صفحات الرأينجيب جورج عوض

ما علاقة الثورة في سوريا بالموقف من الإسلام السياسي؟


نجيب جورج عوض

حدثان مهمان جداً وذات دلالة قوية وقعا في الأسبوعين الأخيرين، يتعلقان بالثورة في سوريا وبالحراك السياسي الذي أعقب الثورة في مصر وتونس. الحدث الأول، هو خبر اعتداء أنصار المعارضة السورية (الممثلة بالمجلس الوطني) على أنصار المعارضة السورية (الممثلة بهيئة التنسيق الوطنية)، ودلالات الانشقاق والاختلاف العميق بين المعارضين السوريين حول طبيعة الثورة وأهدافها ومسيرتها، التي على الجميع التمعن فيها بعمق وتأنٍ بعد هذه الحادثة. أما الحدث الثاني، فهو تصريح وزيرة الخارجية الأميركية هيلاري كلينتون، ولأول مرة بشكل علني ومباشر ولا لبس فيه، بأنّ أميركا لا تمانع بناء علاقات مصالح مشتركة مع الإسلاميين الذين سيكونون بدلاء الأنظمة القمعية في كل من مصر وتونس.

سبق لي ونشرت مقالاً في ملحق «نوافذ» منذ أكثر من أربعة أشهر أكدت فيه أنَّ الغرب بات اليوم، وخلافاً لموقفه التقليدي، متقبلاً لفكرة وجود بدائل إسلامية سياسية في العالم العربي والدول المجاورة لإسرائيل في العالم العربي، لا بل وهو سيكون الداعم الأول وصاحب المصلحة الأساس في مساعدة الإسلام السياسي على تحقيق طموحه للسلطة انطلاقاً من أسباب يعتبرها الغرب موضوعية، وذات تأثير مباشر على لجم ودرء أخطار الحراك السوسيولوجي والثقافي والمدني الذي خلقه الإسلام السياسي في المجتمعات الغربية، وتوجيه حراب ذاك الأخير نحو بلدانه الأم، بدل تركيزها على الساحة العامة في الغرب. اليوم ومع تصريح كلينتون المباشر عن استعداد أميركا للتحالف مع أي بديل إسلامي في العالم العربي، تعلن الدولة الغربية العظمى بأنها تقف وراء مثل هذا الخيار وأنها على استعداد لا للتعامل مع واقع وجوده المحتوم فقط، بل وللتحالف استراتيجياً وصراحةً معه؛ مع كل ما يتطلبه التحالف من الالتزام بقواعد الأخذ والعطاء، الكسب والاستعداد للخسارة، ربح نصيب ما، من جهة، والقبول بربح الآخر لحصة مقابلة وربما معادلة، من جهة أخرى.

في منطق الربح والخسارة وذهنية الصفقة السياسية، لن يكون غريباً أبداً إن وجدنا الغرب يعقد علاقات صداقة وتحالفات مباشرة ومعلنة مع الإسلام السياسي الجديد في العالم العربي. أما مفردات الصفقة فهي ستكون على الشكل التالي: سيتوقع الغرب من الإسلاميين أن يؤسسوا أنظمة سياسية تعددية وتداولية تمارس اللعبة الديموقراطية، وبالتزامهم بهذا الشرط سيساعد الإسلاميون مراكز صنع القرار الغربية على تلميع صورة الإسلام السياسي وتبرير الوقوف معه أمام هيئات المجتمع المدني والرأي العام، العلمانية والليبرالية والمدنية في البلدان الغربية. سيعد الغرب، بالتزام الإسلام السياسي بلعبة السلطة الديموقراطية، بأن يطبق أفواه مؤسسات المجتمعات المدنية وحقوق الإنسان والهيئات الداعية للديموقراطية والتعددية وقيم المجتمع المدني الغربية والعالمية، بما لديه من نفوذ على الرأي العالمي، وبأنه سيغض الطرف عن محاولات الإسلاميين الجادة (والأهم والألح بنظر الإسلام السياسي ـ برأيي) لإسلمة العالم العربي سوسيولوجياً وثقافياً، والأخطر تشريعياً. في المقابل، على تلك الأنظمة الإسلاموية الناشئة أن تتعهد للغرب بثلاثة أشياء: أولاً، أنها لن تهدد أمن إسرائيل القومي ووجودها ككيان، وأنها ستعمل على إيجاد حل للصراع الإسرائيلي ـ العربي بالموافقة على اختزاله أولاً إلى صراع فلسطيني ـ إسرائيلي فقط، وبدفع الفلسطينيين إلى طاولة التفاوض والعمل على تحقيق سلام يرضى عنه الغرب وتقبل به إسرائيل. وثانياً، أنَّ تلك الأنظمة الجديدة ستقف مع المعسكر الغربي بشكل قوي وواضح في صراع هذا الأخير مع التهديد الإيراني وذلك تحت اسم رفض العالم العربي السني رسالة التشييع والمشروع العقائدي والإيديولوجي الشيعي الذي يحمله نظام الملالي. أما ثالثاً، فعلى الأنظمة الإسلاموية الجديدة أن تضمن للغرب استمرار تدفق كل مصادر الطاقة النفطية والغازية إلى الغرب، ما يضمن استقرار موازين القوى الاقتصادية والمالية في قلب الأزمات الهائلة التي تعاني منها أوروبا وأميركا، وكذلك استمرار عمليات شراء السلاح الغربي من العالم العربي، الذي يعد المشتري الأول للأسلحة في العالم؛ الأمر الذي بات يؤثر أكثر من ذي قبل على محاربة معدلات البطالة العمالية المتزايدة، وتخفيف حدة حالات إفلاس الشركات الغربية العملاقة، وما لهذا من تأثير فادح أيضاً على مسيرة الأزمة الاقتصادية الهائلة في الغرب. ما سنشهده بكلام آخر، هو محاولة لعقد صفقات جيو ـ استراتيجية مع الأنظمة الإسلاموية الجديدة، تشبه كثيراً في تفاصيلها الصفقات التي يقوم عليها التحالف الأميركي مع دول الخليج ومع تركيا. بنية هذه التحالفات هي: مارسوا الأسلمة السوسيولوجية والثقافية والتشريعية داخل بلدانكم كما تشاؤون، ولكن ابتعدوا عن الأسلمة في الحراك السياسي الداخلي، المتعلق بالسلطة، وفي الطرح الجيوسياسي الاقليمي المتعلق بتوازنات المنطقة.

أما عن علاقة هذه المعادلة الجديدة بالثورة في سوريا والشرخ الحاد بين أطياف المعارضة فهو أنَّ علينا أن نقرأ الثورة في سوريا أيضاً من خلال هذا التغيير العام الجديد في حسابات الغرب وخياراته الجيوسياسية. أعتقد أنه من الضروري بمكان أن نقرأ استمرار ارتكاب المعارضة السورية، بأطيافها الداخلية والخارجية، للعديد من الأخطاء التكتيكية، والهفوات الفادحة المتعلقة بالأداء والتوقيت، والتخطيط والتفاعل السياسي، بصفتها مؤشراً قوياً على أن المعارضة السورية، بكافة أطيافها، خرجت من إطار اللاعب المباشر والأساسي في الحراك السوري، وفي تقرير خواتيم الثورة في سوريا. ما عاد أمر إسقاط النظام في سوريا لا بيد المجلس الوطني ولا بيد هيئة التنسيق الوطنية، وربما لم يعد ولا حتى بيد الشارع بعد الآن. لا أريد بهذا القول انَّ النظام في سوريا باقٍ وأنه انتصر. العكس تماماً هو الصحيح.

من جهة النظام السوري، أثبت للجميع خلال الشهور الماضية أنه بات بحكم المنهار، بنية وسيطرة وحضوراً داخل المجتمع السوري، بالرغم من استمرار آلة القمع والقتل التي يملكها للسيطرة على الشارع. لقد فشل رأس النظام فشلاً ذريعاً بإقناع العالم بقدرته على التعامل مع هذه الأزمة بالحنكة السياسية المطلوبة، وبالحكمة وبعد النظر ومنطق رجل الدولة، لا منطق صاحب السلطان. فشل منطق الإصلاح، الذي قدم نفسه على أنه عرابه في سوريا، وحل مكانه منطق القوة والإكراه. بهذا، فقد النظام زمام أمر بقائه ونجاته من يده وبات مصيره اليوم مرهوناً بالسياق الاستراتيجي العام الذي تحدثت عنه في الأعلى: الصفقة العتيدة بين الغرب والإسلام السياسي في العالم العربي، بما فيه سوريا. لقد اختبر الغرب عبر السنوات العشر الأخيرة عدم قدرة النظام السوري على تلبية المطالب الثلاثة التي ذكرتها في الأعلى، والتي لو قبلها النظام لضمن موقعاً له في التركيبة الجديدة. في المقابل، يبدو أنَّ البديل الإسلاموي على استعداد لدفع فاتورة اختزال الصراع مع إسرائيل إلى خلافات مع الفلسطينيين فقط، ومعاداة المشروع الإيراني، والوقوف كخط دفاع أول في وجهه، وضمان مصالح الغرب الاقتصادية في المنطقة (تلك المصالح لن يؤمنها البديل الإسلاموي في سوريا، بل من يتمنى وصوله للسلطة ويبدي استعداداً لتمويله والوقوف ورائه من دول الخليج وتركيا). لهذا، فقد النظام البعثي، الذي نعرفه باللغة الاستراتيجية والجيوسياسية، مبرر وجوده على خارطة المنطقة المستقبلية.

أما من جهة المعارضة، فهي أيضاً برأيي لم تعد، هذا إن كانت أصلاً، الفاعل الرئيس في الثورة السورية. وهي لن تكون أبداً العنصر الأساسي الذي يملك في يده مسألة إسقاط النظام. فشل كل من المجلس الوطني (وفق قناعتي) بأن يطرح نفسه القوة الحقيقية، ناهيك عن القوة الوحيدة، التي ستسقط النظام وتزيح رموزه، بفعل قوتها الشعبية الصرفة، ومشروعها السياسي الذاتي، ورؤيتها الاستراتيجية المستقبلية الواضحة، والمعول عليها لسوريا البديلة عن سوريا-البعث. أما هيئة التنسيق فهي منذ البداية لم تحظ بتأييد شعبي واسع ومؤثر داخل سوريا ولم تنل فرصة الاهتمام الجدي والحقيقي من الغرب، بالرغم من أنَّ أعضاءها، ومن يدور في فلكها، هم المعارضون الوطنيون التاريخيون في سوريا. ناهيك عن الخلافات الفكرية والرؤيوية العميقة التي تشرذم الرؤى والطروحات والمواقف، وتربك الأداء داخل كل من المجلس والهيئة على حد سواء، الأمر الذي لاحظناه مراراً وتكراراً خلال الشهور المنصرمة والذي بلغ، برأيي، ذروته مؤخراً في الاعتداء المخجل والمعيب من قبل أنصار المجلس على أعضاء الهيئة في القاهرة.

من باب الواقعية السياسية، من السهل التوقع بأنَّ المعارضة، وعلى الأرجح المجلس الانتقالي، ستأتي بعد سقوط النظام السوري الوشيك والمحتم، كبديل عن النظام وسيقوم خالقو المجلس وداعميه (لأتراك والأميركيون) بشكل خاص) بالضغط، كي يتم تقديم المجلس المذكور على أنه البديل السياسي العتيد، وربما وللأسف «الوحيد«، في سوريا الجديدة. ولكن، هذا لا يجب أن يجعلنا نتعامى عن حقيقة أنَّ أمر إسقاط النظام ونجاح الحراك الشعبي ما عاد لا بيد المعارضة ولا بيد الشارع في سوريا. إن كان علينا يوماً أن نتعامل مع المجلس الوطني على أنه البديل السياسي للنظام المتداعي، لا يجب أن يجعلنا هذا نعتبره صاحب النصر في الثورة وأن نعامله على أنه هو من أسقط النظام. من يحل بديلاً في السلطة لن يكون هو من يجب أن نسميه بالمنتصر، فقد أثبتت تعقيدات المشهد السوري أنَّ هذا «المنتصر» يمكن أن يكون أي طرف، عدا المعارضات السورية.

ما أريد الخلوص إليه، هو أن علينا أن نقرأ فضيحة الخلاف العميق بين أطياف المعارضة في سوريا، ودلالات هذا الخلاف الجدية، في ضياع فاعلية الثورة وفضل إسقاط النظام من يد المعارضة السورية بكل أطيافها، علينا أن نقرأ هذا في إطار جيو-سياسي أوسع يتعلق بموقف الغرب الأخير من صعود الإسلام السياسي في المنطقة واستعداد الغرب لعقد صفقة جديدة مع هذا البديل لإعادة ترتيب المنطقة وتشكيلها من جديد. إن سقط النظام في سوريا، فسيكون سقوطه بسبب هذه الصفقة الجديدة، لا بسبب المعارضة ولا بسبب الشارع (وإن كان للشارع السوري البطل طبعاً الفضل الأول والأهم في بداية نهاية النظام). من جهة أخرى، إن حدثت معجزة ما، تتجاوز حدود المنطق التحليلي، والمعطيات المتوفرة، وبقي رأس النظام شخصياً، من دون أن تبقى البنية السلطوية التي أعطته السلطة، فهذا أيضاً لن يكون مؤشراً على انتصار النظام على الشارع وعلى المعارضة. كل من النظام ومصيره، من جهة، والمعارضات ومصير حراك الشارع، من جهة أخرى، باتا جزءاً من لعبة أكبر، ومجرد محطة في خارطة أوسع. وما تزايد علامات انشقاق المعارضة السورية وخلافاتها العميقة إلا دليل على أن وجودها أصلاً كمجلس أو كهيئة وبروزها على السطح، سواء داخل أو خارج سوريا، ما كان إلا نتاج تغيير بنيوي غربي ومحلي، إقليمي وعالمي في النظرة إلى الإسلام السياسي، ومحاولة القوى الفاعلة في المنطقة إعادة ترتيب بيادق رقعة الشطرنج الشرق أوسطية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى