صفحات الناس

متى العودة؟ اللاجئون أولوية أي تسوية أو حلّ سياسي في سورية/ مهى يحيَ,  جان قصير

 

 

يتعذّر التوصّل إلى أي تسوية أو حلّ سياسي يطمح بإنهاء النزاعات متعدّدة الأوجه في سورية، من دون إيلاء الأولوية لتحديات عودة اللاجئين. لكن تعقيدات الحروب السورية والتجارب الدولية السابقة مع نزاعات مشابهة، تشيران إلى أن تحقيق السلام المستدام يتطلب تركيزاً أكبر على التحديات المتعلقة بالعودة الفعلية للاجئين والنازحين داخلياً، بما في ذلك تأمين الضمانات الأمنية والحماية لهم. ومن دون معالجة هذه التحديات، ومهما كان شكل الحل السياسي، قد تتعذر عودة اللاجئين أو لاتكون مستدامة ممّا سينعكس سلباً على عملية السلام في سورية والبلدان المجاورة وعدد من الدول الأخرى.

توصيات إلى المجتمع الدولي

الحرص على أن يشمل أي حل أو اتّفاق سياسي توجّهاً يتمحور حول اللاجئين. على الأطراف المشاركة في أي تسوية سياسية، مهما كان شكلها، التزام مقاربة شاملة إزاء اللاجئين تتطرق إلى التحديات الأمنية الرئيسة وتوّفر العدالة والخدمات. وفي غياب مثل هذه السياسة، ستكون العودة الطوعية عصيّة إن لم تكن مستحيلة.

منح اللاجئين حق اللجوء إلى العدالة كجزء من أي اتّفاق سياسي. ثمة حاجة ماسّة إلى آليات العدالة الانتقالية لمعالجة التظلمات والشكاوى المحلية، بما في ذلك تلك الناجمة عن أعمال ارتُكبت في مرحلة النزاع مثل المجازر، والإخفاء القسري، وحصار المدن أو القرى، ونقل السكان بموجب صفقات سلام محلية. يجب أن تشمل العدالة أيضاً إجراءات اقتصادية تتضمّن إعادة الملكية (إلى أصحابها الأصليين) وتوفير فرص اقتصادية عادلة.

الـتأكّد من أن عودة اللاجئين طوعية وأنهم سيحتفظون بصفة اللاجئ لمرحلة من الوقت بعد انتهاء النزاع. لايخفى أن الدول المضيفة تستسيغ خيار عودة اللاجئين إلى وطنهم. لكن اللاجئين لن يعودوا إلى سورية في ظل غياب الضمانات الأمنية. وحريٌّ بأي اتفاق سياسي أن يستند إلى حقّ اللاجئين في الاختيار. في غضون ذلك، يتعيّن على المجتمع الدولي، ولاسيما الاتحاد الأوروبي، التنسيق مع دول مضيفة، مثل لبنان والأردن، ومنحهما مساعدات اقتصادية وإبرام اتفاقات شراكة تفضيلية معهما، ذلك أن البلدين في حاجة ماسّة للتخفيف من الأعباء الناجمة عن الزيادة السكانية الكبيرة التي شهداها، والتي ألقت بظلالها على البنى التحتية والعمالة.

الدفع باتجاه خيارات تقاسم للسلطة تعالج طابع الهوية في النزاع السوري، من دون اللجوء إلى آليات حكم تفصل على أسس طائفية وإثنية. يمكن لخيارات تقاسم السلطة تدارك المخاوف السياسية والمذهبية والإثنية التي تساور مختلف المجموعات السكانية. لكن، ينبغي أن تبتعد أي تسوية قد يتم التوصّل إليها، عن إرساء نموذج حوكمة يرسّخ الهويات الإثنية والمذهبية.

إشراك النساء في محادثات السلام، عملًا بالقرار الرقم 1325 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. النساء لسنَ مجرّد ضحايا في النزاع السوري، بل انخرط العديد منهنّ في الحروب أيضًا، على مستويات عدّة، الأمر الذي غيّر بعمق الدور المُناط بهنّ في المجتمع. وهذا التحوّل أعطى النساء رؤية قيّمة للشروط الأساسية المطلوبة لتعزيز إمكانية التوصّل إلى حلّ سياسي مستدام يرسخ الحقوق السياسية والاقتصادية.

إيلاء الأولوية لإصلاح التعليم في أي تسوية يتم التوصّل إليها. ملايين الأطفال السوريين محرومون اليوم من الفرص التعليمية، فيما يدرس أولئك الذين يرتادون المدارس مناهج دراسية مختلفة صيغت لتتماشى مع إيديولوجيات مختلفة، معظمها يتميّز بالعدائية تجاه الآخر. قد يؤدي هذا التباين في المناهج التعليمية في بلد منقسم أصلاً على مسائل الهوية، إلى مناخ يدفع الأطفال إلى لُجج الجريمة والتطرّف، ويطرح مخاطر أمنية في حقبة ما بعد الحرب، حين تغدو الحاجة ماسّة إلى التماسك الاجتماعي.

توسّل الدعم الدولي لعملية الإعمار للمطالبة بالعودة الآمنة للاجئين، والإصلاح الاقتصادي والسياسي الذي يخفّف احتمالات التمييز ضد جماعات سكانية معينة. ليس في مقدور داعمي النظام الأساسيين، أي روسيا وإيران، تقديم دعم مالي يخوّلهما رعاية عملية إعادة إعمار سورية واسعة النطاق. ومن المُستبعد أن تشارك دول الخليج العربي في مثل هذه العملية بسبب انهماكها بتحدياتها الاقتصادية الداخلية، من جهة، وعدائها لنظام الرئيس السوري بشار الأسد، من جهة أخرى. وهذا ما يوّفر للدول الغربية الفرصة لطرح دعم مشروط يدعو إلى الإصلاح وحماية حقوق العائدين وغيرهم من السوريين، في خضم تذرر الأراضي السورية وبروز معطيات ميدانية جديدة على أرض الواقع.

تحديات التوصل إلى تسوية سياسية

ولّد النزاع السوري أكبر أزمة لاجئين في التاريخ الحديث. ففي كانون الأول/ديسمبر 2016، كان هناك أكثر من 4.8 مليون لاجئ سوري حول العالم، وحوالى 6.3 مليون نازح داخلي في سورية؛ أي أن واحداً من كل خمسة نازحين في العالم هو سوري. وتُعزى هجرات السكان إلى نزاعات وحروب متداخلة تشارك فيها جهات دولتية وغير دولتية. وقد ازداد الواقع السوري الراهن قتامةً بسبب الوضع الجيوسياسي المعقّد، والمعارضة الشعبية، والاضطرابات المدنية، وباتت آفاق التوصّل إلى تسوية سياسية عادلة وعودة طوعية للاجئين أبعد منالاً.

نظراً إلى تباين أجندات واولويات أطراف النزاع وتنافرها، ثمة قلق من تعثُّر عودة اللاجئين والنازحين في الداخل إلى بيوتهم بفعل اعتبارات سياسية ومذهبية وإثنية. وتسهم ثلاثة عوامل متداخلة في احتدام هذا القلق: أوّلاً، تورّط قوات النظام في ترحيل السكان عبر فرض الحصار وإبرام اتفاقات سلام محلية؛ وثانياً، تذرر الأراضي السورية والدمار الكاسح في المراكز الحضرية والمناطق الريفية؛ وثالثاً، انتشار عصابات وميليشيات مسلّحة في المناطق الواقعة في قبضة كلٍّ من النظام والمعارضة على حدٍّ سواء.

أسفر دور النظام السوري المحوري في النزاع وتورّطه في جرائم الحرب عن تقويض قدراته القمعية والمالية، وإضعاف مؤسسات الدولة، بما في ذلك تلك التي توفّر خدمات اجتماعية وغيرها، وتقلُّص مشروعية النظام في أوساط العديد من السكان. ونتيجةً لذلك، ستتضاءل حظوظه بالحكم بفعالية إثر أي اتفاق سلام. وعلى المستوى العسكري، اضطر النظام إلى الاستعانة بحلفاء خارجيين – مثل إيران وروسيا ومنظمات غير دولتية مثل “حزب الله” وميليشيات عراقية شيعية – لاستعادة مناطق خسرها، ولبسط نفوذه في تلك التي لاتزال تحت سلطته، كما لجأ إلى ميليشيات محلية لحكم مناطق بالغة الأهمية. وعلى المستوى المالي، تُقدَّر كلفة إعادة إعمار سورية المادية مابين 100 إلى 200 مليار دولار، وهذا مبلغ يعجز النظام عن تأمينه.

في هذه الأثناء، سيؤثّر تذرّر سورية وعجز الأطراف كلها عن إحراز نصر عسكري نهائي حتّى اللحظة، على شكل التسوية السياسية ومآلات عودة اللاجئين. البلاد اليوم مُقسَّمة إلى مناطق نفوذ منفصلة ومتجاورة خاضعة إلى سيطرة النظام وعدد كبير من المنظمات غير الدولتية، من ضمنها تنظيم الدولة الإسلامية، وهيئة تحرير الشام المتحدّرة من القاعدة، والقوات الكردية العربية الديمقراطية، وعدد من مجموعات الثوار (وبعضها متحالف مع تركيا). ويعيش حوالى 10.1 مليون شخص في مناطق سيطرة النظام، بينما يقطن في مناطق سيطرة كلٍّ من الثوار والأكراد والدولة الإسلامية نحو مليوني نسمة على التوالي. وفي هذه المناطق، يتفاقم التذرّر على وقع بروز لاعبين كثر يبسطون نفوذاً محلياً، خاصة مع بروز شبكات اقتصادية تتربّح من اقتصاد الحرب.

في ضوء الأجندات المتضاربة للأطراف الضالعة في الأزمة السورية، تدور نقاشات حول شكل التسوية السياسية المُحتملة وأي مجموعات ستشارك في التفاوض بشأنها. وتتناول المفاوضات الحالية حول أشكال الحوكمة صيغاً متنوعة من اللامركزية الإدارية أو الفدرالية المستندة إلى هويات إثنية ومذهبية، وغيرها من الصيغ. لكن هذه المحادثات تجري في وقت تسعى أطراف إلى فرض وقائع عسكرية جديدة، ولايبدو أن شروط عودة اللاجئين والنازحين في الداخل مُدرجة على طاولة المفاوضات في جنيف التي تشهد جولة جديدة من مفاوضات السلام بين النظام السوري والمعارضة تحت إشراف الأمم المتحدة. مخاوف اللاجئين والنازحين في الداخل

فاقم اللجوء إلى تنفيذ العقابات الجماعية بحق المدنيين طيلة الحرب- عبر فرض الحصار ونقل السكان- تمزّق النسيج الاجتماعي السوري، وأثار شعوراً ملموساً بعدم الأمان في أوساط اللاجئين والنازحين. وقد خلّفت هذه الانتهاكات التي غلب عليها الطابع المذهبي والإثني، ندوباً عميقة في المجتمع السوري، وبات اللاجئون والنازحون في الداخل قلقين من إقدام قوات النظام على منع عودتهم إلى مسقط رأسهم، خاصة في المناطق التي يسيطر عليها. ويتجلّى هذا السلوك بوضوح في أجزاء من سورية، حيث شكّلت عمليات ترحيل السكان جزءاً من اتفاقات سلام محلية. وفي مناطق مثل داريا الواقعة على مقربة من دمشق، أو حي الوعر في حمص، أو في شرق حلب، فُرضت السيطرة العسكرية على مناطق سكنية، وأُجبر شطر راجح من السكان على المغادرة، من دون أن يعرفوا متى سيعودون أو حتى إذا كانت عودتهم ممكنة.

من جهة أخرى، ثمة مشاغل أخرى تقضّ مضاجع اللاجئين السوريين في الخارج. فاللاجئون في دول مُضيفة – ولاسيما في لبنان والأردن اللذين لم يوقّعا على اتفاقية العام 1951 الخاصة بوضع اللاجئين وبروتوكول العام 1967 المُلحَق بها- تساورهم مخاوف فعلية حول وضعهم واحتمال عودتهم القسرية إلى بيئات غير آمنة. يقضي السيناريو الذي تؤثره حكومتا لبنان والأردن بترحيل اللاجئين السوريين في أسرع وقت ممكن. ووراء هذه المقاربة مخاوف ذات صلة بأمن وهوية البلدين، وقلق من أن يخلّ الوجود الدائم للاجئين بالتوازنات السياسية القائمة فيهما. وقد تعزّزت هذه المطالب بفعل التداعيات الاقتصادية في لبنان والأردن، ومنها العبء الذي ألقاه اللاجئون على عاتق بنى تحتية وطنية غير متطورة.

هذا الغموض الذي يلف التسوية السياسية، يثير مخاطر وازنة عن مآلات عودة اللاجئين والنازحين في الداخل إلى ديارهم. ولن تتبدّد هذه المخاطر، مهما كان شكل التسوية السياسية المُحتملة، التي إما قد تجمّد القتال أو تنهيه وتطويه. وعلى الرغم من أن وقف الأعمال العدائية قد يحسّن الظروف الأمنية العامة في سورية، لن تبقى البلاد في منأى عن تحديات أخرى في المستقبل المنظور. ويُرجّح أن يبقى الانفلات الأمني على حاله محليّاً، وهو ناجم عن عسكرة المجتمع السوري على نطاق واسع، خصوصاً في صفوف الشباب. وهذه الظروف قد تشرّع الأبواب أمام تنفيذ أعمال انتقامية وغيرها من الانتهاكات، فتعرقل عودة النازحين، خاصة إلى المناطق التي يشكّلون فيها أقلية إثنية أو مذهبية أو سياسية.

والحال أن احتمالات عودة السكان الذين كانت وراء رحيلهم ممارسات النظام، إلى مناطق سيطرته (النظام)، ستتضاءل كثيراً إذا مابقي الأسد في سُدة الحكم. وإذا ماشُكلت حكومة انتقالية في سورية تُبقي على مناطق نفوذ منفصلة، قد يختار اللاجئون العودة إلى مناطق تحكمها سلطات محلية تتناغم مع انتمائهم السياسي أو المذهبي أو الإثني. وقد يعيق هذا السيناريو انتشار مجموعات مسلحة موالية أو معارضة للنظام. وقد يتردد اللاجئون في العودة إلى مناطق معينة، خشية من ممارسات الميليشيات المحلية الجشعة التي تقوّض فرص العمل وسبل العيش.

اللاجئون والسلام المستدام

نظراً إلى الغموض الذي يلف المستقبل السياسي لسورية، لا مناص من التركيز على تحديات عودة اللاجئين الطوعية، لبلورة إطار شامل يُرسّخ حق العودة كركن أساسي من أركان أي اتفاق يتم التوصّل إليه. وفي حين أن بعض شروط العودة تقني الطابع، بما في ذلك الحاجة إلى إعادة بناء البنى التحتية وتوفير الخدمات الصحية والتعليمية، يتّسم البعض الآخر من الشروط بطابعه السياسي، مثل تأمين التمويل اللازم لإعادة الإعمار وتوفير الأمن والعدالة، ويقتضي بالتالي تدخّل المجتمع الدولي ولاعبين محليين موثوقٍ بهم، بمن فيهم شيوخ القبائل وناشطو المجتمع المدني.

إذا ما تم الالتزام بمقاربة للتسوية السياسية، يحتل فيها اللاجئون منزلة الصدارة، ستتوفّر حين ذاك الحماية الضرورية للاجئين والنازحين في الداخل، بغض النظر عمن يتولّى مقاليد الحكم، وسيتم إرساء آليات لجبه التحديات المُحدقة بالتماسك الاجتماعي على المستوى المحلي. وتستند مثل هذه المقاربة إلى أسس ثلاثة هي: أولاً، يجب على التسوية السياسية مراعاة الديناميكيات الجماعية؛ وثانياً، ضمان أمن العائدين؛ وثالثاً، إرساء آلية عدالة انتقالية للمحاسبة والمساءلة وضمان العدالة الاقتصادية. هذه الأهداف قد تبدو بعيدة المنال بسبب صعوبة التوصّل إلى تسوية سياسية، لكن من دونها ستصبح آفاق تحقيق سلام دائم في سورية قاتمة للغاية.

مبادئ توجيهية

الحرص على أن يشمل أي حلّ أو اتّفاق سياسي توجّهاً يتمحور حول اللاجئين. يجب أن تعتمد الأطراف المفاوضة على اتّفاق سياسي للنزاع السوري مقاربة شاملة تتطرّق إلى التحديات الأمنية البارزة وتوّفر العدالة والخدمات. يستند هذا على مبدأ أن العودة ليست انتقالاً مادياً للأشخاص إلى مسقط رأسهم وحسب، بل تقتضي إرساء بنى تحتية متشعّبة. ويجب إدراج مثل هذه المقاربة في متن أي اتفاق سلام، مع تحديد آليات إرسائها ومراقبتها، بما يشمل ضمانات أمنية للسكان العائدين. قد يتطلّب ذلك نشر قوات من الأمم المتحدة أو قوات حيادية أخرى، وليس تولّي أطراف النزاع مسؤولية الحفاظ على الأمن. من دون هذه الضمانات، ستكون العودة الطوعية عصيّة.

منح اللاجئين حق اللجوء إلى العدالة كجزء من أي اتّفاق سياسي. في حين يصعب منح هذا الحقّ في ظل بقاء مرتكبي الفظاعات في السلطة، من المهم التمسّك بهذه المسألة كمبدأ توجيهي لجميع المفاوضات. وفي السياق السوري، ثمة مكوّنان للعدالة: العدالة الانتقالية، التي تهدف إلى المحاسبة؛ والعدالة الاقتصادية، التي تمثّل المبادئ الأخلاقية لإعادة بناء المؤسسات الاقتصادية بهدف توفير فرص متساوية لينعم الجميع بحياة كريمة ومنتجة. ولايزال حقّ اللجوء إلى العدالة عنصراً رئيساً في ضمان سلام مستدام. فآليات العدالة الانتقالية المُنتجة محليّاً وعلى قياس الوضع السوري ضرورية لإيجاد حلول لحالات الإخفاء القسري والجرائم ضد الإنسانية. وينبغي أن تشمل هذه الآليات التعويض أو إعادة التأهيل فضلاً عن تقديم الدعم النفسي والاجتماعي والبرامج الرامية إلى تشجيع الإدماج الاجتماعي للضحايا على الأصعدة كافة. وسيحتاج الناجون من سوء المعاملة أو التعذيب أو التطهير العرقي- فضلاً عن أُسر المختفين- إلى ضمانات إضافية لدفعهم إلى العودة، تشمل الحماية من أولئك الذين ألحقوا بهم الأذية، وربما لايزالون يعيشون في المنطقة.

أما العدالة الاقتصادية فترتبط بإعادة تنظيم النظام القضائي للدولة وإنفاذ حكم القانون. في هذا الإطار، لابدّ أن يكون تجنّب التهميش الاقتصادي لفئات اجتماعية وسياسية معينة ركناً أساسياً من أركان خطط إعادة الإعمار في مرحلة مابعد الحرب. وينبغي أن يشمل أي مسعى مماثل أيضاً إنشاء لجنة تُعنى باسترداد الممتلكات والأراضي. تشكّل المساكن والأراضي وحقوق الملكية مسائل معقّدة للغاية في سورية، نظراً إلى حجم الدمار. فقد أسفرت ست سنوات من الحرب عن تدمير أو إلحاق الضرر بـ1.2 مليون وحدة سكنية، بما في ذلك أحياء بأكملها في مدن كبيرة مثل حلب وحمص.

نظراً إلى أن أكثر من 900 ألف نازح في الداخل يقطنون في مساكن مهجورة، يُرجَّح أن ينشب نزاع على الملكية بين شاغليها المتعاقبين (الذين يمكن أن يكونوا من إثنيات أو طوائف مختلفة)، وسيتفاقم هذا المأزق إذا كانت صكوك الملكية مفقودة. وما يزيد الطين بلّة هو الوضع القانوني الهشّ للاجئين والنازحين داخلياً، والذين فر العديد منهم من دون صكوك الملكية، فضلاً عن الأضرار الجسيمة التي لحقت بالسجلات العقارية. وفي مرحلة مابعد النزاع، قد تستغل السلطات الحاكمة هذا الوضع لتحقيق مكاسب مالية أو سياسية، فتسنّ تشريعات تجعل من الصعب على العائدين استعادة ممتلكاتهم أو البقاء في مناطق معينة.

لذلك، يستوجب ضمان حق اللاجئين والنازحين داخلياً في استرداد المساكن والأراضي والممتلكات، من جهة، معالجة الحالات التي أعاقت فيها صفقات السلام المحلية عودتهم إلى ديارهم. ومن جهة أخرى، ينبغي أن يشمل استرداد الممتلكات بالضرورة المنشآت التجارية أو الأراضي التي دُمِّرت أو تمّ الاستيلاء عليها أثناء النزاعات. ومن شأن غياب الاهتمام بهذه القضايا أن يقوّض الفرص الاقتصادية المحلية وإمكانيات التوظيف، مايعرقل عملية العودة.

التأكّد من أن عودة اللاجئين طوعية وأنهم سيحتفظون بصفة اللاجئ لمرحلة من الوقت بعد انتهاء النزاع. تستسيغ الدول المضيفة خيار عودة اللاجئين، لكن في غياب ضمانات أمنية سيمتنع اللاجئون عن العودة إلى سورية. في هذا السياق، يجب ألا تكون عودة اللاجئين قسرية. وفي إمكان المجتمع الدولي، ولاسيما الاتحاد الأوروبي، التنسيق مع الدول المضيفة- لبنان والأردن وتركيا على وجه التحديد- للإبقاء على صفة اللجوء الممنوحة لأولئك الذين يخشون العودة. كما يمكن للشركاء الدوليين أيضاً إبرام اتفاقات شراكة تفضيلية مع الأردن ولبنان ومنحهما مساعدات اقتصادية طويلة الأمد لمواجهة التحديات على صعيد التنمية والبنى التحتية. تجدر الإشارة هنا إلى أن تركيا تحصل أساساً على دعم كبير يصل إلى 6 مليارات يورو، بموجب اتفاق الشراكة الذي أبرمته مع الاتحاد الأوروبي.

في الوقت نفسه، لابدّ من أن تُرسي الأمم المتحدة آليات تضمن الطابع المؤقت لصفة اللاجئ، على ألا يصبح راسخاً مع بقاء أشخاص لاجئين إلى أجل غير مُسمى، كما حدث مع الفلسطينيين. وفي حالات تتعذر فيها العودة أو الاندماج، حري بالمجتمع الدولي مباشرة برنامج لجوء يضمن ألا يبقى اللاجئون في حالة إهمال وتجاهل لأجيال. كما ينبغي على المجتمع الدولي التركيز على المساعدة الايجابية والدعم في سورية، بدلاً من سحب الدعم والحماية عن الدول المضيفة، متى توقفت الأعمال القتالية. ويحظى ذلك بأهمية خاصة نظراً إلى أن النزاع في سورية مترافقٌ مع أزمة لاجئين مديدة، وسيستمر على الأرجح لفترة من الزمن.

الدفع باتجاه خيارات تقاسم للسلطة تعالج طابع الهوية في النزاع السوري، من دون اللجوء إلى آليات حكم تفصل على أسس طائفية وإثنية. يمكن أن تركز آليات تشارك السلطة على معالجة الأعمال المذهبية والإثنية المرتكبة في النزاع، بما في ذلك ترحيل السكان بموجب اتفاقات سلام محلية. مع ذلك، من شأن أي تسوية نهائية الابتعاد عن إرساء نموذج حوكمة قائم على الهوية في مرحلة ما بعد الحرب في سورية. مثل هذه الاستراتيجية تسلّط الضوء على مخاوف المجتمع السوري الناجمة عن إرث الصراع، والحصار، والترحيل القسري للسكان وسائر الفظاعات، لكنها تحرص على تفادي ترسيخ الاختلافات المذهبية والإثنية في المؤسسات ترسيخاً يزرع بزور النزاعات المستقبلية.

ويُفضّل اعتماد مبدأ اللامركزية للسماح بمعالجة الصراعات والمظالم المحلية، والإقرار بوجود أشكال حكم بديلة، وترسيخ السلطات المحلية، ذلك أن معظم المساعي لإعادة دمج العائدين يجب الشروع بها في إطار محلي يرعى المصالحة والمشاركة والتماسك الاجتماعي، فضلاً عن أنها تمهّد الطريق لتحقيق سلام مستدام. ويمكن أن يستند ذلك إلى التطبيق الكامل والمفصّل للمرسوم التشريعي الرقم 107، وهو قانون ينصّ على إرساء اللامركزية أقرّه البرلمان السوري في 2011، ويحظى بدعم لا يُستهان به في أوساط النظام والمعارضة واللاعبين الخارجين، مثل روسيا والولايات المتحدة. يجب إشراك المجالس الشعبية المحلية، ومنظمات المجتمع المدني وغيرهما من الكيانات المحلية الاجتماعية والسياسية- وتحديداً تلك التي برزت خلال السنوات الست الأخيرة في مناطق سيطرة المعارضة- في مساعي إعادة التوطين والدمج. إذ أن هذه الكيانات تولّت تلبية مختلف حاجات السوريين، (كالتعليم والخدمات الصحية) أثناء النزاعات الدائرة، وخصوصاً في المناطق الخاضعة إلى سيطرة المعارضة حيث تم وقف الخدمات العامة أو الإخلال بها. غالباً ما يكون أعضاء هذه المجالس أفراداً منتخبين من المجتمع المحلي، وعلى دراية واسعة بالديناميكيات الاجتماعية، وحاجات الجماعات، والتحديات التي تواجه مناطقهم. ويشارك العديد منهم في مساعي المصالحة وحلّ الخلافات المحلية.

إشراك النساء في محادثات السلام، عملاً بالقرار 1325 الصادر عن مجلس الأمن الدولي. يتماشى هذا المبدأ مع المعطيات الأخيرة حول الدور الإيجابي الذي تؤدّيه المرأة في المشاركة النوعية في المفاوضات وفي ضمان سلام مستدام. فالنساء لسن ضحايا النزاع وحسب، إذ أن بعضهن يشاركن إما في القتال في ميدان المعركة، أو في التمثيل السياسي في أوساط المعارضة في سورية والمهجر، ناهيك عن أنهن طرف في النقاشات السياسية وفي تقييم الخيارات المستقبلية المتاحة أمام سورية، وكثر منهن رائدات في توفير الدعم للاجيئن والنازحين داخلياً بواسطة منظمات المجتمع المدني. وهذا أمرٌ بالغ الأهمية، في وقت تتغيّر فيه الأدوار الجندرية: فمشاركة النساء الاقتصادية تعاظمت في سورية والدول المضيفة، وصار العديد منهن بحكم الأمر الواقع ربّات أسر، وهن مطلعات على التحديات العائلية والمجتمعية. ولا شك أن السوريات هن في موقع يخولهن معرفة ما يقتضيه ترسيخ تسوية مستدامة وإقرار الحقوق السياسية والاقتصادية.

إيلاء الأولوية لإصلاح التعليم في أي تسوية يتم التوصّل إليها. حوالى 3 ملايين طفل سوري هم خارج المدرسة أو يتلقّون تعليماً غير نظامي. من دون إرساء البنى التعليمية والتربوية اللازمة، قد يقع هؤلاء الأطفال ضحية أنشطة غير مشروعة، أو ينتهي بهم الأمر بين براثن شبكات إجرامية، أو يلتحقون بالمجموعات المتطرفة.

إضافةً إلى ترميم البنى التحتية التعليمية أو التربوية، لاغنى عن إصلاح المناهج المدرسية وأساليب التعليم، لإعداد جيل ما بعد الحرب إعداداً يتماشى مع رؤية يُجمَع عليها عالمياً، عبر تيسير إعادة الإعمار، وإعادة التأهيل الاجتماعية، وترسيخ التماسك الاجتماعي.

ومنذ بدء فصول النزاع في سورية، تعرّف الأطفال السوريون على مناهج تعليمية مختلفة ومتنوعة داخل سورية خارجها على حدٍّ سواء. من خلال هذه الأنظمة التعليمية، يلقَّن الأطفال سرديات تزرع الشقاق حول تاريخهم الخاص وهويتهم. وتعكس السرديات هذه رؤية الجهات التي تقف وراءها، وتحمل قيماً تراتبية وأخلاقية. ولذا، دور المجتمع الدولي والمنظمات المحلية حيوي في تقويض نفوذ القادة الإثنيين والمذهبيين في التعليم. فانتقال انقسامات زمن الحرب إلى ما بعدها هو تحدٍّ أمني جدّي قد ينجم عنه ارتكاس إلى النزاع.

توسّل الدعم الدولي لعملية الإعمار للمطالبة بالعودة الآمنة للاجئين، والإصلاح الاقتصادي والسياسي الذي يخفّف احتمالات التمييز ضد جماعات سكانية معينة. يجب الامتناع عن تقديم دعم دولي لإعادة الإعمار، ما لم يتم إرساء تسوية سياسية شاملة تتناول دور نظام الأسد، وتلبّي مطالب السوريين بالحرية والعدالة. ويُتوقع أن يفضي إيلاء الأولوية لهذا الأمر، عوض إيلائها لعملية الانتقال السياسي، إلى ترسيخ استقرار بعيد الأمد. وعلى رغم أن حلفاء سورية الحاليين، إيران وروسيا، لن يتوقفا عن دعم النظام، إلا أنهما لن يتحمّلا مسؤولية إعادة الإعمار الضخمة. وهذا أيضاً حال دول الخليج التي تعارض نظام الأسد، لكنها منشغلة بمشاكلها الاقتصادية الخاصة.

مع ذلك، في حال بقي الأسد في السلطة، يجب ربط دعم إعادة الإعمار برؤية استراتيجية واسعة حول ما ستؤول إليه الأمور. الحكومات الغربية، والاتحاد الأوروبي تحديداً، هي الوحيدة القادرة على دعم هذه السيرورة، فهي الجهة اليتيمة التي في مقدورها تمويلها. وفي وسعها التوسل بدالة دورها هذا في مكافحة تمييز يحول دون عودة اللاجئين والنازحين إلى مسقط رأسهم أو حرمانهم الفرص الاقتصادية، مثل الوظائف والسكن.

حريٌّ بالمجتمع الدولي أن يدعم دعماً طويل الأمد عملية إعادة الإعمار السياسية والاقتصادية والمادية، وأن يرسي آليات تحتسب تكتيكات النظام الأخيرة الرامية إلى السيطرة على تمويل إعادة الإعمار. ويجب أن يخصص أموالاً تدعم المبادرات الاقتصادية ومجالس الحكم المحلية، وتشييد مساكن تكون في متناول اللاجئين من أصحاب الدخل المتدني. في غياب مثل هذه الإجراءات وهذا الدور الدولي، ستقتصر مساعي إعادة الإعمار الاقتصادي والمادي على مناطق دون غيرها، حيث ترى النخب وأمراء الحرب وشركات القطاع الخاص أن في إمكانها مراكمة الأرباح. ففي هذه المناطق الاستثمارات آمنة، وخصوصاً في المدن الرئيسة- مثل دمشق وحلب وحمص- وفي بعض المناطق الساحلية الواقعة تحت سيطرة النظام. وهذا يعني أن المناطق المهمّشة، وهذه في معظمها كانت ميدان الانتفاضة السورية وهي بحاجة ماسّة إلى إعادة الإعمار- ستبقى محرومة من عائدات السلام.

خاتمة

يتعذر تصوّر سلام مستدام في سورية من دون بنية واضحة تتناول تحديات عودة السكان، ويُعزى ذلك إلى عوامل عدّة، منها الطابع المعقّد للنزاعات في سورية، وكثرة اللاعبين، والديناميكيات المحلية لنزوح السكان. لكن نقاشات التسوية الدائرة حالياً لم تتناول إلى اليوم هذه المسألة. ويعني إقصاء بعض المجموعات المسلحة من المناقشات السياسية أن القتال سيتواصل في بعض المناطق السورية وأن عدد النازحين سيتزايد.

وعلى رغم ذلك، ليس في مقدور سورية تحمّل إرجاء التسوية. ولن يُكتب الاستقرار لاتفاق سلام يقود إلى “حرب أهلية باردة”، ولو دامت لعقود، ولن يؤدّي مثل هذا السلام إلى انبعاث البلاد من أتون الدمار. ويترافق بقاء التمييز والتهميش على حالهما مع تعاظم أخطار الانزلاق إلى دوامة عنف جديدة. كما قد يؤدي فشل عملية عودة اللاجئين إلى موجة نزوح وهجرة جديدة، وإلى بروز تحديات إنسانية وتنموية وأمنية جديدة في دول الجوار ودول العالم.

مركز كارنيغي للشرق الأوسط

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى