صفحات سوريةطيب تيزيني

مبادرة عنان: اللاحق في السابق!

 

طيب تيزيني

أخيراً، أعلن كوفي عنان استقالته من المهمة التي أنيطت به منذ عدة أشهر، والتي حددها بستِّ نقاط جاء مطلب إيقاف لغة السلاح في سوريا بكيفية كلية، بوصفه تجسيداً للنقطة الأولى منها. ومرت الأسابيع والأشهر، ورافقتها أحداث جسام تجلّت في تصاعد استخدام تلك اللغة وفي نتائجها الخطيرة والمأساوية، التي حملت مزيداً من القتل والقصف والحرق والاختطاف والاستباحة في سوريا المنكوبة. لكن لوحظ في بداية الانتفاضة أن ثمة من يرغب، بإصرار، في مواجهة هذه الأخيرة بأسلوب من المحاربة يؤدي أو قد يؤدي، إلى تحولها لِحَدث مسلح بامتياز، وذلك باستبدال الأسلوب السلمي الذي واجهت به السلطة السورية خصومها من دعاة “الحرية والكرامة والعدالة”، بأسلوب قمعي مسلح، وهكذا انطلقت الرصاصة الأولى من تلك السلطة، لتُحدث اضطراباً وهلعاً ودهشة في أوساط الشباب المتظاهرين.

وكان التساؤل المركَّب الكبير قد ظهر في أوساط الشعب السوري، بالصيغة التالية: لماذا الرصاص، أما كان من المحتمل جداً المصادرة على التطورات الخطيرة القادمة، عبر القيام بخطوات إصلاحية حقيقية وأوّلية، تهدئ الناس بمحاسبة رؤوس من الفاسدين المُفسدِين؟ لم يُسْتجب لذلك، بل بُدئ بـ”خط النار”! وجاءت دعوة السلطة إلى “الحوار”، فكانت هذه الدعوة بمثابة اختبار لها هي نفسها في مسألة الثقة والمصداقية والاحترام. وكانت الدعوة قد وُجّهت لعدد من المعارضين، وكنتُ من ضمنهم، فرفض هؤلاء أو معظمهم الدعوة، واستجبتُ أنا لها. وكان اللقاء في دمشق، وكان لي أن أكون أول المتحدثين، في حين أن عدداً من المعارضين خرجوا من سوريا إلى تركيا وفرنسا، مفرّطين -للأسف- بأهمية البقاء في سوريا لممارسة نشاطهم، حتى لو كان ذلك تعبيراً عن بعض خسارة هي ربحية العمل السيا- ثقافي في الخارج.

 كنت أول المتحدثين، حيث أعلنتُ أن حواراً تحت السلاح لا يمكن أن يكون طريقاً سليماً للوصول إلى توافقات بين الأطراف، أو أن يكون فاعلاً وقادراً على ضبط الحوار بندِّية وحرية وإبداعية حقيقية وفاعلة. لقد جاءت مداخلتي المفصَّلة نسبياً، حيث أشرت إلى أنه كان يمكن أن يكون عملاً حقيقياً وفعالاً، لو وقفتُ أمام زملاء الحوار ضمن ظروف حوارية أكثر تنظيماً ومصداقية. أما هذه الظروف فقد ضبطتُها بالنقاط التالية: 1) أن يبدأ “لقاء الحوار الاستشاري” المعني، بعد أن يكون قد دعت إليه “لجنة حوار وطنية” مؤسَّسة من كل أطياف المعارضة السورية. 2) أن تضع هذه اللجنة جدول أعمال اللقاء، أو أن يُتفق على آلية هذه العملية وعلى ما يتصل بها. 3) يكون إسكات كل أدوات العنف المسلح مدخلاً إلى مواجهة الاستحقاقات الوطنية الكبرى، التي تواجه المعْنيين، بالحوار، بمن في ذلك طرف السلطة، الذي يبرز، والحال كذلك، طرفاً مثل كل الأطراف الأخرى. 4) الإفراج عن معتقلي الرأي والضمير، وعن معتقلي النشاط السياسي. 5) تشكيل مؤتمر وطني عمومي من كل الأطياف المعنية، يؤسس لخطوات حاسمة، تقف في مقدمتها التالية: التأسيس لانتخابات برلمانية ديمقراطية، ولانتخاب رئيس للبلاد (يستقيل مباشرة من الحزب الذي ينتمي إليه بعد نجاحه مباشرة)، إضافة إلى تشكيل حكومة انتقالية. أما الخطوة الأخرى على هذه الطريق فرأيناها ماثلة في تأسيس “محكمة عادلة” وبمراقبة دولية لمحاكمة مَن أوصل الأوضاع إلى الحل العسكري الأمني، ومَن أعطى أوامر للقتل والحرق والتهجير والاعتقال وغيره، مِمَّن قام من المسؤولين بالإشراف على تنفيذها. لم يتحقق شيء من ذلك بفضل المستشارين والمسيطرين. ولعلنا نرى أن هذه الطريق الدموية لن تتوقف بواسطة آلياتها الداخلية. كان فشل عنان طبيعياً!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى