صفحات الثقافة

ما هو طعم الإسمنت؟/ إلياس خوري

 

 

الجبّالة تدور بالإسمنت، وتجبل الصور، وتقلب المدينة رأسًا على عقب، أما الذين يعمرون شاهقاتها فهم أيضا يدورون، ينقلب بهم المبنى حين يتحول في الليل إلى حفرة تحت الأرض، يأكلون فيها وينامون ويتدربون على موتهم.

صنع زياد كلثوم في فيلمه الرائع «طعم الإسمنت»، مرآتين متقابلتين، مرآة مضاءة بعتمة الإسمنت في النهار ومرآة مطفأة بظلال الإسمنت في الليل، وفي المدى الذي تدور فيه كاميرا طلال خوري المدهشة، حكاية يرويها صمت العمال الذي يسحقه ضجيج الآلات. الصمت والضجيج يتناوبان على نسج حكاية بسيطة تروي للمرة الأولى حكاية العمال السوريين في لبنان. نرى بيروت بعيون سورية، ونرى السوريين بكاميرا لبنانية، كأن بيروت كانت محجوبة خلف ستار الوهم، وكأن العامل السوري لم يكن مرئيا قبل هذا الفيلم.

كل شيء يصير كاميرا، العين كاميرا والدبابة كاميرا والجرافة كاميرا. كاميرا لجماليات الأسى تأخذ المشاهد إلى بيروت كما يراها عامل سوري جبلته المدينة بباطونها المسلح. ضجيج واسمنت، وقهر يتجلّى بالصمت وبالحكاية التي يرويها الصوت الخفِر المصاحب للفيلم، وكأنه يهمس سرا شائعا لا يجروء أحد على النطق به.

كيف نقرأ الدهشة؟

نقول إن الصور والإيقاع والبناء السينمي ( نسبة إلى سينما) مدهشة كي نلخص ما نعجز عن قوله، فنحن أمام لغة أخرى، لغة تعرف أن الألم هو الحد الذي لا تستطيع اللغة اختراقه أو الوصول إلى أعماقه، وحدها العيون تختزن الألم وتصير لغته.

لكن ما معنى دهشة الألم حين يكشف الألم عن صورته المحايدة الخرساء، فيتحول إلى كادرات ثابتة ومتحركة، تجعل من ورشة البناء ما يشبه السجن في النهار، والحفرة التي يتراكم فيها الأسى في الليل.

«طعم الإسمنت» ليس فيلما عن الذاكرة أو الذكريات، الذاكرة يقدمها الراوي ممزوجة بالحاضر في حكاية بسيطة عن عامل غطّاه الركام بعدما تهدم بيته في سوريا فانتشرت فيه رائحة الإسمنت، وحين يأتي إلى لبنان ليعمل في البناء، يجد نفسه تحت الأرض محاصرا بالرائحة نفسها.

إنه فيلم عن الحاضر، حاضر مثقل بجماليات الصمت، وبالأجساد التي تصير آلات في خدمة آلات البناء. ماضيه صورة لبحر بيروت معلقة على جدار مطبخ في بيت سوري، ومستقبله صورة للبحر نفسه يراها العامل من خلال حديد المبنى الذي يجعل من المشهد البحري بعيد المنال.

الصورة تحولت بحرًا من أجل أن يصير البحر صورة.

رائحة العمار هي رائحة الدمار نفسها، والعمال الذين نراهم أحياء وهم يتسلقون الأعالي، نعود إليهم أمواتًا في حفرة نومهم، وهم يضيئون عتمة ليلهم بهواتفهم التي تنقل صور دمار بلادهم وبيوتهم. حتى الطعام يبدو بلا طعم، علبة السردين التي تندلق على رغيف الخبز في لقطة مقربة أو مزيج الخُضَر المطبوخة تتخذ شكل الإسمنت الذي ينفرش على الأرض كأنه البحر الحقيقي الذي تسبح فيه المدينة.

العين تصير كاميرا لخارج يتشقلب أمامنا، لم تعد العين مرآة الروح، إنها مرآة الباطون، ولم يعد الجسد ينام ليستريح، بل صار النوم والموت مترادفان، وصار صلصال الأجسام البشرية آلة في خدمة الاسمنت الذي يصنع أجسادا لا تتسع للأرواح.

بين الدبابة التي تدمّر والجرافة التي تعمّر تمّحي المسافة بين الحرب والسلام. دبابة لبنانية غارقة في بحر بيروت ودبابة سورية تغرق البلاد في الدمار والدم، الرافعة هنا هي الدبابة هناك، والهنا صار هناك، لأن الهناك هنا.

فيلم عن الحاضر يروي الحاضر بلغة آلات تدميره/ تعميره، الرافعة والجرّافة والجبّالة والدبابة هي وحدها من يملك الكلام، أما العمال فهم مجرد ملحقات، الصعود إلى الأعلى يتم في مصعد حديدي يُقفل كما تقفل أبواب السجن، وفي الهبوط إلى حفرة النوم في أسفل المبنى يصير العمال كرهط من السجناء، وبين الصعود والهبوط لا كلام. عمال مصابون بالخرس وآلات تحكي، أما المدينة فغابة من الإسمنت لا يستطيع العمال رؤيتها إلا من خلال الحديد الذي يحملونه الى الأعلى كي يصير سياجا يحجبهم ويحدد مسار حركتهم.

هذا الاقتصاد في الكلام تخترقه ثلاث لحظات:

الصوت المرافق الذي يروي بأقل الكلام إطار الحكاية، والصور التسجيلية التي نراها على هواتف العمال من خلال أصابعهم التي تقلّب الصور، واللافتة المعلقة في الشارع التي تفرض منع التجول بعد السابعة مساء على العمال السوريين في لبنان. وهنا تحتل صورة المرأة (الأم) التي يرسمها أحد العمال في حفرة النوم، ونراها ثلاث لحظات في الفيلم، مكانتها بصفتها الإشارة الوحيدة إلى احتمالات الحياة/ الموت، داخل هذه الدوّامة.

ليس الفيلم عن الذاكرة ولا عن الحنين، إنه فيلم احتجاج من دون أدوات الاحتجاج القديمة، يلخص مسار العلاقة بين الدبابة والجرافة التي أعادت صوغ بيروت كمدينة سُرقت ذاكرتها كي يفتح السؤال عن الكيفية التي امتزجت فيها الدبابات بالجرافات في مدينة قلبتها الكاميرا وجبلتها بآلام الذين أعادوا بناءها وهم يعيشون تحت أنقاض مدنهم التي تفلحها الدبابات/الجرافات.

قرأت «طعم الإسمنت» بصفته رسالة حب. والحب درجات ومراتب، لكن درجته الأكبر هي الوصول إلى حدود التماهي. إنه تماه شامل يحترم الآخر ولا يصادر لغته، بل يبحث عن لغة موازية للألم تصنعها وجوه العمال السوريين وهي تقول كل شيء في ملامحها الموحية.

وهو بهذا المعنى أكبر من صرخة احتجاج داخل حفرة المدينة، إنه صورة لاحتمالاتنا التي حماها الفيلم من لغو اللغة السائدة وخبأها في عيوننا.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى