صفحات سوريةعمر قدور

ما ليس خطاً أحمر: صواريخ السكود نموذجاً

 

عمر قدور

 كان السوريون قد سئموا التصريحات الدولية المندّدة بجرائم النظام، لأنها اقتصرت على الاستنكار اللفظي ولم تقترن بإجراءات ملموسة لحمايتهم من الإبادة. ولكن يبدو أن تلك التصريحات وصلت إلى أقصى غاياتها باتّفاق القوى الفاعلة على أن ما دون الاستخدام الكثيف والمعمّم للأسلحة الكيماوية لا يُعدّ خطأ أحمر يستدعي التدخّل. ذلك فضلاً عن بعض التفسيرات التي تقرن التدخّل تحديداً بوقوع الأسلحة الكيماوية تحت سيطرة المعارضة، الأمر الذي طمأنت إسرائيل الآخرين إلى عدم حدوثه حتى الآن.

على ذلك لم تعد القوى الدولية تجد نفسها ملزمة حتى بالإدانة اللفظية عندما يستخدم النظام صواريخ سكود لتدمير أحياء بأكملها، فالصواريخ لا ترسم سوى ذلك الخط الأحمر الملتهب الذي يراه السوريون فقط وهي تعبر سماءهم من منصات الإطلاق باتجاه هدف لا يعرفونه إلا وقت وقوع الكارثة. هذا ليس بالمجاز، فسكان دمشق رأوا بأعينهم الصواريخ المنطلقة لقتل المدنيين في حلب، وشبيحة النظام هلّلوا لها بالهتاف: “يا سكود شعّلْ نار.. الله وسوريا وبشار”. أما سكان “جبل بدرو” و”أرض الحمرا”، وهما منطقتان سكنيتان عشوائيتان بما لهذا التوصيف من دلالات على المستوى المدقع للعيش، فلم يُتح لهم الموت رؤية التكنولوجيا الأهمّ التي أرسلها لهم النظام تحت مسمّى “صواريخ الجولان”.

بالطبع يفهم السوريون المقولةَ التي سيكرّرها في هذه المناسبة جهابذة السياسة ومبتدئوها والتي تنصّ على أن المصالح هي الخطّ الأحمر الحقيقي لا دماء الأبرياء، ويفهمون أن دماءهم مباحة للنظام برخصة دولية على ألا يلجأ الأخير إلى مخزونه الكيماوي، ومن دون ثقة كافية بجدية الشرط الأخير. أي أن قتلهم بالتقسيط، وتدرّجاً من السكين إلى الصاروخ، لا يؤرّق ضمير العالم، وبخاصة لا يخدش المصالح الدولية الكبرى. لكن الصمت الدولي المخزي إزاء استخدام السكود يتجاوز كل العتبات الأخلاقية (أو بالأحرى اللاأخلاقية) السابقة، لأن ما رآه السوريون بأعينهم لا بدّ أنه تحت الرقابة الدولية أصلاً، ولا بدّ أن تكون الأقمار الصناعية قد رصدت الصواريخ من منصات إطلاقها حتى سقوطها فوق المدنيين، ولا شكّ أيضاً في أن الجميع يعرف عدم وجود ثكنات لمقاتلي المعارضة بالمعنى الكلاسيكي لكي تُقصف هكذا، مثلما يعرف الكثيرون افتقار الصواريخ لدقة التوجيه ما يجعلها حكماً مشروع إبادة عشوائية للمدنيين.

لقد توسل السوريون طويلاً الحماية بموجب القانون الدولي الإنساني قبل أن يكتشفوا الحقيقة المرة، فالمجتمع الدولي ليس غير مستعد فقط لحمايتهم بموجبه بل هو يحجب عنهم حقّهم المشروع في الدفاع عن النفس بموجب القانون الدولي أيضاً. هذا بالضبط ما عناه طوال المدة الماضية حظر توريد السلاح إلى سوريا من قبل دول لا تورد الأسلحة إلى النظام، وهذا ما عناه ألا يصبح قرار الحظر قراراً أممياً ملزماً، ولم يكن الأمر بحاجة إلى تأكيد إضافي من سيد البيت الأبيض الذي تجاهل نصيحة مستشاريه برفع الحظر عن توريد السلاح إلى المعارضة السورية.

ثمة انتقادات محقة تُوجه إلى الثورة السورية، والثوار أنفسهم لا يقصّرون في انتقاد أخطائها، لكن ذلك كله لا يبرر بأي حال معاقبة الثورة على النحو الذي حدث حتى الآن، إلا إذا كانت الغاية وأد فكرة الثورة بالمطلق. يذهب الكثيرون إلى تحليل الوضع في سوريا على أنها أضحت مكسر عصا للمصالح الدولية المتضاربة، وهذا ما يؤخّر الحسم فيها. غير أن صحة هذه التحليلات لا ينبغي أن تخفي التقاء المصالح عند إقفال ملف الربيع العربي برمته. في الواقع لا تنطلق صواريخ سكود، في ظل هذا الصمت المريب، لتقتل السوريين بالأصالة عن ثورتهم فحسب، بل لتقتلهم بالنيابة عن شعوب المنطقة التي ثارت، أو حتى تلك التي تفكر بالثورة، على طغاتها. هكذا يُراد لأجساد السوريين أن تكون مكسر عصا، وفي الوقت نفسه العصا التي يُربى بها الآخرون.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى