كتب ألكترونية

متعة القراءة: دانيال بناك

دانيال بناك حول «متعة القراءة»: دستور جديد للقراءة وللقارىء/ هاشم شفيق

يمكن وصف الكتاب بأنه ذلك العالم الساحر، العالم الذي يخفي في نسيجه حيوات وكائنات وعوالم أخرى، يلعب فيها المتخيل والواقع والحوادث أداة ديمومة للبشرية، إذ حافظ الكتاب منذ نشأته في البرديات، على تاريخ الإنسان، كل شيء مرّ على مدار الحياة والأزمنة الماضية كان مدوناً في كتاب. لذا فأي كتاب لا بد وأن يعود بالفائدة للكائن البشري. أما الكتب الجميلة التي يصادفها المرء في حياته فهي تبقى قليلة، من هنا تغدو القراءة هي العون والدليل والمرشد إلى هذا العالم الغامض، عالم الكتاب، كونها هي الوحيدة التي تستطيع فك مغاليق الكتاب ونبش أسراره وأخباره ومحتواه، متقصية المعنى والمدلول والحياة الأخرى الكامنة فيه.

من الكتب التي صادفتها في حياتي وقرأتها وهي تتحدث عن القراءة والكتب، والتي تعتبر نزرة وقليلة دون شك، تلك التي يصف فيها الكاتب هذا الكون المبهم الموجود داخل صفحات ورقية طبعت على شكل كتاب، من بين هذه الكتب يمكن الإشارة إلى كتاب «تاريخ القراءة» لألبيرتو مانغويل، وهو يعد من الكتب النادرة والمشوقة، ففيه يتحدث الكاتب عن عوالم الكتب التي قرأها في حياته وخلفت أثراً كبيراً في تكوينه الشخصي والحياتي، وصحّحتْ مساره اليومي وعدّلت من رؤيته وسلوكه، ورسمتْ حتى مستقبله.

كان هذا الأرجنتيني مانغويل قد عمل لدى الكاتب الشهير بورخيس، هذا المبدع الكفيف والذي كان يحب القراءة بشكل غير طبيعي ويحتاجها كما يحتاج طعامه اليوم. عمل قارئاً له لمدة عامين، قضاهما في صحبته وصحبة تلك الكائنات الخفية التي تظهر فجأة من متون كتاب لتزيد لديه متعة العمل وتضيف إليه الدهشة والسحر والفتنة التي تمنحها تلك الشخصيات والحكايات وتضيف المعرفة التي يتفوه بها الكتاب عبر الحروف التي تجري متسقة من صفحة إلى صفحة، من مكان إلى آخر، من زمن إلى زمن مختلف، من فكرة بسيطة إلى أخرى معقدة، وهكذا دواليك حتى يتم الكتاب معانيه ويؤدي رسالته التاريخية عبر لغته الفنية ومفاهيمه ومدلولاته المعرفية.

الكتاب الآخر الذي تحدث عن أثر الكتب أيضاً، هو كتاب هنري ميلر «الكتب في حياتي» وهو من الكتب النادرة والثمينة التي يسرد فيها ميلر ولعه بالكتاب وما يتركه من سحر عليه.

لقد تحدث هنري ميلر ذلك الكاتب الأمريكي الخطير، عن تلك المهنة، مهنة القراءة، التي كان يقدسها ويجل من قرأهم وأثّروا فيه وأثْروا حياته، كان يعيد الكتاب المهم والممتع مرات عديدة لكي ترسخ فصوله وأجزاؤه في ذهنه، من أجل متعة ولا ألذ في هذا العالم الواسع،عالم القراءة، هذا العالم المشيّد في دفة الكتب التي يحبها الإنسان ويقدّر محتواها، المتون والهوامش وتفاصيلها الدقيقة .

مما قرأته مؤخراً حول هذا العالم الكتبيّ، كتاب أنيس حقاً، اسمه «متعة القراءة « وهو سيكون مدار حديثي عنه بشكل مفصل.

يتكون الكتاب من أربعة فصول رئيسية، تتفرع منها فروع تابعة لكل فصل تشي بمحمول النص وما يقدمه الفصل أيضاً وقد جاءت هذه الفصول الأربعة تحت هذه العناوين : الفصل الاول «الخميائي» والثاني «يجب أن تقرأ ـ عقيدة لا تناقش» والثالث «التشجيع على القراءة»، والرابع والأخير»ما الذي سيقرأه الآخرون ـ أو حقوق القارئ الدائمة».

مؤلف هذا الكتاب هو الفرنسي دانيال بِناك، قام بنقله إلى العربية يوسف حمادة، وهو من الكتب النادرة التي تتحدث بطريقة مختلفة عن روح الكتاب بشكل عام، مثل الورق ولونه، وعتقه وجمال غلافه والحروف والألوان التي تتخلله، والصمت الموجود بداخله وحتى الفراغ الذي يتخلل الصفحات وما تتركه اليد من لطخات فيه، أو تجرحه حين تطوي رأس صفحته كعلامة نستدل بها عليه.

يحتوي الكتاب على مادة تعليمية مصحوبة بخبرات وتجارب على القراءة للمراهقين والأطفال والفتيان الذين يحاولون التملص من فعل القراءة والانشغال بعالم اليوم وتقنياته الكثيرة التي أفسدها اولاً التلفزيون والسينما على نحو أقل، والمكتشفات الحديثة التي هيمنت على العقل البشري بشكل عام.

إذاً داخل فصول كتاب ما، هم يختارونه يقوم معلمون تربيون بتجارب مع هكذا طلاب، لا يستطيعون القراءة أو مواصلة فعل القراءة، خارج دروسهم، وحتى الحصص المدرسية المرسومة لهم مثل قراءة الأدب والروايات يحاولون الفرار منها مقدمين العلل والمبررات والأعذار ايّاها، بعدم وجود الوقت الكافي لمتابعتها، هؤلاء الأساتذة التربويون يحصون في عملهم هذا زمن القراءة لكل فرد، كم يقرأ في اليوم، وكم ساعة يشاهد التلفزيون الذي يصفه الكاتب بالعدو وبالمفسد الأكبر، لهذا نجدهم يقومون بتجارب كثيرة مع طلاب بعينهم، حتى يتوصلون إلى نتائج في نهاية المطاف، مهمة وكبيرة عبر طُرق تدريسهم وتنشيط وعيهم والمغريات الحكائية التي تقدم لهم كوصفات دوائية من العبر والكلمات يأخذونها كمرهم يساعدهم في فعل القراءة، وهنا قد يجد الأستاذ والقائم بالتجربة النجاح أو الإخفاق الذي لا يمل منه حتى يستطيع إيصال جمال القراءة إليهم بشتى الطرق والأساليب والمداخل، مُدخلا عليهم برامج قرائية لروايات وحكايات فيها يعمل العقل على الحبكة والبناء ومعرفة التصرف بالأزمنة وما يجلبه الوقت من نوافع وما يدرّه من جماليات عليهم.

فهو حين يتحدث في الفصل الأول عن دور التلفزيون في إفساد العقل الفتي وتخريب الذهن وتحطيم النبوغ لدى البعض من الطلبة، فهو يصف هذه المادة المتحركة عبر الصورة أي التلفزيون، بالحماقة، وقلة الأدب والعنف المستخدم في البرامج والتمثيليات قائلا: شيء غير معقول، لم يعد بالإمكان تشغيل الجهاز دون رؤية الرسوم المتحركة اليابانية … ليست المسألة مسألة برامج فقط، انه التلفزيون بذاته، السهولة…سلبية المشاهد، نجلس ونقلب المحطات….. تشتت…. على الأقل يسمح ذلك بتجنب الإعلانات…. ، ولا حتى هذا، فلقد طوّروا نظاماً يجعل البرامج متزامنة، بحيث إذا هربت من إعلان تقع في إعلان آخر، وأحيانا يكون الإعلان نفسه…..ما يصدمني هو عدد الساعات التي يقضيها الأولاد أمام التلفاز مقارنة بساعات اللغة الفرنسية في المدرسة».

من هنا يجد وسط هذه الأجواء وهذا العالم الصاخب، المليء بجبال من الصور والمشاهدات والتفاصيل التي تزداد يوماً بعد يوم، يجد فعل القراءة فعل خلق، ومن ثم يضيف أن المشكلة لا تتحدد بالتلفزيون وحده أو السينما، بل بالهجمة الإلكترونية والألعاب الالكترونية وجنون العالم الاستهلاكي، حيث الووك مان والماركات المبتكرة للأزياء والأحذية وقصات الشعر ودور الموضة وغيرها الكثير هي التي أحدثت ذلك الخلل البنيوي لدى شرائح واسعة من المجتمعات الحديثة، متحدثاً عن جيله قائلاً: «طبعاً عندما كنا مراهقين، لم نكن زبائن مجتمعنا، أقول زبائن من وجهة نظر تجارية وثقافية، كان المجتمع يومها مجتمع بالغين، ثياب مشتركة، أطباق طعام مشتركة، ثقافة مشتركة، كان الأخ الأصغر يرث ثياب الأخ الأكبر، نأكل الوجبات نفسها ونجلس على الطاولة نفسها، ونقوم بالنزهات يوم الأحد …… كان كل شيء يتم في عالم المجانية، المجانية عملة الفن الوحيدة».

في الفصل الثاني يُجري أحد أساتذة اللغة الفرنسية استطلاعاً حول رأي لفلوبير، وهو نصيحة لإحدى المعجبات بنثره الأدبي، والنصيحة تتمثل بقوله هذا: «اقرئي لكي تحيّي» فجاءت النتيجة مرتفعة في صفه وكان جميع الطلاب يقف مع رأي فلوبير الذي حوّلوه هم إلى صيغته التالية وكل حسب طريقته: «نقرأ كي نعلم من نحن، كي نعلم ما يجري في العالم، كي نعرف الآخرين بشكل أفضل، كي نعلم إلى أين نمضي، كي نحافظ على ذاكرة الماضي، كي نضيء الحاضر، كي نكسب الوقت، كي نفرّ من الواقع، كي نبحث عن معنى للحياة، كي نمارس فكرنا النقدي…» إلى آخر الآراء التي أوردها الطلاب وجُلّها يحمل معنى دالاً ورأياً صائباً، وجملة حياتية مضيئة أضاءت جوانب خفية حتى للأستاذ نفسه الذي تفاجأ بهذه الردود التي تتشبه بالحكمة والإمثولة.

أحد المدرسين، وما زلنا في تضاعيف الفصل الثاني ومغاراته الكثيرة، يتذكر قول جان جاك روسو حول تعلم القراءة التي تجره إلى نوعية القراءة ومن ثم سعادتها، خصوصاً إذا اشتركنا معاً في كتاب معين فهو حقاً سيسعدنا جميعاً ويدلنا على ماذا أعطانا الكتاب، فيلخص هذا الأستاذ السعيد بالقراءة، يلخصها بأنها فعل مقاومة، ولكن مقاومة من؟ فهنا يستدرك ليقول إنها فعل مقاومة: «كل العوارض الممكنة، اقتصادية ـ مهنية، نفسية ـ عاطفية ـ مناخية ـ عائلية ـ منزلية، قطيعية ـ مرضية ـ آيديولوجية ـ أو نرجسية، وعلاوة على كل ذلك لمحاربة الموت» فالقراءة الذكية بحسب تعبيره تنقذ الإنسان حتى من نفسه.

ثم يستطرد الأستاذ أو الكاتب المتخفي وراء السرد بسرد أمثلة حول ذلك مستعيناً بكافكا الذي كان يقرأ لمحاربة مشاريع أبيه التجارية، أو مثل الكاتب تيبودي وهو يقرأ مونتيني في خنادق معركة فردان، أو ذلك المؤرخ والناقد الأدبي والطبيب الغارق في قراءة مالارميه أثناء الاحتلال والسوق السوداء، أو مثل ذلك المريض الذي ذكره الشاعر الفرنسي بول فاليري حين خضع المريض لعملية جراحية بدون تخدير وكان يردّد بين ذروَتي الألم قصيدة كان يعشقها، ولا ينسى الكاتب هنا رأياً لمونتسكيو الذي لطالما ردّد أن «الدراسة شكلت بالنسبة له علاجاً عظيماً ضد أشكال القرف، فلم يصبني حزن ما إلا وانتشلنتي منه القراءة».

ثم ينحدر الكاتب بسلاسة ومتعة وتجل واضح وهو فرح بتصوير معاني القراءة، إلى عالم الإنسان الحديث اليومي، وإلى وقته كيف يقضيه خلال مدار الساعة، وعن دور الكتاب خلال هذه الأوقات المجتزأة من الحياة لمتابعة عوالم الكتب التي لا تحصى، وهي تخفي جواهرها المستترة، فيرى في الكتاب ملجأ بقوله «على اختلاف ساعات النهار يحمي ملجأ الكتاب من قرقعة صوت المطر، ويقاوم إبهار الصفحات الصامت ضجة المترو، ومثل ذلك الرواية المخبأة في درج السكرتيرة، وقراءة الأستاذ القصيرة، بينما يقوم التلاميذ بالجواب على أسئلة الإمتحان».

هل القراءة هي وقت مختلس؟ أجل يجيب الراوي الذي يحكي مآثر الكتاب، وذلك في الفصل الثالث من الكتاب، واصفاً هذا الوقت المسروق من العيش، بأنه يشبه وقت العشق المسترق من الحياة، وأنه كما يرى «زمن القراءة يزيد مثل زمن العشق من طول زمن العيش».

وقبل أن نختم نقول بدورنا، هل يضع الكاتب دانيال بناك دستوراً جديداً للقراءة، دستوراً فيه المزيد من الحريات، ليقف به إلى جانب القارئ الذي يحق له كما وضح ذلك في الفصل الرابع والذي يبيّن فيه حقوق القارئ فيجملها في هذه الحقوق الآتية «الحق في عدم انهاء كتاب ـ الحق في إعادة القراءة ـ الحق في قراءة اي شيء ـ الحق في القراءة في أي مكان ـ الحق في أن نقطف من هنا وهناك ـ الحق في البوفارية (نسبة إلى مدام بوفاري)، وهو ذلك الإرضاء المباشر والحصري لأحاسيسنا- الحق في القراءة بصوت عال ـ الحق في أن نصمت» ويقصد هنا الصمت أثناء القراءة.

لا أريد أن أضيف المزيد من الثناء على الكتاب، فجماله من وجهة نظري تكمن في قراءته، فهو من الكتب النادرة .

 

«دانيال بناك: «متعة القراءة

ترجمه عن الفرنسية يوسف الحمادة

ادار الساقي، بيروت 2015

158 صفحة

 

حمل الكتاب من الرابط التالي

 

متعة القراءة: دانيال بناك

 

 

صفحات سورية ليست مسؤولة عن هذا الملف، وليست الجهة التي قامت برفعه، اننا فقط نوفر معلومات لمتصفحي موقعنا حول أفضل الكتب الموجودة على الأنترنت

كتب عربية، روايات عربية، تنزيل كتب، تحميل كتب، تحميل كتب عربية.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى