صفحات الرأي

مثقَّف، ووسخ، وتاريخ/ فاضل الفاضل

 

 

” هذا زمان، ليس فيه سوى النذالة، لم يرق فيه صاعد إلا وسُلّمه الرذالة”.

عبد القاهر الجرجاني.

كتب الدكتور في الفلسفة أحمد نسيم برقاوي مقالاً على صفحات جيرون، في عدد 8 أيار 2017، عنونه بعنوان مثير “مثقف الوسخ التاريخي”، وهو مقال ينطوي على أهمّية خاصة؛ لأنه يستند في موضوعه إلى إشكالية المثقّف: سماته، وموقعه، ودوره. وهي إشكالية لاتزال عصيّة على الحلّ، ولا تزال تجذب الفلاسفة والمتفلسفين لمعالجتها. وينطوي المقال على أهمّية خاصة؛ لأنه تمثيل نموذجي عن تيّار سائد في الثقافة العالمة، بحسب تعبير الدكتور محمد عابد الجابري وغيره، ولأنّ كاتبه أستاذ فلسفة، قد سلخ عمراً في تدريسها، وله كتباً يناوش فيها شؤونها؛ ولهذا فإنه يستوفي المعايير، التي حدّدها الدكتور عزمي بشارة في بحثه “المثقف والثورة” المنشور في مجلة “تبيّن” عدد 4 مجلّد1 ربيع 2013؛ فهو ليس ناشطاً ميدانيّاً أو افتراضياً، قد علكه الطغيان وجرّده من مقوّمات حياته بحقائقها وأوهامها؛ فيكتب أيّ كلام على صفحات التواصل؛ لكي يحقن المعنى في وجوده المخلوع.

ينبني المقال على غاية رئيسة ظاهرة، هي: كشف وفضح مثقّف الوسخ التاريخي، وكشف عجزه الطبيعي عن محاورة المثقّف، الذي هو بحكم ماهيته، يمثّل الحقّ والحقيقة، وينطق باسمهما؛ فيعبّر حكماً عن مصير الإنسان وعن حركة التاريخ الصاعدة.

من أجل خدمة هذه الغاية يعتمد المقال المحو ـ محو الاختلاف ـ والتماثل؛ فيتماثل الشرق والغرب، وينمحي الاختلاف بين أكثر الكتبة المعاصرين؛ فيقيمون قريرين غريرين في الإجماع على: “أهمية نشاط المثقف في حركة الوعي وإنتاجه الذي يتعين، أي هذا الوعي، بالسلوك”.

ثم ينتقل إلى محو الاختلاف بين البلدان وتاريخيتها، فمحو التباين بين شروط وجود وتفكير كلٍّ من: غرامشي، وسارتر، وبندا، وإدوارد سعيد، ومن تبعهم في القول على قولهم؛ ليتكامل تنظيرهم، فيصير المثقّف العضوي هو المثقّف الديمقراطي عند غرامشي، وهو المثقّف الملتزم عند سارتر، وهو المثقّف الأخلاقي عند بندا، وهو المثقّف الحر والتحرّري والأخلاقي عند إدوارد سعيد. وهؤلاء جميعهم في واحديّتهم الساكنة في الحقّ المقيم والحقيقة المستقرّة، يدافعون عن مصير الإنسان الذي هو مطلق لا يتعيّن.

“غير أنّ أحداً، من كل الذين كتبوا عن المثقف، لم يخطر ببالهم أن يكتبوا عن مثقف الوسخ التاريخي”، والسبب في ذلك: أنّ خيالهم، لا عقلهم أو تعقّلهم، قد عجز عن الوصول بهم إلى تصوّر وجود مثقّف الوسخ التاريخي، الذي لم يظهر إلا في تجربة “الكفاح السورية من أجل الحرية ودولة المواطنة”، وقد ظهر فيها معادياً. لكنّ المقال لا يُظهر الكيف، الذي يمكّن خيال الكتّاب، الذين ماتوا، من تخيّل غير الموجود في زمنهم، ولا كيف كان يمكنهم تخيّل تشكيلة وإشكالاتها، ليست هي التشكيلة التاريخية التي عايشوها، وكتبوا آراءهم وأحلامهم استناداً إلى ما يعانونه من إشكالاتها. ولم يُظهر ما يُلزم الكتّاب ـ الذين يعايشون الحدث ـ على تبنّي قول المقال عن “مثقف الوسخ التاريخي”، مادام المقال نفسه لم ينشغل أدنى انشغال في تبرير هذا المصطلح؛ فلا هو حدّد أوجه الاختلاف بين مثقّف الوسخ والمثقّف التقليدي، أو المثقّف الذاتي، أو المثقّف الخائن، أو المثقّف السلطوي، إلى آخر التوصيفات والمعالجات التي هي موجودة بالفعل وتتجدّد. ولا هو بيّن ضرورة الخيال في تعقّل الموجود، ولا إن كان الخيال عنصراً مكوّناً في التعقّل؛ فيصير مباحاً التعبير عن الكلّ بالجزء. ولا هو أعطى نموذجاً عن سلوك المثقّف الذي يتعيّن فيه وعيه؛ فعرض بعضاً من آرائه عن الحدث المعيوش، وهل هي تصدر عن واحد أم عن متعدّد، وعن بسيط أم عن مركّب؟ ولا عرض بعضاً من آراء مثقّف الوسَخ، وحاورها، وبرهن على سخفها وخيانتها لماهية المثقّف بما هو مثقّف.

وإذا كان الأمر كذلك؛ فقد قام المقال بهجاء نفسه، في الوقت عينه الذي هجا فيه مثقّف الوسَخ العاجز- بحكم ارتباطه بالوسَخ- عن الردّ على الفكرة بفكرة؛ فعوّض عجزه بالشتائم “الرّعاعية”.

وقد أضاف إلى ذلك، على مبدأ “ردّ الصاع صاعين”، أنّ مثقّف الوسَخ: “ملوث لسانه وقلمه بدماء السوريين” ثم أكّد: “أجل مثقف الوسخ التاريخي لسان وقلم ملطخان بالدم السوري”. وهي عبارة منقولة على أجنحة المجاز من ميدان التجييش والتحريض السياسي إلى ميدان الصراع الخطابي بين مثقّفين تاريخيّين؛ أي: أنهم مثقّفون تاريخيون، بقدر ما هم مرايا تعكس عمق أزمة الثقافة التي تتصدّع بين المحلّي والعالمي، وبين الآني وتاريخه، أزمة الثقافة التي تسيّدت وتتسيّد عليها سياسة الاستبداد؛ فرسمت، وترسم لها قيمها وحدودها وسقفها وطموحاتها، التي لا تتجاوز سقف الاستبداد.

ولكن، ماذا إن حمل شبّيح يُعلن انحيازه إلى الثورة هذا القول، وصنّف، وحدّد، وقتل أحداً من الملوّثة ألسنتهم وأقلامهم بالدم السوري، ماذا يمكن أن يقول الدكتور البرقاوي؟ أكاد أجزم أنّ هذا لن يرضيه، وأنه سيتفاجأ من حركة الكلام وتداعياته التي لا تحفل بنوايا الكاتب.

ولكنّ التأويل السالف؛ قد يكون تأويلاً فاجراً وسيّء النيّة، يستند إلى غاية فرعية ظاهرة، ليست سوى ذريعة، وظيفتها أن تدفع القول إلى غاية أساسية بريئة وظاهرة، هي: أنّ الكاتب قد أتى بما لم يأت به الأوائل الأعلام في عصورهم وفي مجالاتهم، وأنّ المعاصرين عاجزون محكومون ببناء القول على القول. إذا كان الأمر كذلك؛ فإنّ المقال يستعيد اتّساقه الخاص، مادام المجاز عموماً والكناية خصوصاً، لا تتوخّى الفهم بقدر ما تطلب الإثارة، وعلى هذا لا تعود خيانات اللغة ـ الموجودة في نص المقال ـ خيانة؛ لأنّ الهدف المقصود منها، هو: شلّ الفهم وتخميد الفضول، وتوسيع مجال الإيحاءات والرنين؛ فلا يعود من المعنى أن نتساءل: ما علاقة هذا التركيب بانشغالات غرامشي “حيث انتماء المثقف العضوي إلى الجماعات والطبقات والدفاع عن مصالحها وأهدافها”؛ فلا هو جمع المثقّف؛ لكي يتعدّد بتعدّد الجماعات والطبقات، ولا أفرد الجماعات والطبقات؛ لكي يستقيم المعنى. ولا يعود من المجدي التساؤل عن دلالة فعل “قدّ”، إذا كان معبّراً عن فعل سارتر أم لا؛ لأنّ الهدف منه رنينه العالي، وإيحاءه بمكانة سارتر عند الكاتب، تماماً كفعل “سرَد” ببروده وحياديّته التي تحقّق إطفاء بريق إدوارد سعيد، وكأنّ إدوارد لم يحاور، ولم يساجل، ولم يختلف، ولم يتّفق. الأمر الذي يستدعي ـ بضرورات المقال نفسها ـ تجاهل جهد واجتهاد الكثير من الكتّاب الذين بحثوا في الثقافة، وفي تعريف المثقّف ودوره ومسؤوليته وغيابه وحضوره، وكذلك تجاهل العديد من الدوريات التي خصّصت أعداداً لهذا الموضوع، وتجاهل طرفاً رئيساً في الصراع الدائر؛ لأنّ تحديده وتعريفه والتمعّن في استراتيجياته وتكتيكاته وخطاباته وتحالفاته، سيضع المثقّف ومثقّف الوسخ التاريخي على أرضّية تكاد تكون متماثلة؛ فتنهار غاية المقال الأساس، وتظهر تناقضاته، ويتفكّك أسلوبه؛ فيستعيد السؤال مكانته ووظيفته: لماذا، وكيف حوّل المقال مجموعة من الإشكالات، التي يتناولها، إلى قضايا بسيطة متّفقاً عليها: كالوعي في حركته وشروط إنتاجه وحضوره أو غيابه ومواقع تعيّنه وشروط هذا التعيّن، والحقّ، والحقيقة، والماهية بما هي خصيصة المثقّف وقاعدة تعريفه والبرهنة عليه؛ فتبقى لصيقة بمثقّف الوسخ التاريخي الذي يستبدل الوسخ التاريخي بألف لام التعريف؟! ولماذا جرّد الإنسان من وجوده العيني ومن محدّدات هذا الوجود وتفاعل شروطه في مجتمع مركّب بالضرورة؟! وكيف حوّله إلى مطلق له مصيره الذي يسعى إليه تاريخ مجرّد من تاريخيته في حركته دائمة الصعود؟! وكأنه نشاط الله لا البشر، أو كأنه أثر قوانين الحتمية الصارمة، لافعل الناس بهمومهم وأوهامهم وأساليبهم وشتائمهم وغاياتهم المتعدّدة بتعدّد مواقعهم ومنظوراتهم، هؤلاء الناس الذين لم يحضروا في المقال، إلا كحضورهم في خطابات السلطة ومعارضاتها؛ حضور مُحتقَر مكموم وممتلَك ومنخسف بسطوة البراميل والبنادق والسواطير؛ فارتدّوا بأشواقهم إلى الأمن والسلام والعيش فقط. وكيف نسّب الوسخ إلى التاريخ، مادام يُفترض أنّ حركة الوسخ الهابطة تعاكس حركة التاريخ الصاعدة؟!

قد لا تنحلّ هذه الأسئلة وغيرها الكثير، إذا لم ننظمها بانتظام آخر، هو في أحد ممكناته: إنّ المقال يصدر عن ذهنية مثقّف تقليدي، بحسب تعريف المقال له: “المثقف التقليدي ينتمي إلى المعرفة المسبقة والعالم القديم”، الذي هو في الوقت نفسه مثقّف ذاتي، مَنْ “ينتمي إلى همومه الخاصة متقوقعاً بعالمه الداخلي” بحسب تعريف المقال أيضاً. وعلى هذا نصل إلى قاعدة أزمتنا وخذلاننا وأسانا، التي عبّر عنها المثل السوري السائر: “مادام طبّاخنا جعيص، شبعنا مَرَقْ”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى