صفحات سورية

مثقفو «قاعدة النصرة» العرب/ ثائر ديب

 

 

ثمّة صنف مثقّف، سوريّ وعربيّ، من أنصار «الثورة» السورية لا يفوقه إشكالية، بل ورداءة، سوى صنف مثقّف مماثل من أنصار النظام. وما يجمع هذين الصنفين هو غياب كلِّ حسٍّ نقدي يُفتَرض أن يميّز المثقف تجاه من يناصره أو تأخُّرُ ذلك النقد تأخّراً نهائياً لا يعود ينفع فيه أيّ شيء.

بتنا نسمع من الصنف الأول (لا يثير الصنف الثاني أيّ اهتمام لدينا) من يتّهم «النصرة» و «داعش» بذبح الثورة السورية وقمع مناضليها وتمزيق علمها، إنّما من دون أن نكون قد سمعنا منهم أي ّ نقد لـ «الثوّار» حين امتدحو «النصرة» و «داعش»، أو أيّ شيء عن ابتداع «علم الثورة» محاكاةً للتجربة الليبية الكارثية، أو عن «تسلّح الثورة» ما يتعدّى التبسيط البائس الذي يربط ذلك ربطاً مباشراً بوحشية النظام، كأنّ التوحش والظلم يكفيان وحدهما لإقامة الجيوش وتسليحها وإطعامها مع عوائلها!

وبتنا نسمع اليوم من يطرحون على ما يعدّونه «الكيان السياسي المعبّر عن الثورة» («المجلس الوطني» و «الائتلاف»)» أسئلةً كان يَفْتِرِضُ به أن يعالجها ولم يفعل (تتعلّق – لاحظوا – بشعار إسقاط النظام، وإدارة الأوضاع الذاتية والصراع ضد النظام، والارتهان للمساندة الدولية والإقليمية، والخطابات المتعلقة بالنسيج الوطني)، من دون أن يتساءل هؤلاء ما إذا كان يمكن لـ «قيادة ثورة» أن تهمل مثل هذه الأسئلة وتبقى «قيادة ثورة»، أو إن كان ثمّة معنى وراء الزراية بهذه الأسئلة الخطيرة يشير إلى أنَّ من زروا بها ليسوا كياناً ثورياً، بل مجرد عابري ثورات أو مناضلين سابقين تحدوهم روح الانتقام أو من صنف معارضات عربية شهدنا كيف باعت بلدها وأرواحها بحفنة من الدولارات ولا سياسة لديها سوى استجلاب التدخل الخارجي والارتهان له.

الحال، إننا لم نسمع من هؤلاء أيّ نقد جدّي وعميق لمن يناصرونهم. ويكاد يقتصر ما سمعناه على «مداعبات نقدية» تأتي بعد التسليم البدهي المطلق بأنّ من يداعبونهم هم «الثورة»، وبعد إطار مكرور عن وحشية النظام، كأنّ تلك الوحشية تكفي لأن تعمّد جميع من يناهضونها أو يدّعون مناهضتها بأنّهم «الثورة»، أو كأنّ تلك الوحشية لا ينجم عنها سوى هذا الصنف من المعارضة وخطابها وممارستها.

لم نسمع من هؤلاء المثقفين أيّ نقاش للبنية الاجتماعية والاقتصادية والفكرية التي تميّز من زعموا أنّهم «الممثل الشرعي والوحيد» للشعب السوري، ولا لخطوطهم السياسية، ولا لتحالفاتهم. لم نسمع أدنى نقد لرفيقهم برهان غليون، المفكّر وأول رئيس لـ «المجلس الوطني»، حين رأى أنَّ «النصرة صنعت لنفسها اسماً كبيراً في دائرة الثوار السوريين بسبب اعتدالها النسبي وبعدها عن التكفير أو استعداء المخالفين»؛ ولا لرفيقهم جورج صبرا، الرئيس اللاحق، حين سجّل في محضر رسمي «إننا في المجلس الوطني لم نعلن لا تصريحًا ولا تلميحًا ضد جبهة النصرة أو غيرها، وقد دافعنا في اجتماعنا مع الأمريكان دفاعًا قويًا عن جبهة النصرة، كما لم تدافع هي عن نفسها»؛ ولا لرفيقهم محمد الدغيم، حين سجّل في المحضر ذاته أنَّ «دولة العراق والشام («داعش») وغيرها هم إخوة لنا، نتحاور معهم ونتفاهم على كثير من الأمور ولا مشكلة لدينا معهم».

وإذا لم نكن قد سمعنا من هؤلاء الأنصار نقداً جذرياً للإرهاب (ما دام ضد النظام)، أو للسلاح كاستراتيجية، أو لـ «الجيش الحرّ» ذي البنية «الإخوانية» والوهابية الطاغية، أو لعلم الثورة الذي زاد انقسام السوريين وتخندقهم إزاء بعضهم بعضاً، فتخيّل أن نسمع منهم نقداً للسلوك المخلّ في ما يتعلّق بوحدة المعارضة في لحظةٍ كالتي سحب فيها برهان غليون توقيعه على اتفاق القاهرة مع «هيئة التنسيق»، أو لسذاجة وانتفاخ المطالبة بإسقاط النظام في تلك اللحظة من توازن القوى، أو لأوهام التحالف مع أميركا في قضايا الديموقراطية وطلب تدخّلها العسكري. وعموماً، فإننا لم نسمع من هؤلاء الأنصار أي نقد لتحلل المعارضة السورية السائدة من كلّ المحاذير الخطرة التي جرى الانتباه إليها في البداية: العنف والتسلّح والطائفية واستدعاء التدخّل الخارجي.

لقد ارتدع هؤلاء المثقفون حتى عن نقد «الشعبوية» العبيطة والقاتلة التي تجلّت لدى المعارضة السورية السائدة في أشياء كثيرة، منها عدم اعتبار بنية المجتمع والنظام السوريين وموقع البلد الجغرافي السياسي وحال القوى الثائرة ونسبتها؛ والاكتفاء بفعل النظام الوحشي سبباً للخطط والشعارات السياسية، كما لو أنّ المظالم وحدها والمشاعر العاطفية التي تولّدها تكفي لرسم السياسات العملية المباشرة؛ وفي اعتبار الثورة برنامج ذاتها الكافي وإقناع النفس بأنَّ منظمات غرّة بل ومضحكة أُعِدَتْ على عجل هي «الجهاز السياسي» للثورة، بدل السعي وراء أوسع التحالفات وأشدها تنوّعاً. وبالطبع، فإنّه كان منتظراً من مثقفين نقدٌ لم يُسْمَع لتذرّع الشعبويين بـ «الواقع»، كما لو كان هذا الأخير معطى واضحاً وبدهياً يمكن للفهم الشائع أو الحسّ العام أن يفهمه ويتملّكه، أو لنفاق أو سذاجة هؤلاء الشعبويين إذ يزعمون أنهم لا يضعون أنفسهم فوق ما يجري ولا يسمحون لأنفسهم بأن يتعالوا على الحراك أو بأن يطالبوا «الشعب» بفعل غير الذي يفعله مهما يكن، إلى آخر هذه الخزعبلات الشعبوية التي عادةً ما تخفي التفاهة والعجز.

لا يكفي هجاء الاستبداد الوحشي لإقامة سياسة ترمي الى الانعتاق منه، خصوصاً حين تحتل فضاء المعارضة قوى ليس لديها أي برنامج آنيّ أو بعيد يتعدّى المساهمة في استمرار هذا الخراب الحربي وإعادة إنتاج الاستبداد. ومن لا يرغب في نقد ما يدعوه «الثورة» وممارساتها المسهمة في حضور «داعش» و «النصرة» والمحابية لهما، عليه أن يلزم الصمت في ما يتعلق بهاتين الأخيرتين.

ثم ما رأيكم، يا أخي، ما دام ما من جدوى لدعوتكم إلى التفكّر باستراتيجيات أخرى للخلاص غير الحروب العقيمة التي يخوضها «مجاهدو الحرية»، ولو بزيارة قصيرة وسريعة إلى مناطق الأخوة «جيش الثورة» بالطرق التركية المفتوحة، زيارة هي فرصة تُبدون فيها صدق تضامنكم وتنهلون من التجارب الثورية الفذّة. الرجاء الوحيد أن لا تحضروا معكم إلى تلك البقاع «المحررة» أحداً من قادة الثورة ومفكّريها كي لا يتخطّفهم هذا الفصيل الثوري أو ذاك من رفاقهم، كما حصل مرّات كثيرة.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى