صفحات الرأيغازي دحمان

مجتمعات المشرق: بنى ما قبل الحداثة/ غازي دحمان

 

 

السؤال الذي يطرح نفسه، على هامش النار المشتعلة في بيدر المشرق العربي، هو التالي: كيف لم تشكّل العلاقات التي تأسست بين المكونات المختلفة، وعلى مدار عقود من التعايش المشترك، شبكة أمان تحمي هذه المجتمعات من الإنزلاق لحرب الجميع ضد الجميع؟ ثم وبعد أن إشتعلت النيران لماذا لم تستطع تلك العلاقات أن تكون الإطفائي الذي يساعد على وقف إشتعال تلك الحرائق؟

تحيلنا الإجابة على هذا السؤال، إلى تفحص حقيقة العلاقات التي كانت سائدة بين تلك المكونات وعلاقات الإرتباط بداخلها وديناميات تفاعلها. والواقع أن تأمل تلك العلاقات ودراسة مساراتها التاريخية، يشير بوضوح إلى أنها ظلت علاقات عامودية، بمعنى علاقات بين الطوائف وليست بين مواطنين وأفراد. وبالتالي، فإن أشكال التضامن والتراصف الإجتماعي كانت تحدث ضمن الطائفة الواحدة وليست عبر الطوائف، ما يشير على الدوام على أن الوعي كان وعياً بالوضع الطائفي، وليس الإجتماعي أو الوطني، في ظل حالة من الإنغلاق ضمن أطر معينة. غالبا ما كان الفرد يمارس نشاطاته ضمن المجالات المشتركة والعامة، بوصفه ممثلا عن طائفة، أو عاكسا لسلوكها ومنظومة قيمها ومواقفها من الأشياء. أو في حالة أخرى، سعى الأفراد الذين تشتبك مصالحهم في الحقل العام مع أفراد ينتمون للكل الإجتماعي، إلى تطوير شخصية ذات ملامح عامة، كنوع من «البرستيج«، لها لهجتها الخاصة، دمشقية أو بيروتية، وسلوكيات تنتمي للحضارة الغربية.

الدلائل على هذا الإتجاه أكثر من أن يتم حصرها، وثمة مؤشرين يمكن من خلالهما تفسير هذه الحالة، الأول: التقسيم الإجتماعي للعمل في المشرق، والذي تحول الى مايشبه الهوية للكثير من المكونات، عبر التشارك في أنماط العيش ذاتها، وممارسة وسائل متشابهة لكسب عيشهم. وبناء عليه، يسهل تحديد هوية شخص ما وإنتمائه الى طائفة معينة، من خلال النظر إليه من موشور المهنة أو نمط العيش، كأن يكون العلوي في سوريا ضمن قطاعات الجيش، والسني الحلبي والدمشقي ضمن قطاعات الصناعة والتجارة، والمسيحي الأرمني في إطار صناعة الذهب والساعات، وهكذا.

المؤشر الثاني: هندسة المدن ونمط التساكن بداخلها. اذ تكشف خريطة مدن المشرق، بغداد وبيروت ودمشق، عن حالة مثيرة للإنتباه من التشظي الديني والمذهبي، حيث تنعزل كل طائفة ضمن حيز معين، تتجاور فيها الاحياء وتتمايز، وتشكل كل واحدة منها ما يشبه المدينة المستقلة بأسواقها ومعابدها وشبابها، الذين يتولون حمايتها، ووجهائها الذين يضبطون علاقاتها وصراعاتها مع الأحياء المجاورة، والمختلفة طائفياً. لكن التفاعل ظل يمر عبر الطوائف وليس عبر الأفراد.

وفي سبيل تحصين هذه الوضعية، أنتجت الطوائف المختلفة كماً هائلاً من الصور النمطية المشوّهة عن الآخر، والتي كان من وظائفها على الدوام، ضمان إلتصاق الفرد بطائفته. إذ رغم كل ما يعرفه ويحسّه من نواقص في سلوكيات البنية التي ينتمي إليها، إلا أنها تبقى في نظره أكثر إحتراما من الصورة المشوهة التي يستبطنها عن الآخر، لدرجة يمكن معها تفسير تلك الظاهرة على أنها ليست سوى جدران حماية، تصنعها كل طائفة لحمايتها من الإختراق، أو ضمان عدم تسلل أحد من أفرادها الى الفضاء القيمي والثقافي للطائفة الأخرى.

تكمن الإشكالية في فهم هذه الظاهرة، بإستمرار وجودها وتعايشها في ظل نمط الإنتاج الرأسمالي، الذي يفرض تخلّق تشكيلات وبنى إجتماعية أكثر إنفتاحا وتفاعلا، بالنظر لطبيعة علاقاته العابرة للطوائف والمكونات، ولإتساع مجاله العام، الذي ينضوي تحته غالبية أفراد المجتمع، وغالبا ما يصنع لهم هوية مشتركة ومصالح قطاعية، يفرضها التشارك عبر النقابات والأحزاب ومنظمات المجتمع المدني، ما يؤدي بالنهاية الى تفكيك البنى الأولية وتحلل روابطها، وإنتظام العلاقات على أسس جديدة، وإعادة صياغة توازن المصالح داخل المجتمع برمته. وقد حصل هذا الأمر في مجتمعات تقليدية عديدة في العالم.

ليس لذلك سوى معنى واحد، وهو أن مجتمعات المشرق لم تدخل بعد مرحلة الحداثة، إذ لا يعني إستهلاك مقتنيات الحداثة الإنخراط فيها وإستبطانها. ثمة شروط عدة لا يبدو أنها متوافرة لوصف هذه المجتمعات بالحديثة، من ضمنها عدم قدرة هذه المجتمعات على تطوير صيغ مرنة، وليست مائعة، تتيح لها الإنخراط ضمن الفضاءات الوطنية، بعيداً عن ديكتاتورية الطائفة وظلّها الثقيل. وبالتالي، كان من السهل دائما اللجوء الى الصراع لتحديد موازين القوة بين الطوائف، داخل تلك المجتمعات.

المستقبل

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى