صفحات المستقبل

مجانين في عصر الخلافة/ ضحـى حسـن

 

جثث متراصّة محاطة بدمار هائل، العدسة تقترب أكثر، الوجوه زرقاء، أعين مفتوحة تنظر إلى الفراغ، المكان ليس بالبعيد أبداً. هناك من شاهد الجثث تلك مباشرةً، صورة أخرى قريبة جداً على الأجساد الممزقة والدماء.

الأشخاص الذين شاهدوا وعاشوا هذا الحدث بشكل مباشر أو غير مباشر تعرضوا لصدمة حادة، لكن حالة الصدمة تلك تتلاشى، فمدتها الزمنية قصيرة، يبتلعها الانسان في محاولة لإكمال حياته، لكن تداعيات هذه الصدمة تبدأ بالامتداد داخل الجسد كله نفسياً ومادياً، والتي تختلف آثارها من شخص إلى آخر، إنما يمكننا القول إنها في حالة كهذه تُعتبر صدمة جماعية، أي أن آثارها والاضطرابات التي تنشأ عنها جماعية إلى حد ما.

استمرار الأحداث العنيفة والدموية في سوريا، جعلت من الصدمة وتداعياتها أمراً غير قابل للعلاج، إذ إن الانسان كبت الاضطرابات الناتجة عنها، بسبب تعرضه لصدمة تلو الصدمة خلال فترات زمنية قصيرة.

تداعي الجسد

عندما يستنفر العقل بحالته الدفاعية القصوى، يقمع الذاكرة المتعلقة بالصدمة، ما يؤدي إلى أن تظهر أعراضها جسدياً ونفسياً مثل الاكتئاب وفقدان الشهية والتوتر وآلام في المعدة، كما يفقد جزءاً من الذاكرة أيضاً.

يحدث هذا عادةً في حالة تعرض الانسان للصدمة الواحدة، إذاً ماذا يحدث في حالات الصدمات المتكررة؟

الحياة اليومية

الساعة 6 صباحاً، الغرفة مظلمة، يرن المنبّه، لا أحد يحاول إسكاته، تفتح عينيها، تنظر إلى السقف، نصف ساعة لا تحرك فرح ساكناً، ما زالت تحدق في السقف، تلقي برجليها على الأرض ومن ثم جسدها، تقف وتتجه نحو الحمام، ترتدي ملابسها وتخرج إلى العمل.

“بحس إني بجرّ حالي جرّ من التخت، بس ماعندي حل بدي إشتغل”، فرح البالغة من العمر 20 عاماً انتقلت إلى بيروت منذ عام تقريباً، اعتقلت في دمشق لمدة شهر ونصف، وتعرضت كغيرها من السوريين لكل الصدمات المتتالية،”بحاول دايماً انو كفّي النهار، عندي مشاكل بالذاكرة من 3 سنين، وبلش يصير عندي مشاكل بالتواصل، وما بحسّ بالسعادة شو ما صار معي”.

وتضيف “مابعرف شو عم حسّ، بالفراغ يمكن، بنفعل لمدة دقيقة، بتوتّر لمدة دقيقة، بحسّ بالهدوء لمدة دقيقة، وبنام 20 ساعة، بس بتخيَّل إني منيحة”.

القصير – أبو صقار

نُشر فيديو لرجل يسمي نفسه “أبو صقار” أثناء معركة القصير، وهو يحمل قلب أحد عناصر النظام أثناء اقتحام الأخير المدينة. الرجل وضع القلب ملاصقاً لفمه. لم يظهر في الفيديو أن الرجل يأكل القلب.

ردود الفعل على هذه الحادثة كانت مضطربة للغاية. الصدمة هي الحدث نفسه، أما تداعياته واضطراباته هي ردود الفعل عليه، وتناقضاتها من الأشخاص أنفسهم في تعبيرهم عمّا قام به أبو صقار.

“الزلمة ما أكل القلب”، “هذا الرجل وحش، أكل القلب، أنا شفتو”، “كيف قدر يحطو بتمّو”،”هاد مجرم”،”شو متوقعين من حدا عيلتو انقتلت قدّامه”، “أنا بقدر إفهم إنو الانسان يعصّب ويحقد وإلّي عملو أبو صقار طبيعي بحالتو”، “ما في أيا شي بخلي انسان يعمل إلّي عملو أبو صقار”…

رزان زيتونة – الخدر

قتل النظام السوري آلاف المدنيين في يوم واحد أثناء استخدامه السلاح الكيماوي بالغوطة الشرقية. الجميع في حالة صدمة، صور المجزرة تنتشر في كل مكان.

من شهد المجزرة في الغوطة، كان عليه أن يقوم بفعل فوري يعادل الحدث زمنياً، أي أنه أجّل شعوره بالصدمة المباشرة، إذ كان عليه أن يحمل الجثث ويدفنها ويوثّق الموتى، وأن ينقذ من يستطيع إنقاذه.

” أحاول استرجاع تفاصيل ذلك اليوم ببطء شديد علّي، أنفجر بالصراخ والنواح كما يفترض بشخص “طبيعي” أن يفعل. يرعبني الخدر الذي أحسه في صدري والضباب الذي يلف الصور المتلاحقة في ذهني. ليس هكذا تكون ردة الفعل بعد نهار حافل بالتعثر بالأجساد التي صُفَّت إلى جانب بعضها البعض في الردهات الطويلة المعتمة. لُفَّت بالأكفان البيضاء أو البطانيات القديمة، لا يظهر منها إلا وجوه مزرقّة ورغوة جمدت على زوايا الأفواه، وأحياناً خيط من الدماء يختلط بالزبد. على الجبين أو على الكفن، كتب رقم، أو اسم، أو كلمة “مجهول””، كتبت رزان زيتونة

إذا كان صحيحاً ما شعرت به رزان، “الخدر” أثناء استرجاعها تفاصيل المجزرة، لماذا أنهت مقالتها بهذه الجملة: “العالم قذر ومتوحش. ستفهم يوماً حين تكبر، إذا أتيح لك أن تكبر! تصبح على وطن يا بني”؟

قطع الرأس

في تلك الأثناء التي ما زال يحاول الانسان التعامل مع صدمة الكيماوي وتداعياتها واضطراباته إلى جانب كل الصدمات الأخرى، نشر الإعلام صورة لرجل “داعشي” أثناء قطعه رأس أحد المدنيين في إحدى مناطق الشمال السوري. صدمة جديدة..

نحو الجنون

هل يمكننا القول إن الصدمة الجديدة، والصدمات القديمة، وتداعياتها واضطراباتها، وما تقوم به وسائل الإعلام من الضخ المستمر لرفع مستوى الاضطرابات عند المتلقي، واستمرار العنف والتفجيرات والاعتقالات والحركة السريعة للأحداث الأليمة من جهة، وعدم توقف الحياة من جهة أخرى، فلا خيار إلا أن تكمل يومك وتنتقل لليوم الذي بعده، قد تقودنا إلى الجنون؟.

الخلافة وعصر الجنون

نشر تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام “داعش”، الأحد، كلمة جديدة للناطق الرسمي باسم التنظيم أبومحمد العدناني الشامي.

وأعلن العدناني بشكل رسمي قيام الخلافة الإسلامية وتنصيب خليفة للمسلمين ومبايعة عبدالله إبراهيم “أبوبكر البغدادي” الذي قبل البيعة.

التعامل مع إعلان الخلافة الاسلامية في دول الشام من قبل الناس كان هيستيرياً، إذ ملأت التعليقات الساخرة من موضوع الخلافة صفحات التواصل الاجتماعي، وفي تعليقات الأشخاص أثناء اللقاء وفي العمل..

“يبدو نحن جنّينا، إلّي عم يصير شي ما فينا نستوعبو، كل شي صار خلال هالتلات سنين، قتل ودمار، وتشرد ونزوح ولجوء، والنصرة وداعش، والخلافة الاسلامية هلق، هاد المضحك المبكي”. يقول فؤاد.

ويكمل” بنبكي، بنكتئب، بنضحك، بنعصب، كلو بنفس الوقت، أكيد جنينا”.

“لقد اكتشف العقل الجنون باعتباره إحدى أدواته الخاصة وهي طريقة أخرى لاستبعاد كل ما يمكن أن يشكل سلطة خارجية أو عداء لا حدّ له”، ميشيل فوكو.

شاركتُ الجميع التعليق بشكل ساخر على إعلان الخلافة الإسلامية بشكل هيستيري على الفيس بوك، لكني توقفت بعد نصف ساعة، وكأن أحدهم قام بضربي على وجهي، هذا الإعلان ليس نكتة، الخبر يقول “خلافة إسلامية في 2014”. الخلافة حقاً قامت. بعد دقائق عدت إلى حالة الجنون تلك مع الحشود…

إذ قلنا إننا نتعرض لصدمات كهربائية مستمرة داخل مشفى المجانين، بهذه الحالة النظام وداعش وتوابعهما، هم المشرفون على المشفى الذي نعيش فيه. ونحن اليوم مجانين في عصر الخلافة.

موقع لبنان ناو

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى