صفحات العالم

متطلبات ‘الواقعية الثورية’ في سورية


د. عبدالوهاب الأفندي

(1) في عام 2005، صادقت قمة عقدتها الأمة المتحدة في نيويورك على تبني مبدأ ‘مسؤولية الحماية’، أي مسؤولية المجتمع الدولي عن حماية المدنيين ضد الفظائع الجماعية. وقد حضر هذه القمة غالبية الزعماء العرب، بمن فيهم قادة سورية واليمن وليبيا ومصر والسودان وصوتوا لهذا القرار.

(2)

يقوم مبدأ ‘مسؤولية الحماية’ على فكرة كان من أول من عبر عنها الدبلوماسي والأكاديمي السوداني د. فرانسيس دينق في كتاب أعده مع مجموعة من المنظرين الأمريكيين عام 1996 بعنوان: ‘السيادة كمسؤولية’. وتتلخص الفكرة في أن سيادة الدول تستتبع مسؤوليات، أهمها الحفاظ على أمن وسلامة مواطنيها. فإذا قصرت في المهمة، أو أصبحت هي مصدر الخطر على مواطنيها، فإن سيادتها تفقد المشروعية، ويصبح من حق، بل ومن واجب، بقية الدول التدخل لإنقاذ المواطنين.

(3)

يكرس هذا المبدأ ممارسات وقعت بالفعل في فترة ما بعد الحرب الباردة، مثل فرض حظر جوي على شمال العراق لحماية الأكراد، والتدخلات في سيراليون وليبيريا والبوسنة وكوسوفو وتيمور الشرقية وغيرها.

(4)

بعض الخبراء ممن انتقدوا تبني هذا المبدأ حذروا من مغبة أن يشجع الثورات في دول كثيرة، طمعاً بتدخل أجنبي. ولكن الشكوى الأكبر كانت ولا تزال من التقاعس عن التقيد بهذا المبدأ. وفي هذا الصدد فإن ليبيا كانت الاستثناء لا القاعدة. ولعل العجب هو أن القيادة الفلسطينية لم تطلب بعد تفعيل هذا المبدأ لحماية المدنيين في فلسطين.

(5)

تعتبر سورية التجسيد الحي للمحذور الثاني. فالسوريون لم يكونوا يأملون بتدخل خارجي حين فجروا ثورتهم، إذ لم يكن التدخل الأممي في ليبيا قد وقع بعد، بل كان مثالهم هو تونس أو مصر، حيث نجح الشعب بقوته الذاتية في إسقاط النظام. ولكن العالم لم يتقيد بمبدأ ‘مسؤولية الحماية’ تجاه المدنيين هناك رغم أن معاناتهم تتلفز يومياً.

(6)

علقنا في السابق على الشجاعة التي أبداها السوريون ـ وقبلهم الليبيون- وهم يعلمون حق العلم أن حكوماتهم لا ترقب في مؤمن إلاً ولا ذمة وأنها مستعدة، كما أسر للمعارضين أحد المقربين من الأسد، لقتل نصف السوريين لتبقى في الحكم. ولكن هذا التهديد لم يرهب الثوار الذين أعلنوا بوضوح أنهم لن يعيشوا أذلاء بعد اليوم.

(7)

مع ذلك فإن من الملاحظ هو أن هناك تضارباً في تصريحات ـ وتوقعات- ثوار سورية، كما يظهر من رفض أي مبادرة تشمل آليات للحوار مع النظام، في حين ترتفع الأصوات مطالبة بتدخل أجنبي، يشمل حظر الطيران وحماية المدنيين. ولكن أي جهة خارجية تتدخل لا بد أن تشترط الحوار.

(8)

هناك فهم ملتبس لدروس وعبر النموذج الليبي عند بعض ثوار سورية، لأن التدخل هناك لم يقع إلا بعد أن حققت الثورة هناك معظم إنجازاتها الحقيقية، حيث تمكن الثوار منذ أيام الثورة الأولى من تحرير مدن بنغازي والبيضا وطبرق. وخلال أقل من شهر أكملوا تحرير معظم مدن الشرق، إضافة إلى الزاوية ومصراتة وعديد من مدن الجبل الأخضر. وهذه إنجازات لم تتحقق مثلها في سورية بعد.

(9)

ثوار ليبيا لم يجزموا برفض الحوار أو المبادرات الخارجية من افريقية وأممية، بل بالعكس، استخدموا هذه المبادرات لدعم قضيتهم، خاصة لجهة عزل النظام وفضح ممارساته. وبهذه الطريقة نجحت الثورة في تحقيق إجماع دولي حول مطلب وقف العنف وسحب كتائب القذافي من المدن التي احتلتها أو هاجمتها. وكان رفض القذافي لهذه المطالب هو الذي عزله وأغلق باب الحوار معه.

(10)

من هنا فإنه من الحكمة أن تقبل المعارضة السورية بالمبادرة العربية وأي مبادرات أخرى كخطوة لتعميق عزلة النظام وفرض تراجعات تكتيكية عليه. فإذا قبل النظام سحب الدبابات وإطلاق سراح المعتقلين، فإن هذه خطوة متقدمة تتيح المجال لتعبئة الاحتجاجات الشعبية بصورة أوسع، وتمهد المجال لانشقاقات عناصر الجيش وتمركزها في مدن محررة. أما إذا لم يقبل أو لم ينفذ، فإن هذا يفاقم من عزلته ويمهد الطريق لمزيد من الضغوط الخارجية عليه.

(11)

مهما يكن فإن التدخل الخارجي المباشر بفرض حظر للطيران أو قصف أو قوات أجنبية في سورية مستبعد في الظرف الحالي. وعلى الثوار في سورية أن ينتهجوا نهج الواقعية الثورية، وأن يبنوا حساباتهم على استبعاد التدخل حتى تحقق الثورة نجاحات كافية تقنع الخارج. من الحكمة كذلك أن تستخدم الثورة الخطاب المعتدل، فلا تنادي بإعدام الرئيس ونحو ذلك من الشعارات، أو تصرح برفض الحوار، بل لا بد من أن تترك التشدد للنظام، وهو كفيل بذلك. في المرحلة الحالية، يجب أن تركز المعارضة على حرية التظاهر والتعبير، ومطالبها العادلة في وقف العنف وإطلاق المعتقلين تمهيداً للتغيير الشامل.

(12)

لا يمنع هذا أن النظام الأسدي قد سقط حكماً، لأنه فقد مقومات السلطة والدولة منذ وقت طويل. ولن يستعيد أبداً صفة الدولة حتى ولو اعترفت به المعارضة وتخلت عن مطالبتها بإسقاطه. ولعل في قبوله المتعجل والمضطرب بالمبادرة العربية اعترافاً بعمق أزمته، خاصة وأن تسارع وتيرة انهيار الجيش أنذرته بقرب النهاية. ولكن لأن النظام يعرف ذلك، ولأن تجربة القذافي ماثلة أمام قياداته، فإنه سيحارب بشراسة حتى النهاية. ومن هنا ينبغي على الثوار التفكير في تكتيكات جديدة تعجل من انهيار النظام من الداخل، وبالاعتماد في ذلك على موارد الداخل أو مساعدات غير مباشرة هي دون التدخل.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى