بدر الدين شننصفحات سورية

ما وراء جبال كسب/ بدر الدين شنن

    في بداية الحرب السورية ، كان السؤال الكبير المطروح : لمصلحة من حقاً ، تجري هذه الحرب .. من خطط لها .. ووفر مقوماتها .. ويقوم بقيادتها ؟ ..

    وكانت كل محاولات الأجوبة ، العقلانية ، والموضوعية ، تبتعد عن الفقراء البسطاء في المدن ، والمهاجرين إليها هرباً من القحط والإهمال في الأرياف ، الذين تتسم حياتهم ، ومساكنهم ، ومفاهيمهم الحياتية ، و ” السياسية ” بالعشوائية . إضافة إلى أن همومهم ، وعفوية حراكهم المرتهنة للبحث عن الرغيف وآفاق بديلة مجهولة لحياتهم ، لاتسمح لهم حتى مجرد التفكير بالقيام بمثل هذه الحرب .

    وتبتعد عن الذين تسارعوا ، للجلوس في المؤتمرات ، وترديد الشعارات الاستفزازية المثيرة ، والمبيت في الفنادق الفخمة ، وإعطاء الأحاديث المقبوض ثمنها في الفضائيات المشاركة في هذه الحرب . فهؤلاء ليسوا أصحاب قرار ، ومال ، وأنصار ، وهم يعرفون حجومهم ، وأدوارهم المتاحة لهم .

    وتبتعد عن السياسيين ” المعارضين ” الذين يعارضون ، لاحباً بالمباديء والقيم ( كما تبين لاحقاً ) ، وإنما تعطشاً للاستحواذ على السلطة بدعم خارجي ” وبأي ثمن ” ، لأنهم ليس لديهم إمكانيات تغطي النذر اليسير من احتياجات حرب .

    وكان من الصعب في البدايات أيضاً ، إعطاء جواب مسؤول مطابق للسؤال . إلى أن تقدم أولو أمر الحرب ، أميركا ، والاتحاد الأوربي ، ودول خليجية ، وتركيا ، وكشفوا في تصريحاتهم ، ومؤتمراتهم ، وإعلامهم ، تقديم المال والسلاح والمرتزقة لأنصارهم في هذه الحرب ، وأن هذه الحرب حربهم ، وتجري لصالحهم .. وهم من خططوا لها .. ووفروا إمكانيتها .. ويتولون قيادتها .

    وبالتالي هم المسؤولون مباشرة عن كل ما يجري في سوريا من صراعات ومواجهات ، ومن قتل وتدمير ، من أجل الهيمنة المتكاملة لمنظومتهم على مخزون الطاقة السوري في البر والبحر .. وعلى الجغرافيا السياسية السورية .. موحدة أو مجزأة ، ضمن مخططات هيمنتها على الشرق الأوسط .. وعلى العالم .

    ومن التحق من معارضات بهذه المنظومة .. هي ملاحق هامشية تتحرك بإملاءات المنظومة وبدعمها .. وبدون ذلك لاوجود لها .

    وبذلك لم تعد هناك حاجة لتكرار السؤال ، خلال أحداث الحرب وتداعياتها . وبذلك أيضاً ، انتفت مقولة ” عفوية الحركة الشعبية في الشارع ” وألقيت وراء الظهر شعارات الحرية والتغيير الديمقراطي ، وانتفى دور ” الفيس بوك ” المزعوم ، في قيادة الأنشطة والعمليات في مواجهة قوى الحكومة ومؤسسات النظام ، وحجم إلى حد كبير دور المعارضة الوطنية الديمقراطية .

    المشهد السوري والإقليمي والدولي يؤكد ذلك . التحالف الأميركي ، الأوربي ، الخليجي ، التركي ، الإسرائيلي ، لايخفي دوره في الحرب السورية ، ولايخفي دوره في عرقلة إيجاد حلول سياسية سلمية لها ، ولايخفي دوره في إرسال السلاح والمال والمرتزقة ، لمواصلة عمليات القتل والإبادة الجماعية الممنهجة في كل المناطق السورية ، وآخرها مذابح عدرا وكسب . والائتلاف المعارض لايخفي ولاءه لهذا التحالف .

    وهذا المشهد يكشف أيضاً ، غباء من استبدلوا جلودهم ، وأجروا شهاداتهم العليا ، وعقولهم ، وضمائرهم ، لتسويغ ودعم الحرب في سوريا ، متوهمين ، أنهم عبرها ، سيحققون ما يشاؤون من النفوذ والثروة . أين هم الآن بعد أن أطفأت أضواء جنيف 2 ، وأين موقعهم في زحمة الأزمة الأوكرانية الدولية ، وما هو دورهم عندما يصبح السلاح هو سيد الموقف والحسم .

    والمشهد يكشف ايضاً .. وأيضاً ..بؤس من جاؤوا من مختلف أطراف الأرض ” للجهاد المعتوه ” في سوريا ، وابتدعوا ” جهاد النكاح ” ، واستباحوا دم السوريين ، وخاصة من يختلف معهم في معتقدهم التكفيري ، فأصبحوا بعد أن قتل منهم من قتل ، وبعد أن اختلف وتذابح أمامهم قادتهم حول النفوذ والغنائم ، وبعد أن وصفهم سادتهم بالإرهابيين ويتجنبون العلاقة العلنية معهم ، بل وباتوا يخططون أمنياً ، لملاقاتهم بالحذر والقمع عندما يعودون إلى بلدانهم ، وبعد أن انسد أفق نصر قريب مضمون ، أصبحوا لايعرفون لماذا ” يجاهدون ” وضد من ” يجاهدون ” .. وأحياناً ينتحرون .

    وللخروج من هذه الحالة غير المتوقعة للحرب ” غير الديمقراطية ” و” غير المقدسة ” ، انطلقت مرحلة جديدة من الحرب تعتمد عمليات الإبادة الجماعية بشكل أوسع وأكثر مما سبق ، لإعادة ترميم المعنويات ، وتجديد المبادرات الهجومية .

    الهجوم على كسب ، الذي تضافرت فيه العثمانية الجديدة الحاقدة مع التكفيرية الهمجية المتعصبة ، وحجم المذابح ، والتهجير ، والخطف ، المتوحشة ، التي طاولت الأرمن بالدرجة الأولى ، مثال سافر للتوحش ، الذي يهدد مصير السكان على امتداد الساحل السوري . وذلك بسبب تجمع كل الأهداف التي تبغي العثمانية الجديدة الحاقدة والجماعات التكفيرية المتعصبة بلوغها ، وفي مقدمها :

    * اتساع المكان جغرافياً ، وانفتاحه على البحر وعلى العالم ، وأهميته الستراتيجية سورياً وإقليمياً ودولياً .

    * احتواء الساحل على أهم المرافق الحيوية الاقتصادية ، المناطق السياحية ، والموانيء ، ومصافي ومعابر البترول من وإلى سوريا .

    * تنوع المكونات السكانية ، وأبرزها ، العلويون ، والمسيحيون بعامة ، والأرمن ، وفريق من السنة لم ينضم إلى الحرب ” الجهادية ” بالإضافة إلى ملايين السوريين النازحين من مدن أخرى ، أبوا أن يشكلوا حواضن حماية للجماعات المسلحة . وهذا ما يشجع العقل التكفيري على ممارسة القتل والإبادة لهذه المكونات دون أي حساب أو تردد ، فجميع هذه المكونات مكروهة ومعادية بالنسبة له ” شرعاً تكفيرياً ” .

    ولذلك لايمكن اعتبار القتال الجاري الآن ، في غابات جبال الغار في كسب ، حسب ما طرح من وجهات نظر متعددة ، أنه مجرد معركة جانبية تخدم تعزيز هيبة أروغان المهزوزة بفضائح الفساد في الداخل التركي قبيل الانتخابات البلدية ، أو أنه فتح جبهة في الحرب السورية لاحتواء التقدم الذي تحرزه قوات الحكومة في القلمون والغوطة وحلب ، أو محاولة لإحراز نصر ميداني لتوظيفه في ” جنيف 3 ” في أجل غير مسمى ، أو لتوجيه ضربة موجعة لقمة النظام باستهداف بيئته ومسقط رأسه ، لزعزعة هيبته وتشتيت شعبيته ، أو أنه رد من حلف الناتو على روسيا حليفة سوريا لضم القرم إليها .. فحسب . وإنما الأهم أيضاً ، إن أخذنا بصحة بعض أو كل هذه الوجهات نظر ، هو لتعزيز الجبهات في المحاور الرئيسية ، للانتقال إلى معركة الحسم العسكري ، وذلك ضمن مخطط هجومي استراتيجي كبير ، يجري الإعداد له في الأردن وتركيا وإسرائيل بدعم أميركي ، غربي ، عربي رجعي ، يشمل أهم المدن والمحاور الرئيسية ، وخاصة دمشق العاصمة ومحيطها جنوباً ، وكامل مدينة حلب وريفها ، وريف ادلب شمالاً ، حيث تتفرع معركة الأنفال في كسب إلى معارك أنفال في الجهات الأخرى .

    وهنا لابد من التذكير ، على أن معركة الحسم ، على أيدي الجماعات التكفيرية والجماعات المسلحة الأخرى ، لاتعني انتصار طرف واندحار طرف في حرب ، تراعى فيها معايير وقوانين الحرب المتعارف عليها ، وإنما هي .. تصفيات .. سحق .. لمئات الآلاف من الضحايا .. وهجرة اللاعودة لملايين السوريين من مختلف المكونات التاريخية الموروثة خارج الوطن .. واستعباد قروسطي لمن لايقدر على الهجرة .. وضياع الوطن .

    إن وراء جبال كسب ، تتجمع وتستعد جيوش الموت ، بدعم عثماني استثنائي حاقد على كل مكونات الشعب السوري ، التي قاومت الاحتلال العثماني الظلامي وطردته من أرضها ، وبدعم بقية الدول المسؤولة عن الحرب ، بانتظار استكمال الشرط العسكري ( التجمع والتنظيم زالتسليح ) واستكمال الشرط السياسي ( الاعلامي والتحريضي ) لضمان تقبل الرأي العام صدى المجزرة الكونية الأبشع في العصر الحديث ، لاجتياح الساحل السوري والتنكيل بمكوناته ، ولجعله منطلقاً استراتيجياً للتكامل مع الهجوم المزمع القيام به من الأردن جنوب دمشق .

    في غابات الغار تجري الآن الفصول الهامة من حرب بقاء سوريا كياناً موحداً . ما يعني أن الحرب .. باتت مكشوفة حتى للعميان .. هي حرب احتلال وتدمير بالنسبة للإرهابيين المسلحين المهاجمين .. وحرب بقاء بالنسبة للشعب السوري .

    المعطى الرئيس لحالة الحرب السورية عسكرياً وسياسياً .. تستدعي أعلى درجات الحس بالمسؤولية الوطنية . إذ أنه يشير إلى أن مختلف الأطراف المتصارعة ، على المستوى الداخلي والإقليمي والدولي ، ليس بوارد لديها الآن وفي زمن منظور ، إن لم تتحقق أهدافها من الحرب ، أن تعمل على وضع حد لها ، وإيجاد بديل سياسي للصراعات فيما بينها .

    * قوى الحومة ، أمام رفض ” المعارضة ” الحوار السياسي المتوازن المسؤول معها ، وعدم التعاون للقضاء على الإرهاب في البلاد ، مصممة على مواصلة القتال حتى تحقق خواتم الحرب حسب قناعاتها .

    * قوى ” المعارضة ” التي لاتملك سوى صلات محدودة بالمسلحين ، ولاتملك قرارها المستقل ، لم تنضج مواقفها الوطنية بعد ، للدخول في حوار يحكمه العقل والمصالح الوطنية ، قبل أي اعتبار آخر .

    * القوى الإقليمية والدولية ، التي أشعلت ومولت وتقود الحرب ، لم تحقق أهدافها بعد ، وأولها إسقاط النظام . وهي مصرة على الوصول لأهدافها .

    * الجماعات المسلحة ، لاسيما التكفيرية القادمة من الخارج ، تتمرد على كل القوى والطروحات السياسية ، وعازمة على إقامة دولة الخلافة الإسلامية ، وإمارات أمراء الحرب ، وهي متمسكة بقرارها بمتابعة الحرب ، وتطبيق ” شريعتها وقوانينها ” .

    لهذا ليس أمام الشعب السوري ، سوى الدفاع عن وجوده الوطني ، ولتكن التضحيات المنتظرة في التصفيات العثمانية والتكفيرية العنصرية .. تضحيات نضال ومقاومة .. من أجل حق الحياة .. وحق البقاء .. والحرية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى