صفحات الثقافة

متلازمة الأيدي العاجزة/ خليل يونس

كنت أقود سيارتي متوجهاً إلى مكان ما، لا أذكر بالضبط من أنا، فلقد استعدت وعيي في منتصف أوتوستراد عريض محاط بجسور إسمنتية. كنت جالساً خلف مقود السيارة. في كرسي الراكب الأمامي كان يجلس رجلٌ في التسعين من عمره. شعره أبيض قصير جداً، وجهه مستدير، جسده ممتلئ، جلده المتجعد مائل إلى الحمرة.كان يلبس بذةً سوداء مع ربطة عنق. نظرت إليه نظرة سريعة، ولكنه على ما أعتقد لم يلاحظ أنني استيقظت. نظرت في مرآة السيارة الداخلية باتجاه المقعد الخلفي. يجلس عليه ثلاثة نسخ مشابهة من ذلك العجوز الجالس أمامي. كانت هنالك بعض الفروقات الطفيفة بينهم، ولكن على ما أعتقد أنهم كانوا أربعة توائم، لم تكن تلك الفروقات خلقية وإنما حياتية. العجوز رقم اثنين الجالس خلفي تماماً، كان وكأنه قد تعرض لحادثٍ ما تسبب بجرحٍ عميق في منتصف حاجبه الأيسر. أما العجوز رقم ثلاثة، الجالس في المنتصف، فلقد كانت الجهة اليسرى من وجهه منخفضةً قليلاً. أعتقد أنه قد تعرض لجلطةٍ دماغيةٍ، في يومٍ ما. العجوز رقم أربعة الجالس على الجهة اليمنى في المقعد الخلفي، كان نائماً مسنداً بخده الأيمن إلى الشباك، كان خده يصدر صوت زقزقةٍ مستمرةٍ أثناء انزلاقه البطيء على النافذة، وعند وصول جسده إلى حالة انثناء مزعجة للتنفس، كان يستيقظ بكل هدوء ليعيد رأسه لارتفاعه السابق لتبدأ عملية انزلاق وجهه على النافذة الزجاجية، مجدداً.

لم أكن أدري ما كنت أفعل في هذه اللحظات، فلقد كانت ذاكرتي جديدةً كلياً. كنت أعرف اسمي فقط، حاولت التوقف عن القيادة لعدة مرات ولكنني اكتشفت أن تلك السيارة كانت أحادية التوجه، لم أكن أنا من يقودها أصلاً، كان مقود القيادة مجرد أكسسوارٍ عديم النفع.

بعد عدة دقائق منذ بدء وجودي في هذا المكان، اكتشفت وجود نظارةٍ على وجهي. لمستها بأصابعي، كان إطارها المعدني وعدساتها الزجاجية باردين جداً، وبعد لمسي لهما سرعان ما بدأ يتكاثف عليهما بخار الماء معيقاً عملية رؤيتي التي لم تعد مهمة على أي حالٍ، خصوصاً بعد أن اتضح لي بأنني لم أكن من يقود تلك السيارة.

كنت في ترقبٍ دائم لأي إشارةٍ تصدر عن هؤلاء العجائز ولسبب ما لم أكن قادراً على توجيه أي كلمةٍ إليهم، فلقد كنت فاقداً لأي حواس في منطقة الحلق أو العنق. كانت منطقة الرقبة خاليةً حسياً تماماً، وكأنها غير موجودة.

أثناء عملية مسحي لزجاج النظارة، وتحديداً أثناء إعادتها إلى وجهي، وبحركةٍ خاطفةٍ سريعةٍ جداً، انتشل الرجل العجوز الجالس إلى يميني النظارة من يدي، وبدأ بتحطيمها وضربها بزجاج السيارة اليميني، محولاً العدسات الزجاجية إلى فتات. وبعد أن انتهى من تحطيمها، استعاد وضعية جلوسه السابقة وعاد إلى ثباته.

بعد دقيقة تقريبا بدأت يداي بالارتعاش غير-الإرادي ثم رفعتا من على مقود السيارة، وأمسكتا برأس ذلك العجوز. كان رأسه بارداً جداً، لم أكن قادراً على السيطرة على يداي نهائياً، كنت أحس بحرارة الأشياء وملمسها فقط. بدأت يداي بعصر رأسه البارد وبتحريكه بشكلٍ عنيفٍ باتجاه نافذة الباب الأيمن، بدأت الحركة بالتسارع وبدأ رأسه بالتحطم، شيئاً فشيئاً، إلى أن تكسر زجاج النافذة. توقفت يداي عن رطم رأسه، وتحركتا بزاوية ٣٠ درجة وبدأتا برطم رأسه مجدداً بعارضة الباب الداخلية، أو ما يسمى بالشمعة، بعد عدة ضربات فقدت جمجمته خواصها الصلبة وتحولت إلى مجموعة من العظام المحاطة بكيسٍ جلديٍ رخو. كانت زوايا عظام جمجمته واضحة الملمس، كان ملمسها يصيبني بالقشعريرة ولكنني لم أكن قادراً على إبعاد أصابعي عنها أو على إيقاف عملية ضرب رأسه البارد، الشيء الوحيد الذي كنت قادراً على فعله هو الصراخ الصامت.

حتى بعد أن تكسرت جمجمة الرجل العجوز تماماً، وبدأت زوايا عظام الجمجمة بالنفاذ من جلد رأسه، استمرت يدي برطم رأسه بشمعة الباب. كانت حركة يدي الممسكة برأسه تتسارع بشكل كبير، بعد عدة دقائق بدأت بعض نقاط الدم بالنفاذ من بعض الشقوق التي أحدثها احتكاك زوايا عظام جمجمته بفروة رأسه من الداخل. تحول وجهه المستدير إلى شكلٍ يصعب وصفه، مليءٍ بالزوايا والنتوءات غير المنتظمة. أخيراً بدأت يداي بالتوقف شيئاً فشيئاً، إلى أن توقفت تماماً تاركةً رأس ذلك العجوز الذي كان مستديراً منذ دقائق، مسنوداً على زجاج الباب اليميني.

كان التوأمان الجالسان في المقعد الخلفي، صاحب الوجه غير المتناظر وذو الندب القديم يبكيان من دون حراك، كانت دموعهم وأنوفهم تسيل فقط، كان الثالث النائم يتابع سلسلة الانزلاق على الزجاج.

أعادت يداي الإمساك بمقود القيادة، وبعد أقل من دقيقة ورغم تحطم رأسه بشكل كامل، أعاد جسد العجوز الأمامي وضعية جلوسه إلى حالتها السابقة المتزنة، ولكن هذه المرة برأس مهشمٍ القوام ملتصق بزجاج الباب الأيمن المحطم.

بعد عدة دقائق، بدأت يداي بالارتفاع غير-الإرادي مجدداً عن المقود، حامتا في منتصف السيارة أمسكتا برأسي من الخلف، أحكمت قبضتهما على شعري، وبدأتا بالارتعاش غير-الإرادي مجدداً.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى