأقليات، طوال القرن العشرين، بدأت بانتماء جزء منهم لـ “جيش المشرق” الفرنسي، مروراً بأحداث الثمانينات ومجازرها المُروعة، انتهاءً بما يعيشه الكيان السوري اليوم.

لا يُعتبر ما سبق تعميماً على أبناء الأقليات، بطبيعة الحال، لا يمكن التعميم في حوادث الصراع المجتمعي. لكنها تذكير، لكل من لا يذكر، بأن اللافتات التي رفعها أطفال حي الوعر، تعزيةً بأطفال حي عكرمة، مصداقاً لمقولة تاريخية، وثقها مؤرخون سوريون وأجانب، مفادها، تمتع الغالبية السُنية بروح مسؤولية عالٍ، لعب دوراً تاريخياً في خروج الكيان السياسي السوري إلى الحياة، كما نعرفه، منذ عام 1946. ويبقى الرهان على روح المسؤولية تلك، كي تحافظ على الكيان السياسي السوري كما نعرفه، في الغد المنظور.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى