صفحات الثقافة

ما لم يره كمال أبو ديب


زياد بركات

صادم ربما لمن هو مثلي المقال الأخير للدكتور كمال أبو ديب. ثمة ذكريات شخصية مشفوعة بإضافات الرجل النقدية اللامعة والمميزة، ثمة ‘جدلية الخفاء والتجلي’ و’الرؤى المقنعة’ و’في الشعرية’ وغيرها من كتب تشكل علامات لافتة في الثقافة العربية برمتها في النصف الثاني من القرن العشرين، وثمة إلقاء الرجل على الحدود السورية عام ألفين وخمسة وهو يرتدي منامته كما تردد، وكان الأمن الأردني الذي قام بذلك ينتقم رمزيا من الدور التنويري الجذري لكمال أبو ديب عندما كان أستاذا للنقد في جامعة اليرموك آنذاك.

في تلك الأيام، قام الطلاب بواحدة من أشرف وأنقى حركات الإحتجاج في تاريخ الأردن على السلطة: سلطة الجامعة والمجتمع والنظام، ما يذكّر بدور مواز مارسه الأستاذ السوري القادم من أكسفورد، كمال أبو ديب، الأنيق دون تزيّد، الهادئ كبركان، الجذري بعدوانية محببة، علّمنا آنذاك من دون أن يقول أو يجهر أن الثورة لا تكون في الشارع وحسب بل في الرؤية والمقاربة، وأن لا ثورة دون لغة تقطع مع ما قبلها، إذ كيف تكون حداثيا وأنت تستعير لغة أبيك ومقاربته هو لا أنت للكون.

كان الرجل يشبه أحلامنا، رجل رأسه خارج عالمنا وقدماه تتخبطان في أوحال واقعنا المعيش، دون أن يضيّع بوصلته أو ما يُعتقد بأنها رسالته.

بفضله حسموا موقفنا: مع عبد القاهر الجرجاني وأبي تمام وأبي نواس، مع ريح تقتلع شجراً ذابلاً وتنثر بذورها في الأرض اليباب، وكان ذلك رهاناً وامتحاناً ومحنة، كان ذلك أن تمشي في الهاوية ولك قامة الريح، كما رأى أدونيس.

طُرد أبو ديب ليلا من الجامعة والأردن، وذهبنا نحن إلى زنازين صغيرة قتلت أحلامنا الكبيرة وحولتها إلى حيوانات تهرب وتدب على أربع في الحياة التي لم تكن رحيمة معنا.

وكان أن جاءنا طائر الرعد متأخرا فابتهجنا بشعوب تنتفض من حولنا، نحن الذين نسينا وتناسينا واعتصمنا بعزلاتنا المتناثرة، نحن الذين كنا نعوي في الليل، نحرس موتنا من هواجسنا القديمة.

نحن الذين ما تنبهنا عما جرى حتى كانت مقالتك أيها المعلّم، صادمة ولا تشبهك ولا تعرفك ولا تعرّفنا بك بل تجهّلك وتجهّلنا بك يا معلّم.

في بلادك، بلادنا سورية، ثمة من يُقتلون، كل يوم يُقتلون: أطفالا ونساء ورجالا أمام أطفالهم، وبيوت تهدّم، وعائلات تُهجّر وتمضي في البلد الغريب تحت المطر تبكي بلادا يجتاحها حاكما، فعن أي جمال تتحدث

يا معلم!!! وكيف وأنت من يرى، لم تر العاصي يغض بدم ضحايا الحاكم في دمشق؟؟!! ولا تقل لي أنك تخاف على الأقليات وأنت من علّمنا

فداحة تغييب المواطنة والدولة الحديثة في تاريخنا، وأنت من شرّح بقسوة ظاهرة التأبيد في الثقافة العربية، أم أنك تنسى!!

هل تذكر؟؟!! كنت أستاذا للنقد الأدبي في جامعة اليرموك، في منتصف الثمانينات، كان الحاكم في دمشق حافظ الأسد وكانوا يهتفون له’… الى الأبد، الى الأبد يا حافظ الأسد’ عندما علّمت طلابك وفككت هذه ‘الأبدية’

ومضيت تحلل بعمقك الجميل وأناقة روحك إحدى قصائد أدونيس على السبورة بينما نحن ندوّن.

فعن أي جمال تتحدث؟؟!! وأي مخاوف انتابتك تجاه استعمار وعثمانيين وغيرهم بعد نهر دم تدفق، بعد قتل أورفيوس، ابراهيم القاشوش، وقتل حمزة الخطيب، طفلنا وطفلك، مرة تلو أخرى. إنهم مئات القتلى في بلادك، بلادنا، سورية… بل آلاف، إنه الحاكم في دمشق من يحوّل شعبك الى قردة وكلاب تنبح لأنها لم تسبّح بحمده.

رأى ذلك وثار بسببه شيخ ضرير من شيوخ بلادك، بلادنا، اسمه أحمد الصياصنة فكيف لم تر أنت ذلك يا معلّم.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى