صفحات الرأي

ما بين سربرنيتسا وسورية… رمية حجر


منال ناصر

حين تُسرد وقائع مجرزة سربرنيتسا، كأني بي أسمع عما يحدث في سورية… كأن المقترِف واحد. تغيرت معالم وجوه السفاحين. وتشابهت بصماتهم واقترافاتهم… وزير الخارجية البريطاني وليم هيغ شبّه ما يجري في سورية حالياً بما حصل في البوسنة خلال تسعينات القرن العشرين، إذ قال: “هذا البلد (البوسنة) كان يعاني صراعاً طائفياً فقامت فيه القرى المتجاورة بشن هجمات متبادلة وقتل أبناؤها بعضهم بعضاً.”

لمجزرة سربرنيتسا هذا العام وقع أشد على البوسنيين أنفسهم وعلى العالم. فهذه هي المرة الأولى التي يحيي فيها البوسنيون هذه الذكرى التي مر عليها 17 عاماً، في وقت يُتخم العالم بمشاهد الدماء والهرج والمرج (أي القتل والاقتتال).

سربرنيتسا

في كل عام، يعود الألم ذاته ليعرّش من جديد في قلوب الثكالى اللواتي يتذكرن الفظائع والويلات، ويستذكرن أحداثاً خلّفت المآسي والأحزان.

سربرينتسا المدينة التي كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، تلك المدينة الجبلية الصغيرة الواقعة شرق البوسنة والهرسك، كانت عامرة بصناعات أساسية، كالتعدين… تحولت مدينة للحزن والدموع… للقهر والظلم والثكالى والأرامل واليتامى.

سبعة عشر عاماً مرت على مجزرة سربرنيتسا. مرت كأنها يوم… لأنها مدينة محكومة باستذكار موتاها وشهدائها ونبش رفاتهم المختلطة والمجهولة والموزعة في حفر عشوائية مطمورة.

بالأمس، نُبشت الجروح التي لا تندمل، حين أعيد دفن رفات حوالى 520 من ضحايا مجزرة سربرينيتسا تم تحديد هوياتها منذ سنة.

وفي كل عام، يعاد في بوتوكاري دفن رفات ضحايا بعد نبشها من مقابر جماعية، في ذكرى المجزرة. ودُفن حتى اليوم 5137 ضحية في مقبرة النصب.

وللمرة الأولى منذ نهاية النزاع، يشارك حوالى 30 الف شخص في سربرينيتسا بمراسم دفن رفات ضحايا المجزرة التي ارتكبتها قوات صرب البوسنة في 1995 ضد مسلميها. وصنفها القضاء الدولي إبادة جماعية.

وتحت شمس لاهبة، بعد صلاة الغائب التي ترأسها مفتي البوسنة، ووريت النعوش الملفوفة بأكفان خضراء الثرى مع رفات الضحايا التي عثر عليها وتم التأكد منها.

مجزرة سربرنيتسا من أسوأ الفظائع المرتكبة في أوروبا، منذ الحرب العالمية الثانية، حيث قتلت القوات الصربية حوالى 8 آلاف رجل وشاب مسلم من سربرنيتسا في غضون بضعة أيام. اغتصاب النساء وذبح الآباء ورميهم في الغابات المنتشرة والمستنقعات والحفر التي اقامتها الجرافات الصربية حول سربرنيتسا لتكون شاهدة على الهمجية الصربية.

قتل جماعي ورمي جثث في حفر “جاهزة” يشمل المعوقين والجرحى، صبيان صغار يعذبون في قاعات الرياضة في مدارسهم، حيث قطعت الآذان واستخدمت الرماية الدائرية والغازات السامة لقتل مدنيين هربوا من الحرب… وألقي الناس احياءً في نهر درينا… كل هذه الجرائم لم تكن نتاجاً عفوياً لجو معركة هستيري ولا عمليات انتقام فالت، بل كانت هذه الفظاعات كلها تدار في غرفة العمليات العسكرية، بعقل بارد وسعة خيال سادي مشحون بالاحقاد العرقية، وتحت اشراف قائد الجيش الصربي راتكو ميلاديتش وبإيعاز مباشر من رئيسه رادوفان كاراديتش.

ارتكب الجنود الصرب فظائع كثيرة في حق مسلمي البوسنة واغتصبت آلاف الفتيات، وتشير بعض التقديرات إلى اغتصاب حوالى 60 ألف سيدة وفتاة وطفلة بوسنية حتى شباط/ فبراير 1993. والهدف من مهرجان الدم هذا هو ان يسبق الرعب الدبابات كوسيلة حرب نفسية لسكان المناطق الأخرى.

وفي خضم أنهار الدم السائلة، كانت القوات الدولية – الفرنسية والأوكرانية – تبيع طعام المساعدات المجانية للبوسنيات بالنقود… ومن منهن لا تملك النقود، فالاغتصاب مقابل الطعام.

خلفت الحرب 150 ألف قتيل، منهم 10 آلاف في “سراييفو” وحدها، بينهم ألفا طفل، طبقاً لما أوردته اللجنة التي شكلتها الحكومة البوسنية لجمع المعلومات وهو رقم متواضع بالنسبة لما خلفته الحرب بعد انتهائها؛ حيث قدرت الأمم المتحدة خسائر الحرب بحوالى 200 ألف قتيل و200 ألف جريح ومعوق. واكتُشف عدد من المقابر الجماعية في مدينة “موستار”، وأكد الأطباء الشرعيون أن أغلبية الضحايا قُتلوا بإطلاق النار عليهم من مسافة قريبة وبأسلحة أتوماتيكية.

وخلفت سنون الحرب تدمير 60% من المنازل والمساكن و33% من المستشفيات و50% من المدارس و85% من البنية التحتية… و300 كلم مربعة مزروعة بالألغام بشكل مؤكد، طبقًا لتقديرات مركز مكافحة الألغام التابع للأمم المتحدة في البوسنة UNMAC، ناهيك بالأمراض العصبية والنفسية التي أصابت نحو نصف الناجين من سكان البوسنة.

وبدأت الدول الأوروبية التي نزح إليها اللاجئون تشكو من وجودهم، وأسرعت بنقلهم جبرياً إلى البوسنة ليجدوا أنفسهم بلا مأوى؛ بعدما استولى الصرب على منازلهم، ما أدى إلى وجود 60 منطقة في البوسنة لم تشهد حتى الآن عودة اللاجئين المسلمين إليها”.

صور لا تبارح الأذهان

سفديا خليلوفيتش تروي الفاجعة. تقول خليلوفيتش التي قصدت نصب بوتوكاري التذكاري قرب سربرينيتسا لحضور مراسم دفن رفات والدها: “إنه ألم لا نهاية له. في 11 تموز/يوليو من كل عام يصبح هذا الألم لا يحتمل”. واضافت خليلوفيتش (50 عاماً) “قُتل شقيقاي أيضًا في المجزرة لكننا لم نعثر على رفاتهما بعد”.

وهاهي سهرا احمدوفيتش تتمنى لو تجد شيئاً من رفات ولدها، قائلة: “لو أني أجد فقط عظمة واحدة من ابني حتى أدفنه وأعرف أخيرًا مكان قبره وأضع حداً لهذا الكابوس المستمر منذ 11 تموز/يوليو 1995”.

وتروي احمدوفيتش ان ابنها سمير الذي “لم يكن يبلغ آنذاك 17 سنة، كان يبكي ولم يكن يدري ماذا يفعل، إما التوجه مع النساء الى قاعدة الامم المتحدة في بوتوكاري، وإما الالتحاق برجال فروا داخل الغابة”. وتابعت: “استدار نحوي خمس مرات ليقول لي “لن اراك بعد اليوم”، قبل ان يتوجه نحو الجبال.

في وقت لاحق، عرفت احمدوفيتش، من شهود عيان، انهم رأوا سمير بعد يومين مع مجموعة من الاسرى في كرافيكا قرب سربرينيتسا، حيث أعدِم اكثر من الف مسلم، بحسب القضاء المحلي.

وفقدت هذه المرأة اثنين من إخوتها في مجزرة سربرينيتسا، وهما مدفونان في مقبرة بوتوكاري. كما فقدت هذه الثكلى زوجها الذي اختفى في بداية الحرب (1992-1995) ولم يُعثر عليه. وقالت، وهي تحمل قميصاً ازرق اهداه جندي من القوات الاممية لابنها سمير، “اخشى الا يُعثر عليهما في حياتي، فأنا اعيش يوميا في انتظار ان يتصل بي احد”. وتابعت باكية “اشعر أني ما زلت اشم رائحته وهو طفل…”

ومع حلول ذكرى المجزرة تتفتح جراح النسوة اللواتي بقين وحيدات تماماً، كحال قديرة غابليتش التي فقدت ابنيها وزوجها وشقيقها في المجزرة. وتقول غابليتش “ذات يوم، اتصل بي الاطباء الشرعيون ليبلغوني بالعثور على جمجمة وجزء من رجل ابني الاكبر ميهو. لكن هذا لا يكفي لاقامة جنازة. اما ابني الاصغر مسعود فلم يظهر منه شيء”. ثم صرخت باكية “وضعنا أولادنا بصحة جيدة والآن ندفن اجزاء صغيرة منهم”.

دُفن الضحايا بعد المجزرة في قبور جماعية ثم أعيد فتح غالبيتها بالجرافات لنقل الجثث وبهدف اخفاء مدى ضخامة الجريمة، ولذا فإن اعضاء مختلفة لجثة واحدة وجدت في أكثر من مقبرة جماعية.

وقالت رامزة موزيك، هذه الام التي فقدت ابنيها: “عُثر على اربع عظمات من ابني سنايد الذي كان عمره 19 سنة في اربعة قبور جماعية مختلفة”. اما ابنها الثاني سياد الذي كان عمره 18 سنة، فلم يُعثر على رفاته بعد. وتابعت “اختفيا من حياتي كرماد يحمله الريح. اشعر دائما بايديهما على كتفي عندما قالا لي “الى اللقاء امي”.

ومن الصور البشعة التي حدثت خلال المجزرة أن ثلاثة جنود من الصرب اقتحموا منزل أسرة مكونة من امرأة مسنة (جدة 60 عامًا) وابنتها الكبرى (أم 42 عاماً) وبناتها الخمس (19 عاماً و15 و12 و9 و6) وقاموا – تحت التهديد – باغتصاب الجدة أمام ابنتها وحفيداتها، ثم اغتصبوا الأم أمام أمها وبناتها، ومن ثم الفتيات الخمس الصغيرات أمام الأم والجدة، ما أسفر عن موت اثنتين من الفتيات الصغيرات، بينما فقدت الجدة والأم النطق والإدراك.

عائلات الضحايا لا تصدق أن العدالة ستأخذ مجراها

وللمرة الاولى منذ نهاية النزاع، تمر ذكرى مجزرة سربرينتيسا والمسؤولان عنها، القائد العسكري السابق لصرب البوسنة راتكو ملاديتش وزعيم حكومة صرب البوسنة رادوفان كارادجيتش، في قبضة محكمة الجزاء الدولية الخاصة بيوغوسلافيا (سابقاً)، لمسؤوليتهما عن ارتكاب مجزرة وجرائم ضد الانسانية وجرائم حرب خلال حرب البوسنة (1992-1995) التي قتل فيها مئة الف شخص. وصنف القضاء الدولي ما حصل في سربرينيتسا أنه ابادة.

وكانت محكمة الجزاء الدولية في لاهاي استأنفت محاكمة ملاديتش واستمعت الى إفادة شاهد الاتهام الاول عن فراره من القوات الصربية، ليل 2-3 تشرين الثاني/نوفمبر 1992. اعتقل ملاديتش الملقب “جزار البلقان” في صربيا في 2011، بعد فرار استمر 16 عاماً.

أما كارادجيتش (67 سنة) الذي بدأت محاكمته في تشرين الاول 2009 والذي اعتقل في تموز/يوليو 2008 في بلغراد، بعدما اختبأ 13 عاماً فقد برأه قضاة في لاهاي من اتهام بالابادة الجماعية، ولكنهم أبقوا على 10 إتهامات اخرى تتصل بجرائم حرب وإبادة جماعية موجهة إليه. وقضى القضاة بأن لا أدلة كافية على ان اعمال قتل نفذتها قوات صرب البوسنة في بلدات في الجمهورية اليوغوسلافية السابقة في 1992، ارتكبت بنية الابادة الجماعية. لكنهم رفضوا طلبات الدفاع لاسقاط 10 إتهامات اخرى تتضمن قتل 8000 مسلم في سربرنيتسا في 1995.

وفي العام ذاته، وجهت المحكمة الجنائية الدولية إلى كراجيتش إتهامات بجرائم حرب وابادة جماعية وأحضِر إلى لاهاي بعد ذلك بثلاثة عشر عاماً. وحكمت المحكمة الدولية بالسجن على 38 من قدامى العسكريين وعناصر شرطة صرب البوسنة

لكن عائلات الضحايا لا تصدق فعلاً أن العدالة ستأخذ مجراها. وتقول البوسنية فاطمة موجيتش: “محاكمتهما ستدوم سنوات”. وأضافت هذه المرأة (39 سنة) التي فقدت زوجها وشقيقها في المجزرة: “في النهاية، سيموت هذان الوحشان قبل ان يُدانا، مثلما حدث لسلوبودان ميلوسيفيتش، وسيستمر الصرب في إنكار حصول مجزرة”.

الرجل القوي في صربيا (سابقاً)، سلوبودان ميلوسيفيتش، توفي في سجن المحكمة الدولية في 2006 قبل نهاية محاكمته.

وصرخت منيبة كاكار (63 سنة) التي جاءت لدفن زوجها “يريدون شهودًا؟ ها هم الشهود”، وهي تشير الى الاف القبور في نصب بوتوكاري التذكاري.

أما القضاء البوسني فقد أصدر أحكاماً بسجن 4 جنود سابقين من صرب البوسنة لمدة 142 عاماً. وهذه الاحكام التي صدرت على الجنود الأربعة بتهمة ارتكاب جرائم ضد الإنسانية هي الاطول التي تصدرها محكمة جرائم حرب البوسنة.

وقالت القاضية ميرا اسماعيلوفيتش وهي تتلو نص الحكم “في 16 يوليو تموز عام 1995 أعدموا من دون محاكمة نحو 800 من المدنيين الذكور، بعضهم تقل أعمارهم عن 16 سنة، وبعضهم الآخر تزيد اعمارهم عن 80 عاماً، ما بين الساعة 10 صباحا حتى 4 مساء في مزرعة برانييفو”. وحكم على ستانكو كويتش بالسجن 43 عاماً، وعلى كل من فرانك كوس وزوران جورونيا بالسجن 40 عاماً، وعلى فلاستيمير جوليان بالسجن 19 عاماً، لأن عمر هذا الأخير كان اقل من 21 سنة في ذلك الوقت.

وعشية ذكرى المجزرة انتقد الرئيس الاميركي باراك اوباما محاولة “انكار واقع مسلّم به بوقوع ابادة” في سربرينيتسا. وكان الرئيس الصربي الجديد، القومي الشعبوي توميسلاف نيكوليتش انكر في بداية حزيران/يونيو، بعيد انتخابه، في مقابلة صحافية، حصول هذه الابادة، ما أثار عاصفة من الاحتجاجات.

أياً تكن نهاية السفاحَين ملاديتش وكارادجيتش ومن عاونهما في زهق أرواح الأبرياء طمعاً في مناصب ومخططات… وأياً يكن الحكم الصادر في حقهما… فإن ما فقد لن يعود… وما حدث لن يُنسى… ولكن! لا بد من القصاص لأنه حياة… علّه يكون عبرة لمن خلفهما… فلا بد من إحقاق الحق عاجلاً أم آجلاً.

* المراجع: مقالات من أرشيف “الحياة” 1995 – 1997

الحياة

الحياة الالكترونية” – سراييفو – أ ف ب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى