صفحات العالم

ما يشبه الكتاب المفتوح إلى الرئيس السوري بشار الأسد

 


طلال سلمان

ليس ما تشهده سوريا، هذه الأيام، من اضطراب سياسي يغلب على معالجته الطابع الأمني بنتائجه المأساوية، شأناً داخلياً لا يخص إلا شعبها ونظامها، بل هو شأن عربي عام يستولد القلق، ويكاد يكون ـ بالنسبة إلينا في لبنان ـ شأناً داخلياً لبنانياً يؤثر فينا، بالسلب والإيجاب، بقدر تأثيره في سوريا وعليها وربما أكثر لاعتبارات عديدة يختلط فيها السياسي بالأمني والاجتماعي بالاقتصادي، اختلاط الماضي والحاضر في العلاقات العائلية والمصالح المشتركة وحدود الدولتين.

وبرغم أن آراء اللبنانيين في النظام القائم في دمشق ليست موحدة، وربما ليست متقاربة، إذ إن بعضهم يراه قلعة للصمود ومصدراً للعون وبعضهم الآخر يراه طرفاً في النزاعات الداخلية ينصر الفريق القائل بمرجعيته على الفريق الداعي إلى مخاصمته، لكن ذلك لا يؤثر في حقيقة أن التجارب قد أثبتت، دائماً، أن ارتجاجه يكاد يكون بمثابة زلزال في المنطقة وإن ظل لبنان المسرح الطبيعي لأخطر تداعياته، حتى وإن أفاد منها بعض المتعيشين على نكبات الشعوب العربية الأخرى والذين سرعان ما يثبت أنهم كانوا في طليعة المستفيدين من إنعامات ذلك النظام.

ومؤكد أن ثبات هذا النظام الذي حكم سوريا منذ عام 1970 وحتى اليوم، وعبر رئيسين هما الأب ـ المؤسس الراحل حافظ الأسد ثم نجله الدكتور بشار الأسد، قد وفر استقراراً كان مفتقداً في سوريا، مما مكّنه من أن ينتزع دوراً مؤثراً في شؤون المنطقة عموماً، باعتباره «حارس البوابة الشرقية» كما كان يحلو لأنصاره أن يصفوه، في حين رأى فيه منافسوه في أنظمة أخرى تحكم دولاً أكبر من سوريا وأغنى منها بما لا يقاس «تجاوزاً» وانتزاعاً لما كانوا يرونه من «حقوقهم»… ثم سلموا بذلك الواقع الذي أقرته الدول الكبرى بالقيادة الأميركية وسلمت به انطلاقاً من أهمية الاستقرار في منطقة قابلة للاشتعال دائماً بالثورة أو بالنفط، كما بالعجز عن مواجهة الاحتلال الإسرائيلي الذي تجاوز حدود الأرض الفلسطينية إلى الإرادة العربية جميعاً.

مؤكد أيضاً أن هذا النظام قد أضاف إلى رصيده بمشاركته مع مصر في حرب تشرين ـ أكتوبر (1973) التي كانت الوحيدة بقرار عربي، بغض النظر عن نتائجها الميدانية التي فرضها قرار آخر لم يكن عربياً وإن صادق عليه من كان يملك حق التوقيع في مصر.

تمكن الإشارة إلى محطات كثيرة على طريق التفويض الدولي لسوريا بالشأن اللبناني على امتداد مرحلة الوجود الفلسطيني المسلح (من أواخر الستينيات وحتى الاجتياح الإسرائيلي عام 1982)، ثم عبر الحرب الأهلية التي جددها اتفاق 17 أيار 1983، عبوراً باتفاق الطائف الذي جدد هذا التفويض وقننه، (أيلول 1989)، وبإسقاط «التمرد العسكري» الذي قاده العماد ميشال عون (تشرين الأول 1990)، والذي انتهى بإطلاق يد النظام السوري في إعادة صياغة الحكم في لبنان، تقديراً لمشاركته في «تحرير الكويت» بإخراج قوات صدام حسين منها (آذار 1991).

فقط بعد الاحتلال الأميركي للعراق (نيسان 2003)، تمت إعادة النظر بذلك التفويض، خصوصاً أن القيادة السورية الجديدة ممثلة بالرئيس بشار الأسد، اتخذت موقفاً اعتراضياً حاداً موجبه البديهي ـ فضلاً عن المبدئي ـ التخوف من أن يتمدد هذا الاحتلال في اتجاه دمشق… وهكذا تم تحويل لبنان من رصيد إضافي للقيادة السورية إلى عبء عليها، فكان الرد بالتمديد للرئيس إميل لحود على القرار الدولي 1559، ثم توسعت دائرة الاشتباك السياسي حتى جاءت جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري بكل ملابساتها، وكان لا بد من خروج الجيش السوري من لبنان بطريقة لم تكن تليق بتضحياته فيه، قبل مشاعر الأخوة وبعدها.

على أن حقائق التاريخ والجغرافيا، مع الإفادة من دروس التجربة المرة، قد أعادت إلى الدور السوري في لبنان وبأسرع من التوقع الكثير من الاعتبار عبر ثبوت ضرورته.

[ [ [

لم تكن هذه الاستعادة السريعة لمراحل الدور السوري في لبنان ضرورية إلا لتوكيد المؤكد من الترابط والتداخل والتأثير المتبادل لأوضاع كل من البلدين التوأمين على الآخر، خصوصاً أن تركيبتهما البشرية متداخلة فضلاً عن تشابهها، في غناها بتنوع «الأقليات» فيهما، وإن تميزت سوريا بتعدد «العناصر» داخل هويتها العربية، فضلاً عن الأديان والطوائف والمذاهب والشيع.

من هنا هذا القلق العام في لبنان على سوريا ونظامها يواجه ـ متأخراً ـ مطالب بالإصلاح، السـياسي والاقتصادي والثقـافي والإعلامـي، كان سبق له أن تعهد به باعتباره ضرورة لحكمه الذي «يتمنى أن يقدر معه على إعادة صياغة النـظام الذي أصـابه اليبـاس لكي يصبـح جديـراً بالانتماء إلى العصر».

ولقد فوجئ اللبنانيون ـ كما السوريون بالتأكيد ـ باستخدام الرصاص في مواجهة مطلب الإصلاح، وباستعادة تقاليد عتيقة وغير مقنعة في تبرير بائس لاضطرار قوات النظام إلى السلاح، كما في اتهام «المندسين» في صفوف المتظاهرين، وفي استخدام صور شاحبة ولا صدقية لها لأشباح اتهمها الأمن بافتعال الشغب والتسبب في المأساة الجديدة.

لم يكن بين مطالب المتظاهرين إسقاط النظام، بل إصلاحه، وهو ما كان تعب الرئيس بشار الأسد من الدعوة إليه، متعهداً بالقضاء على الفساد والفاسدين (المعروفين بالاسم) والذين أساءوا إليه وشوّهوا صورة حكمه.

ولم يستهدف المتظاهرون، الذين كان القمع يزيد من أعدادهم يوماً بعد يوم، الحكم، بل كانوا يتوجهون إليه مطالبين بحرية العمل السياسي، وحرية القول والنشر، وحرية الحركة، بعيداً عن قيود قانون الطوارئ، وبعيداً عن جمود الحزب الواحد الذي كشفت الأحداث أنه لم يعد ومنذ زمن بعيد المصدر الشرعي للقرار، ولا هو استطاع الحفاظ على الحد الأدنى من القدرة على إقناع الجماهير فضلاً عن الصلة الحميمة بها.

كان المتظاهرون يطالبون بما تعهد به الرئيس بشار الأسد نفسه، وفي أكثر من لقاء مع نخبهم إضافة إلى بعض لقاءاته مع زوار أجانب فضلاً عن بعض تصريحاته الصحافية.

وكانت «جماهير الشعب في سوريا»، كما يصر الإعلام الرسمي على التوصيف، تريد من الرئيس أن ينحاز إليهم ضد نظامه «الذي يستعصي على الإصلاح»، كما نقل عنه في أكثر من مناسبة، مؤكدين أنهم سيدعمونه ضد أية «مقاومة من الداخل».

وحتى بعد المذبحة الأولى في درعا، والتي لم يكن لها ـ باعتراف النظام نفسه ـ ما يبررها، ويبرر بالتالي ما رافقها من «أعمال شغب» في مدن وجهات سورية أخرى، ظل الشعب على ثقته «بالسيد الرئيس»، ينتظر منه الوفاء بما التزم به من إلغاء قانون الطوارئ وسائر الإجراءات الزجرية التي طالما أقدمت عليها جهات غير محددة المسؤولية.

لكن خطاب الرئيس بشار الأسد أمام مجلس الشعب جاء مخيباً للآمال، بل إنه جاء دون ما وعدت به الناطقة الرسمية باسم الرئيس في بيانها الأول.

وقد أدى التأخير إلى تجدد المواجهات في العديد من المدن، وكان الشهيد الأكبر في كل ذلك: الثقة في الرغبة أو القدرة على إنجاز التعهد بالإصلاح، وبالسرعة اللازمة لوقف التفاقم في الأزمة التي غدت الآن في الشارع وتحتاج إلى جهد خرافي لرفعها منه.

[ [ [

على أن الوضع ما زال قابلاً للمعالجة بكثير من العقل وكثير من الإيمان بحق الشعب في أن يُسمع صوته، وهو الذي طالما ضحى برغد العيش وبحقه في التقدم، من أجل حماية الدور الكبير لوطنه، ووفر الدعم العظيم لرئيسه وهو يتقدم على أقرانه من القادة العرب في المكانة والقدرة على التأثير ليس في محيطه القريب فحسب، وكذلك على مستوى الإقليم جميعاً… مع الإشارة إلى أن هذا الدور كان ثقيل الكلفة على حركة الإنتاج في الداخل.

إن أنظمة عديدة في الوطن العربي تهاوت أو هي تتهاوى الآن لأنها أضاعت الطريق إلى الغد، وحاولت أن تحبس شعوبها في الماضي.

وكان الأمل وما زال في أن الرئيس بشار الأسد أكثر وعياً بحقائق العصر، وأكثر إيماناً بحق شعبه في الحرية والتقدم ليؤدي دوره في بناء وطنه، بعد التخلص من المعوقات والبيروقراطية وهواجس أجهزة الأمن التي تشتبه في مواطنيها، بداية، ثم تتمهل في تبرئتهم والتسليم بوطنيتهم، (حتى مع وعيها بأن السوريين قد أثبتوا عبر محنة وجود جيشهم في لبنان، ثم عبر المهانة التي لحقته عند خروجه منه، أنهم يتمتعون بحس بالكرامة الوطنية ولا أرفع سرعان ما عبروا عنه بالتفافهم حول قيادتهم وحول جيشهم الذي كان يستحق وداعاً أكرم ووفاء أعمق من اللبنانيين).

إننا، ومن أجل سلامة لبنان ووحدته إضافة إلى حرصنا على سوريا ومكانتها ودورها المميز في منطقتنا، نتوجه إلى الرئيس السوري بشار الأسد أن يوقف هذا التدهور في مسار الأحداث، وأن ينجز تعهده بمباشرة الإصلاح، فوراً، وإقرار الخطوات الحاسمة لمساره قبل أن تسبقها التطورات الدموية التي يمكن أن يستخدمها أصحاب العقل الأمني كمبرر لتعطيل المسيرة في اتجاه الغد، حتى لو كان الثمن سجن البلاد ونظامها في الأمس الذي آن له أن ينتهي.

والكلمة ما تزال للرئيس الشاب، لكن الوقت كالسيف.

السفير

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى