صفحات الثقافة

متى تصدّق هذي الأوطان أننا نحبها؟/نجاة عبد الصمد

هل نحن نكّارون، أم أوطاننا ساديّة؟ أم أن أوطاننا والآلهة السادية، والعالم المتمدّن، كلهم يسرفون في اختبارنا؟

* * *

سمران، يرنّ اسمه في البال كموسيقى شجيّة.

سمران عراقيّ، أودع بعض أحبابه تحت ثرى بغداد، وفرّ بالناجين عبر الدرب الصحراوي من “أرض السواد” إلى عمّان، إلى بيتٍ متهتكٍ على أطرافها، وصار يمشي مرتين في الأسبوع إلى شغله قرب دوّار الحسين.

طريقه طويل… يبدّد الوقت بقطفِ ضمّة زهورٍ بريّة في الربيع، أو بجمع أغصانٍ تجفّفت وحدها على مهلٍ تحت شمس الصيف، يهديها إلى حميدة، يبشّ وجهها لوروده، وتُطمئنه أن أوجاعها اليوم أقلّ.

ينظّف بيتها بحرص صبيّةٍ قد يزورها حبيب، وبهوس امرأةٍ تخشى نميمة الجارات عن فضائل النظافة، يطبخ لها، يشتري طلباتها من السوبرماركت، يرتّب أدويتها قرب سريرها كما أوصاه طبيبها: حبوب الصباح للضغط والسكّري، وحبوب المساء لتسهيل عمل الكلية الوحيدة. ثم، بلياقة الأريستوقراطيين، يعود سمران إلى مسكنه في العشوائيات وفي جيبه بضعة دنانير.

صادفتُ سمران مرتين في بيت صديقتي حميدة، وسمعتها تناديه ربما خمسين مرّة، وفي كل مرّة  كان وقع اسمه يعيد إلى البال أغنية من روسيا القديمة.

للدول أمراضٌ كما أمراض البشر. روسيا مريضةٌ في توقها إلى أبهة الغرب العجوز والسئم، ومريضةٌ في حنينها إلى الشرق المثير، الشرق الحالم، وعاشقةٌ لحكايات ألف ليلةٍ وليلة، تعيد إنتاجها في أفلام غنائيةٍ للأطفال باللغة الروسية والألحان الغربية. يعتلي الشاطر حسن بساط الريح، يطير فوق قباب بغداد، فوق رافديها ونخيلها، ويغني:

“ف باغدادي فسيو سبوكوينو سبوكوينو سبوكوينو…”

تقول الأغنية الروسية: “في بغداد كل شيء هادئ، في بغداد سكون، سكون، سكون…”.

لماذا إذاً يجحد سمران بسكون بغداد؟

تكذب الأغنية. كانت بغداد تحترق. وكنتُ أزور عمان، وكانت عمّان ساكنة، وقالت لي حميدة بعد خروج سمران: “الله يحميه هالرجّال. يفكّر بعقل حكيم، ويعمل بقوة حصان، وقلبه رقيقٌ كسنونو”.

أضافت حميدة بعد صفنة: “سمران يحمل شهادة دكتوراه في علوم الفيزياء”.

بعد صفنتين: “لكن العراقيين لم يكونوا يوماً أوفياء لوطنهم. ربما كان عليه أن يبقى هناك. كان على العراقيين أن يعقلوا ويبقوا هناك”.

حميدة ليست أردنيةً تماماً. هي فلسطينيّةً وهبتْ “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين” عمرها وإحدى كليتيها، ونالت جواز سفر أردنيّاً وبيتاً متواضعاً تتكفّل الجبهة إيجاره.

* * *

 

مارلين من لبنان. كنا صديقتين في المغترب كما حقاً “سوا ربينا”، وكان لهب الحرب الأهلية في لبنان يشهب دمعاً في عيني مارلين وخلف ضلوعها. كانت تكتئب أول كل صيف، حين يثقل شوقها إلى قضاء الإجازة السنوية قرب بحر بيروت، ومطار بيروت مغلقٌ أو الطريق إليه مزروعٌ بحواجز الطوائف العدوّة؛ ولا وصول إليهم إلا عبر مطار دمشق. سيبالغ الحراس في إذلالها قبل ختم جواز سفرها بتحيّة لا تُهضَم ولا تُنسى: “حلّوا عنا عجقتولنا المطار”. مارلين كانت تقول لي: “ليس الغضب ما أشعر به، إنه الهوان! لماذا نحن بالذات؟ هذا مطار عبورٍ لكل الناس، أو يظنون أننا لا ندفع سعر تذكرة الطائرة”. مارلين وأهلها كانوا يسعون كل صيفٍ للّقاء في بلدٍ ثالث، وترفضهم معظم البلاد لأن جميع اللبنانيين في تلك الأيام السود كانوا “إرهابيين” يخدشون حياء العالم المتمدن.

* * *

 

كتبوا كثيراً عن جيل اللجوء الفلسطينيّ الأول، قالوا: “باعوا أرضهم لليهود”. قالوا: “لماذا لم يصمدوا في أرضهم؟”.

وقالوا بعد نكسة حزيران: “الآن سيقعدون على قلوب الناس في بيروت وفي عمّان وفي دمشق”. وروّج بعض رجال الدين في سائر بلاد الشام: “الفلسطينيون بلا ناموس، يقترفون الكفر بيسرٍ مثل قول: صباح الخير، ألا ترون كيف يعاقبهم الرحمن بالشتات”.

الآن يلحق بهم الجيلان الثاني والثالث من فلسطينيي سوريا. فبعدما اجترعوا منغصاتهم الأليمة على مضض، وظنوا أنفسهم نفدوا من مرض اللجوء الأول وصاروا في عداد النسيج السوريّ، يفرّون الآن في نزوحهم الثاني من سوريا، وتعاودهم أعراض اللجوء، تماماً مثل الذين “خلّفوهم” بعد 1948 و1967 في بؤس المخيمات على ضفاف المدن.

* * *

 

مرّةً كتبتُ على صفحتي:

يا بلاد الله السعيدة والعامرة؛ لو تعرفين ما أجمل سوريا.

لحظةٌ، وكتب لي سمران: وأجملُ منها العراق.

وكتبت بيسان: منفاي أخضر حتى التخمة، وأجوع شوقاً إلى البرتقال.

وكتبت لي مارلين من حديقةٍ على ضفاف السين: لبنان يا قطعة سما.

متى تصدّق هذي الأوطان أننا نحبها؟

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى