صفحات سوريةياسين الحاج صالح

ما هي نقطة التحول السياسي في سورية اليوم؟

 


ياسين الحاج صالح

سورية هي الجمهورية العربية الوحيدة التي نجحت فيها عملية التحول إلى مملكة. كانت 4 بلدان عربية أخرى بصدد تحقيق تحول مشابه، تونس ومصر وليبيا واليمن، وليس مصادفة أن أربعتها شهدت أو تشهد ثورات، تستهدف بصورة أساسية مواجهة هذا التطور الرجعي. من شأن وضع الانتفاضة السورية في سياق الثورات العربية أن يساعد على تبين منطق عام ينتظمها، فيسهِّل فهمها ويوضح ما تصبو إليه.

الواقع أن توريث الحكم، وهو ركيزة التحول نحو الملكية، تطور “طبيعي” للحكم الأبدي، الذي سبق الحكم السوري إليه الدول العربية جميعا. التوريث هو الحل الطبيعي للتناقض بين رغبة الحكم الأبدي وكون الإنسان فان. حكم زين العابدين بن علي تونس 23 عاما، لكنه كان يتقدم نحو قبره، رغم صبغة الشعر السوداء. الحل توريث الزوجة أو زوج الابنة. وحكم حسني مبارك مصر 30 عاما، تجاوز خلالها الثمانين حولا، رغم الصبغة أيضا. جمال هو الحل. ولكي يستمر علي عبد الله صالح في حكم اليمن، فوق ثلث قرن مضى سريعا، يعد لخلافته ابنه أحمد، قائد حرسه الجمهوري. ويضمن “الدكتور” سيف الإسلام للقذافي أن يستمر في حكم ليبيا فوق 42 عاما.

أما في سورية فقد استمر حكم الرئيس حافظ الأسد 30 عاما، قبل التحول نحو الحكم الملكي الوراثي.

لدينا في جميع الحالات نظم حكم مطلق أبدية، تريد لنفسها السلطة كلها طوال الزمن كله. ومع السلطة كلها، طورت هذه النظم نزوعا قويا نحو امتلاك الثروة كلها، أو إشغال الحاكمين مواقع امتيازية لا تنافس للنفاذ إلى الموارد العامة، والدخول الخاصة. هذه سمة مشتركة للدول الخمسة، تمحو الفوارق بين الاقتصاد الحكومي المدول واقتصاد السوق. الممر الذي قاد في طريق مستقيم من الأول إلى الثاني هو التملك الخاص للدولة الذي سهلته الإيديولوجية الاشتراكية. في البداية يجري الاستيلاء على سلطة الدولة التي “تؤمم” الاقتصاد، ثم تتحول الدولة تدريجيا إلى سلطنة خاصة مع بقاء الاقتصاد في يدها، ثم يجري تحويل الاقتصاد إلى ملك خاص لمالكي الدولة الخواص، دون حتى العناية بتقنيع الأمر. هذا مخطط خشن، لكنه مطابق لواقع الحال في سورية. وبفعل الجمع بين امتلاك السلطة وتوريثها وبين الثروات المهولة، تبدو أطقم الحكم كأنها مالكة لتلك البلدان فعلا، وكأن السكان مماليك لهم. والقسوة الوحشية في التعامل مع الانتفاضة السورية، تعطي الانطباع بأن الأمر يتعلق بقمع تمرد للعبيد من قبل سادتهم ومالكيهم.

لا يغير من الواقع الملكي أن التحول نحو الملكية غير معترف به. فمن علائم الفصام في الواقع السياسي السوري أن التحول الملكي لم يترافق بتطوير شرعية ملكية تبرره (ومن علائم الفصام في التفكير السياسي السوري أن هذا الواقع قلما كان موضع تسمية أو بحث أو نقاش عام). وبينما تسير العمليات السياسية الفعلية وفق منطق الملكية الوراثية الخاصة، يسير الكلام السياسي المباح وفق منطق إيديولوجية الممانعة التي تعرف الوطنية بدلالة “الخارج”. ووظيفة هذه تمويه واقع السلطة الفعلي وحجبه عن الأنظار من جهة، والتخويف من أخطار داهمة متربصة دوما، بما يسهل التحكم بالسكان من جهة أخرى.

على أن الفصام اضطراري. يتعذر على النظام تطوير شرعية ملكية لأنه لا سند لها في تاريخ البلد الحديث، ولأنها تتعارض مع عقيدة الحزب الحاكم، فوق أن النظام لا يملك الموارد الفكرية والسياسية لمجرد محاولة اصطناعها. لكن دون شرعية ملكية موافقة للواقع، كيف يمكن أن يحظى الحكم الملكي الجديد بالقبول العام؟ لا يحظى.

في مصر وتونس تمثلت نقطة التحول غير العكوسة في انتهاء حكم الرئيسين. التعقيدات أكبر في اليمن وليبيا، لكن الهدف الأولي هو نفسه. هل الأمر مختلف في سورية؟ هل يحتمل أن حركة الاحتجاج السورية تتوقف دون تغيير النظام؟ ليس هناك ما يبرر هذا الافتراض. تغيير النظام يعني في السياق السوري وصول العهد الحالي إلى نهايته خلال أمد زمني معروف. أو بالضبط إعلانا واضحا عن ولاية تنتهي يوما للرئيس الحالي، ومعها انطواء صفحة الحكم الأبدي. ربما تختلف صيغ الوصول إلى هذا النقلة الحاسمة، ولا ريب أن تحقيقها عبر توافق وطني واسع، وضمن ترتيبات وضمانات تفاوضية، مفضل على تحققها بأية وسائل أخرى، لكنها وحدها ما يمكن أن تكون إصلاحا سياسيا مهما. كل ما دون ذلك يسهل الالتفاف عليه وتفريغه من أي مضمون. هذا يدركه الجميع، والنظام أولهم. وهذا ما يبدو أن الانتفاضة تجعل منه شعارها الرئيسي. ومن المحتمل جدا أن تشهد الأزمة السورية مزيدا من التعقيد، وأن تنفتح أمامها صفحات أخرى أشد خطورة، إن أصر النظام على تجنب هذا الاستحقاق الأساسي، أو ثابر على تقديم معالجات شكلية من نوع حوار وطني تحت “سقف الوطن”، أي تحت مظلة النظام ذاته، أو الإفراج عن معتقلين، مع الاستمرار في اعتقال غيرهم، وإطلاق النار على المحتجين (41 قتيلا في الرستن، يوم صدور “العفو” عن معتقلين وفي اليوم التالي).

وعلى كل حال تفيد التجربة التاريخية السورية، ونظيراتها العربيات، أن الحكم الدائم ليس ممتنعا على الإصلاح فقط، وإنما هو مضخة ركود وتعفن دائم. فلأن أولويته العليا هي دوامه الذاتي، فكل شيء آخر، الاندماج الوطني والنمو الاقتصادي والتطور الاجتماعي والثقافي…، يمسي ثانويا وله قيمة أداتية فقط، محصورة ضمن نطاق لا تتصادم فيه مع أولوية البقاء العليا. وتقتضي هذه الأولوية نفسها تفريق المحكومين وتخويفهم من بعضهم وتغذية أزمة ثقة مستمرة بينهم، فضلا عن إطلاق حرب ثقافية باردة لتسميم الأجواء العامة بالضغائن والعداوات. ثم إن افتقار النظام الملكي الجديد إلى شرعية مطابقة، يدفعه إلى التعويض عبر آليات الحكم الخشنة، التي تتحول إلى عنف دموي حين يواجه النظام بمقاومات اجتماعية قوية. والتعويل الدائم على العضلات ينعكس على الحاكمين أنفسهم، تتدنى قدراتهم السياسية والفكرية أكثر وأكثر، بفعل هذا التعويل نفسه.

هذه حلقة مفرغة، يتغذى فيها الحكم الدائم التفكك الوطني كي يدوم، ويغذي التفكك الحكم الدائم كحل محتمل للانفراط النهائي. لا فرص لأي ارتقاء وطني عام، سياسي أو ثقافي أو أخلاقي، دون كسر هذا الحلقة الخبيثة. وتحديدا التوجه الآن إلى وضع حد للحكم الأبدي.

هنا المسألة اليوم في سورية، وهنا حصرا، وليست في أي مكان آخر. وهنا الكلمة التي ينتظر أن تصدر من طرف النظام.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى