صبر درويشصفحات سورية

ما هو غائب في معادلة الثورة السورية

صبر درويش

“الجيش الحر”، مصطلح نحت في أقبية الإعلام، له دلالات سياسية أكثر مما له دلالات واقعية؛ حسب زعمي لا وجود لشيء اسمه “الجيش الحر”، وهو شيء قد يبدو صادماً للوهلة الأولى.

اضطرت المدن والبلدات السورية التي تعرضت أكثر من غيرها لقمع قوات الأسد، إلى حمل السلاح في سبيل الدفاع عن النفس، ثم ما لبث تسليح الثورة أن صار أمراً واقعاً على امتداد الجغرافية السورية؛ تسللت البندقية إلى صفوف الثوار وباتت أمراً واقعاً، وأكثر من ذلك بات لها مشروعيتها في ظل الجرائم المرعبة التي تقترفها قوات الأسد؛ في مدينة جوبر على سبيل المثال، وهي مدينة محاذية للعاصمة دمشق من جهة الشرق، وإحدى بوابات الغوطة الشرقية، ارتكبت قوات الاسد عشرات المجازر بحق المدنيين، وهذا ليس كل شيء، ففي أغلب المجازر التي تم مشاهدتها أو توثيقها، كانت تترك الجثث في العراء لعدة أيام، حتى تتفسخ ويبدأ الدود بأكلها، المشاهد التي وثقت كانت مروعة، عائلة من سبعة أفراد كلهم نساء واطفال، تم حرقها بالكامل، وعشرات القصص من هذا النموذج، عكست ممارسة إجرامية لدى قوات الأسد قل نظيرها. ما حدث في جوبر حدث في أغلب المدن والبلدات السورية. كل هذا دفع الثوار إلى حمل السلاح، والبدء بتشكيل نواة الجناح المسلح للثورة.

في الحقيقة تشير أغلب الملاحظات إلى أن نظام الأسد هو الذي سعى جاهداً إلى دفع الثوار إلى حمل السلاح، حيث أنه سعى إلى جر الثورة إلى الساحة التي يجيد هو اللعب بها، وفي الحقيقة نجح بذلك. ففي مدينة زملكا على سبيل المثال، وهي واحدة من أكبر مدن الغوطة، ارتكب نظام الأسد مجزرة بحق المدنيين راح ضحيتها أكثر من مائة وعشرين ضحية، في سيارة مفخخة تم تفجيرها أثناء مرور تشييع أحد شهداء المدينة؛ أغلب الشهادات التي تم توثيقها تؤكد على أن المدينة التي كانت معروفة بنشاطها الثوري السلمي، سيقرر ناشطوها حمل السلاح على إثر تلك المجزرة. يقول حسان وهو واحد من أفراد الجيش الحر حالياً ويشغل دور القناص في كتيبته: “بعد المجزرة تأكد لنا أن العمل السلمي لا ينفع مع هذا النظام، وكنا اقتنعنا جميعاً بضرورة حمل السلاح”.

نجح نظام الأسد في “عسكرة” ثورة السوريين. وأنا اليوم وبعد مرور أشهر على احتكاكي مع الفصائل المسلحة، أستطيع أن أدرك أهمية استمرار الثورة السلمية، فهنا يكمن تفوق الثوار الحاسم، حتى أنني أستطيع أن أزعم، أن الثورة لو صمدت في إطارها السلمي لما صمد نظام الأسد حتى الآن. بيد أن الأمور أخذت منحىً آخر، منحى الكفاح المسلح، الذي حمل منذ البداية بذور الحرب الأهلية.

الجناح المسلح للثورة

يتألف هذا الجناح المسلح للثورة من عدة أنواع من التشكيلات، غالباً ما تبدأ بتشكيل مجموعات صغيرة لا يتجاوز عددها العشرين شاباً، بينما تسليحها يأخذ طابعاً محلياً. يتم جمع المال وقطع السلاح المتوافرة، وتبدأ العمليات العسكرية بصيغتها المتواضعة (اطلاق النار على أحد الحواجز، ضرب المراكز الأمنية المتواجدة في البلدة.. إلخ). وفي أغلب الأحيان، كانت ردة فعل قوات الأسد عنيفة على هذه المواجهات، وهو الشيء الذي دفع باتجاه استقطاب المزيد من الثوار المقاتلين إلى صفوف هذه المجموعات. في هذا السياق ستتوسع الدائرة قليلاً، لتتحول المجموعة إلى كتيبة عسكرية تضم عدداً من المجموعات الأخرى ومزيداً من المقاتلين، والتي ستباشر بتنفيذ عمليات أكثر نوعية وأكثر إيلاماً لقوات الأسد، ستهدم المدن وتدك الأحياء، وسيستخدم نظام الأسد أسلحته الثقيلة في مواجهة هذه الكتائب، أيضاً ستفرز هذه المواجهات إطاراً أوسع لردة فعل الثوار، إذ ستجبرهم ضربات قوات الأسد على مزيد من التكتل، هنا سنشهد بدء ولادة الألوية العسكرية المؤلفة من عدد من الكتائب المقاتلة، بينما ازدياد حجم الانشقاقات من العسكريين، سيعزز من قوة هذه الألوية ومن قدرتها على المناورة.

منذ بداية الثورة كان واضحاً العلاقة الطردية بين شدة القمع من جهة وتنامي الحركة الثورية من جهة أخرى، وهو أمر لم يفهمه نظام الأسد حتى اللحظة. ينطبق هذا التحديد أيضاً على الجناح العسكري للثورة، فشدة القمع الذي استخدمته قوات الأسد لن تؤدي إلا إلى مزيد من الاصرار لدى الثوار على المضي قدماً بثورتهم، وهو الأمر الذي سيتمخض عنه ما بات يعرف بالمدن المحررة.

داخل هذه المدن تتمركز ألوية الجيش الحر المختلفة. لكل مدينة تركيبة عسكرية خاصة بها، غالباً ما يكون هناك تنسيق بين هذه الألوية، ولكنها نادراً ما تتوحد تحت قيادة واحدة، أغلب الألوية العسكرية تتبع قيادة سياسية في الغالب هي من خارج سوريا، وهو ما يشير إلى تسلل لاعب جديد إلى صفوف الثورة السورية، هو المال السياسي سيئ الصيت.

تشير الملاحظة إلى وجود ثلاث مصادر للتمويل، تقف دول الخليج والسعودية وراء إثنين منهما، بينما المصدر الثالث، فهو غائم نسبياً، إذ قد تبدو تركيا وبعض الدول الأوروبية خلفه.

أغلب الفصائل المسلحة التي تعتمد في تمويلها على السعودية ودول الخليج لها طابع إسلامي، يتراوح بين التطرف والاعتدال النسبي. أما الطرف الثالث فيميل نحو الليبرالية، بالمعنى الضيق للكلمة. بين هذين الحدين تتوزع أغلب الفصائل المسلحة “للجيش الحر” السوري.

في الحقيقة، لا يسع الباحث الوقوع على أي “أدبيات سياسية” واضحة المعالم لهذه التشكيلات العسكرية بغض النظر عن بعض التحليلات التي يمكن أن نسمعها هنا وهناك- وهو ما يجعل معرفة رؤيتها السياسية صعباً إن لم يكن مشكوكاً بوجوده أصلاً. وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار العلاقة الواهية بين التشكيلات العسكرية للجيش الحر وقوى المعارضة التي أفرزتها الثورة، عندها سندرك أن العمل السياسي يجري بمكان، والعمل العسكري بمكان آخر. وهو الشيء الذي يجعل الجناح العسكري، من دون رؤية سياسية واضحة المعالم.

سياسياً لا يكفي القول بإسقاط النظام، على أهمية هذا الشعار. المطلوب، رؤية سياسية للبديل الثوري، المطلوب إجابات حول أسئلة المستقبل، وهو الشيء الغائب في معادلتنا، وإن وجد، فوجوده غائم وضبابي، حتى بالنسبة لحامليه.

على المستوى السياسي، لا يحرز الثوار تقدماً ملموساً موازياً للتقدم الذي يحرزونه على المستوى العسكري، وهو ما يجعل العمل العسكري من دون غطاء سياسي. بينما المدن التي باتت تحت سيطرة كتائب “الجيش الحر”، لا تزال تشكو من ضعف شديد في إدارتها، وضبط إيقاع الحياة المدنية فيها، وحتى الآن لا يوجد نموذج ناجح على مساحة المدن المحررة.

أين الخلل؟ أزعم في هذا الصدد، أن غياب النخبة المثقفة للشعب السوري له دور حاسم؛ فهذه النخبة تم تمزيقها بأشكال مختلفة، بدءاً بالاعتقال والتصفية من قبل قوات الأسد، وصولاً إلى هجرة الكثيرين منهم خارج البلد، وتخليهم عن أحلام الثورة، بينما من تبقى منهم، يعجز عن إيجاد حيز يستطيع من خلاله بلورة فاعليته الثورية. من جهة أخرى، فإن نزوح المدنيين عن مدنهم، أفضى إلى فراغ هذه المدن من ساكنيها، ومن تبقى منهم هم في الغالب مقاتلو الجيش الحر، والقليل من المدنيين الذين رفضوا المغادرة.

أزعم هنا أن عودة هذين العنصرين (النخبة المتعلمة، والمدنيين) من شأنه أن يحدث فرقاً في المعادلة السياسية. فلكي تتبلور سلطة مدنية ورؤية سياسية مرافقة لها، لا بد من وجود مدنيين أصلاً، فالسلطة المنشودة هي سلطتهم.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى