صفحات الرأي

ما يستحقه الفسابكة

أحمد بيضون

 قبل أيّامٍ، غادرتُ الفيسبوك. غادرتُه إلى أمدٍ لا أدري إن كان يقصر أم يطول. هذه ليست أوّل مرّة. فقد سبق أن رحلتُ ثم عدت. مرّةً أو اثنتين. وقد أعود هذه المرّة أيضاً بعد شهرٍ أو شهرين. ولكن لا مانعَ يمنع ألّا أعود أبداً.

أمضيت في زرقة هذا العالم البديل سنتَي نشاطٍ معتدلٍ سبقتهما أعوامٌ ثلاثة من صمتٍ شبه مطبق: صمتٍ لم تكن تقطعه غير مجاملات عابرة كانت تصحب أحياناً قبولَ “صحبةٍ” بادرتُ إلى طلبها أو هي طُلِبت إليّ. وهذه حاشية: أقولُ “صحبة” لأنني في معرض معارضتي لبعض ما شاع من مصطلحٍ عربيّ للفيسبوك، اقترحت “صاحب” أو “صاحبة” مقابلاً للـ”فرند” بدلاً من “صديق” أو “صديقة” التي وجدتها في غير موضعها ههنا.

وما أرغب في قوله بادئ بدءٍ أن شعوري، وقد غادرت هذا “المحيط” أو “الوسط”، يشبه شعور الخارج لتوّه من طاحون. هذا ما ألـِفْنا قوله حين نخرج من موضع فيه ضجيج يصمّ الآذان إلى آخر يُكتم فيه الضجيج بغتة. والكناية ريفية الأصل لأن الريف هو الوسط الذي يكاد لا يصدر فيه الضجيج المفرط إلا عن الطاحون. وما أراه، من جهتي، أن ضجيج الفيسبوك أشبه باللغط الكثيف تارة والمتناثر أخرى نقع عليه أو يقع علينا في أرجاء مطارٍ أو في محطّة قطار…

هي إذن مغادرة لمجالٍ يجري فيه هدرٌ مهول للكلام المكتوب (وللصور والأصوات أيضاً): هدْرٌ يخلّف شعوراً بالغرق في الهذْر، بالتخبّط في لغط يعزّ، في كثير من الأحيان، أن تخرج منه بمعنى. فتوشك أن تتّخذ الموقف الذي تتّخذه عفواً في ردهات المطار أو في محطّة القطار: تستغني عن الإصغاء وعن الفهم. مع ذلك… مع ذلك تفرض نفسها عبارة هنا وصورة هناك وموسيقى هنالك يستدرجك إليها من تعوّل على ذائقته. أغادر هذا كلّه إذن ولكن لا أنكر أن الفضول سيعاودني مراراً إلى معرفة ما قد يكون جرى في غيابي: ما قد يكون نشَره هذا أو ذاك فأثار غباراً مما تبعثه حوافر العصبية في هذه الأيام أو أنزلَ سكينة لا غنى عنها لانبعاث الشعر في النفس… مثلاً.

هذا وأعلم أن الهذر وإن يكن سيد الموقف لا يستنفد ما يتقدّم الفيسبوك مجالاً ووسيلة لعرضه وإذاعته. ولأذهب إلى لبّ المسألة من غير مزيد من الإطالة: يضيف الفيسبوك إلى كلّ فسبوكي معتبر بعداً أو دوراً يدخل، بفاعلية تتباين من حالة إلى أخرى، في رسم شخصية الشخص أو في تعيين وجهه: ولهذا التعيين الأخير وجاهته هنا إذ يدور حديثنا هنا على “كتاب الوجوه”. فإذا كان الشخص المعنيّ مهندساً مقصوداً وزوجاً عنيفاً وأباً مهملاً ومقامراً غير مدمن ومزاولاً بانتظام للمشي في الجبال ومشاهداً مثابراً لأفلام الخمسينات والستينات المصرية فقد يكون عليك أن تضيف إلى  هذه الأدوار تشخيصاً ما لما يصدر عنه بما هو فسبوكيّ حتى تكتمل في خاطرك صورته الشخصية وتحتلّ مكانها بين صور معارفك. إلى هذا الحدّ – بل إلى أبعد منه –  يسع الفيسبوك أن يكون مهمّاً.

أقول هذا مع علمي أن ما تحويه كثرة كاثرة من الصفحات لا يعدو كثيراً ما توحيه تسمية “موقع التواصل الاجتماعي” التي تطْلَق على الفيسبوك وعلى غيره من مواقع شبيهة لم يُكتب لها النجاح نفسه. “التواصل الاجتماعي” أي تبادل المجاملات فوق كلّ شيء. هذا ما نقع عليه فعلاً ولا نقع على غيره تقريباً في صفحات فيسبوكية لا عدّ لها. ولكن الأهميّة الواضحة للموقع وللموضوع توجب إمعان النظر…

ولقد أتاحت لي إمعانَ النظر في ما كانه الفيسبوك في حالتي صاحبةٌ، أي “فرندة”، أجرت تحقيقاً جعلَت موضوعه ما يمثّله الفيسبوك للفسابكة وطرحَت عليّ (في نطاق عيّنة  انتقَتْها لتحقيقها) سؤالها هذا.

قلت لـ”فرندتي” تلك إنني أرى في الفيسبوك وسيلة إعلام شخصية: جريدةً خاصة، مثلاً، لكلّ واحدٍ من مستخدمي الموقع. وهو، في الواقع، أكثر من جريدة: فإن إمكانية نشر التسجيلات الصوتية تجعله شبيهاً بالإذاعة أيضاً. وتجعله إمكانيةُ نشْر الصور وأشرطة الفيديو يشبه محطة التلفزيون. وسيلة الإعلام ههنا هي إذن نوع من “وسيط” عام. وهذا الوسيط نحصل عليه بلا جهد يذكر وبلا كلفة باستثناء كلفة التجهيزات الأساسية والاشتراك في الإنترنت.

بعد امتلاك الوسيط، يصبح كل واحد مسؤولاً إلى حدّ بعيد عما يصنعه به. هكذا توجد صفحات رفيعة المستوى وأخرى ساقطة. وتوجد صفحات وافرة النشاط وصفحات ميتة أو شبه ميتة. يجتذب بعض الصفحات زوّاراً بالألوف ويمتلك نفوذاً هائلاً كذاك الذي ظهر في حركات التغيير العربية. فيما تبقى صفحات أخرى بلا أدنى تأثير. هذا كله يتبع الأشخاص: أمزجتَهم وكفاءاتِهم، والأهدافَ: أي القضايا التي يحدّدونها لوجودهم في الموقع، ويتبع جهودَهم…

وفي كل حال، يشعر صاحب الصفحة بأن له جمهوراً لا يعرف ملامحه إلا معرفة تقريبية وأنه يستطيع مخاطبة هذا الجمهور متوقعاً تأثيراً ما لهذه المخاطبة في أيّ وقت يختاره.

هذا يكسر العزلة التي تفرضها الحياة المعاصرة على أكثرنا ويمنح صاحب الصفحة شعوراً بالأهمية. وقد يحمله على قول أشياء لا يقولها في محيطه المعتاد ويشعره بشجاعة وذكاء لا يعرفهما عادةً في نفسه. وقد يحرّضه أيضاً على الاستنباط لتجديد ما ينشره على صفحته وإرضاء متابعيه الذين قد ينتظرون منه نوعاً من الانتظام في التدخل أو من التفاعل مع أمورٍ بعينها.

بالطبع، تؤثّر درجة التفاعل من قبل المتصفحين في هذا الشعور بأهمّية الذات أو باهتمام الغير فتحبطه أو تؤكّده. مع ذلك، يجب القول أن حيازة منبر وجمهور بهذه السهولة من جانب أيّ كان ليست بالأمر القليل. فهذا كان يقتضي كثيراً من الجهد والكفاءة ومواتاة الفرص قبل أن يوجد الفيسبوك وغيره مما يشبهه فيصبح الأمر في متناول العموم تقريباً ويتحوّل كلّ فردٍ إلى مشروعِ نجمٍ على طريقته.

من جهةٍ أخرى، يتعرّض كلّ واحد منّا لمؤثّرات تصل إليه من الصفحات الأخرى ولا يتحكّم بماهيّتها: منها ما يزيدنا معرفة او يحملنا على التفكير ويرفع سوية أذواقنا ومنها ما يؤذي أو يضلل أو ينحدر بمستوى الذوق. فالفيسبوك الذي هو وسيلة إعلام يستوي وسيلة استعلام ايضاً. وهي وسيلة سيّئة، مثخنة بالثغرات، إذا شئتَ الاستعلام منها عن الأخبار ولكنها أوفر فائدة إذا رغبتَ في الاطّلاع على المواقف. وهي سبيل إلى مُتَعٍ متنوّعة أيضاً بطبيعة الحال، إذا وفّق المتصفح إلى موادّ جميلة (بوجوه ومعانٍ مختلفة للجمال) يعرضها عليه آخرون.

هذا ويتعلق مقدار التعرّض بالوقت الذي نرتضي قضاءَه في التصفّح وباتّساع شبكة معارفنا وتنوعها، إلخ. ويتفاعل بعضنا مع هذا كله أو لا يتفاعل: بالإكثار أو بالإقلال من الـ”لايك”ـات ومن التعليقات. ويورّطنا ما ننشره أحياناً أو التعليق على ما ينشره الغير في مواجهات قد تصبح عنيفة وتخرج بسرعة على قواعد الحوار المفيد أو اللائق. فإذا نحن تجاوزنا عمّا هو ظرفي كان علينا الالتفات إلى أمر أخير جدير بالانتباه فعلاً: وهو أن الفيسبوك أصبح مادّة من موادّ علاقتنا بالمحيطين بنا في خارجه، أي في عالم “الواقع”. فهو واحد من موضوعات الحديث بيننا وبين من نحادثهم ويتّخذ بين أبواب الحوار اليوميّ أهمّية متنامية.

والخلاصة أن وسيلة الإعلام الشخصية هذه يسعها أن تغيّر نظرة مستخدميها إلى أنفسهم فتمنحهم ثقة بالنفس وشعوراً بالأهمية ويسعها أيضاً أن تذكي شعوراً بالنقص ينجم من قياس النفس بالغير. فإن للفسبكة وجوهاً تنافسية مختلفة تؤثّر أحياناً في العلاقة بيننا وبين أناس نعرفهم. وهي تدفع، في كثير من الحالات، إلى التبعية للـ”نجوم” وتكوين الشلل المسلوبة الإرادة واستقلال الفكر حول هذا أو ذاك منهم، إلى هذا الحدّ أو ذاك. وعلى الأعمّ، يفضي قضاء الوقت الطويل في التصفّح إلى شعور بالضيق وبالتبعية يشبه ذاك الذي يصحب أنواع الإدمان كافّة.

 لا أتلبّث هنا عند الصفحات غير الشخصية: تلك التي ترمي إلى إنشاء جماعة حول موضوع ما: قد يكون هواية أو غواية وقد يكون سلعةً وقد يكون قضية. هذا جانبٌ (أو جوانب) على حدةٍ من الفيسبوك. ويقتضي الكلام فيه متابعة واهتماماً لا أدّعيهما. أكتفي بالإشارة إلى الطموح العامّ للصفحات غير الشخصية: طموحها إلى تكوين جماعات متنوّعة. فيكون مدار الجماعة شخصية أو تنظيماً أو تيّاراً في السياسة، موضوعاً أو قضيّة، نوعاً أو مدرسةٌ في الفنّ أو الأدب أو الفكر، مؤسسةً ترغب في تقديم نفسها أو سلعةً تباع، إلخ.، إلخ. وفي كلّ بابٍ من الأبواب تأتي الصفحات غير الشخصية متنوّعة على غرار البرامج في وسيلة للإعلام، تعلو أو تهبط تبعاً للنهج والكفاءة وللهدف.

يبقى مع ذلك أن الفضاء غير المادّي – ومنه الفيسبوك – ليس، على التعميم، أرضاً للخلود. وهذا على الرغم من اتّساعه المهول لحفظ الموادّ الرمزية. الموادّ هنا عابرة، عادةً، على غرار ما يتعاطاه الإعلام، تتراءى لنظر المهتمّ لحظاتٍ أو ساعات، أيّاماً في أحسن الأحوال. ثم تختفي وتصبح العودة إليها محتاجة إلى بحث يزداد المكترثون لإجرائه ندرة كلّما طالت المدّة. هذا وليس ثمة ما هو أسهل من إزالة صفحة فسبوكية من أصلها. تُزال فلا يحفظ منها أثرٌ أو عينٌ في موضع، وهذا بخلاف الكتاب أو قرص التسجيل. وتبدو هذه الهشاشة مجافية لأنواع من الجدّية توحي بها أنواع من الصفحات. فما يستثير الحنينَ أو الحماسةَ أو غبارَ المساجلات اليوم ينطفئ غداً ويصير تذكّره على همّة معنيين قلائل.

وفي هذا درسٌ لمن يحسب أن الفيسبوك يصلح قياساً لقوّة فكرة أو لمستقبل قضية. وقد اختُبر هذا الوهم في الديار العربية في الشهور الثلاثين المنصرمة وكان من أمره ما كان. هذا ونحن نشير هنا إلى ما صارت إليه صفحات جادّة كانت، في أيامها، شاسعة النفوذ. فما بالك بتلك التي يستسهل الفسابكة إنشاءها ويفرطون في انتحال القضايا لها، متفائلين بخير ليس في أيديهم ما يضمنه. فتصمد الصفحة عشية أو ضحاها وقد تسيء حيث أرادت أن تحسن إذ تُظهر قلّةُ الاستجابة عزوفاً لا يكون مردّه إلى البرَم بالقضية المطروحة بل إلى الشكّ في جدّية الموقع الذي تطرح منه.

في هذا كلّه أسباب للإشاحة عن الفسبكة لم يكن شعوري الشخصي بشيء من التعب أو الملل مبتوت الصلة بها. أضيف إلى هذه الأسباب ما يعرفه فسابكتنا من تفاقم العنف في السجال على صفحاتهم هذه الأيام. هذا العنف المستشري سوري ولبنانيّ على التخصيص. وهو طائفيّ أيضاً: أصلاً أو بالتبعية. وهو يتمثّل كثيراً في انحطاط السجال إلى البذاءة. وفي ظروف تتّسم بالحدّة السياسية من قبيل ما نحن فيه في هذه الأيام، تنشُر البذاءة الملازمة لهذا النوع من الحدّة مناخاً ثقيل الوطأة على النفوس ينحطّ أحياناً إلى درجة توشك أن تذهب بالمتصفح الملتزم إلى شفير الغثيان. وتكاد لا تختلف الحال، لهذه الجهة بين أن يكون المتصفّح طرفاً في الجدال وأن يطّلع عليه وهو يتفقّد موادّ منشورة.

ومن كلام “فرند” لي أن الفيسبوك إنما هو، في واحد من تجلّياته، شارع. ويعبُر هذا الشارع أناسٌ من ذوي الأدب ولكن يرابط فيه آخرون أيضاً يصحّ وصفهم بـ”أولاد الشارع”. ولعلّ عبارات صاحبي تصبح أكثر إنصافاً للفيسبوك وأهله إذا أبرزنا قابليتها للقلب رأساً على عقب. ففي وسع “أولاد الشارع” أن يكونوا هم المارّة العابرين لضيقهم بالمتابعة وفي وسع ذوي الأدب أن يكونوا هم المرابطين للزومهم الذودَ عن قضيّة يحرصون عليها. ذاك إذن وصف يصحّ فيه الوجهان على قول النحويين.

…وهذا، أيّاً يكن الأمر، ما ارتأيت تسجيله فيما أنا ذاهب إلى غيبة عن الفيسبوك قد تكون الكبرى وقد لا تكون.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى