صفحات الرأي

مجهولان في مستقبل سوريا: الشعب والدولة/ حسام عيتاني

 

 

 

مستوى الدمار الذي الحقته الحرب على المجتمع السوريّ في الأعوام السبعة الماضية، لا يمكن ملاحظتها الآن حيث لم يهدأ بعد دويّ المدافع وعصف الانفجارات وأصوات الطائرات المغيرة.   

يضاف الدمار هذا على ما كانت شهدته سوريا من حروب على النخب والهيئات الأهلية والمدنية بدأت منذ زمن الوحدة مع مصر، واتخذت منحى منهجياً ومتصاعداً مع تولي حزب البعث السلطة، ووصلت إلى ذروتها مع اندلاع الصراع بين حافظ الأسد ومجموعات المعارضة في أواخر السبعينيات التي تحولت حرباً أهليّة خصوصاً بين النظام وبين جماعات الإسلام السياسيّ.

مع بداية الثورة السورية التي نحيي هذه الأيام الذكرى السابعة لانطلاقتها، كان النظام يمتلك الخبرة والأدوات والتحالفات الداخلية والخارجية التي تؤهله للصمود أمام تظاهرات من النوع الذي شهدته تونس وليبيا ومصر في بدايات 2011. وانتصر قرار المواجهة الأمنية والقمعية لكل مظاهر الاحتجاج على المحاولات الخجولة التي قيل إن جهات معينة في النظام كانت تسعى من خلالها إلى حلّ سياسيّ.

في المقابل، بدأت الثورة بمطالب الحد الأدنى: الإصلاح والعدالة والكرامة. ولم تُطرح فكرة الإطاحة بالنظام إلا بعد شهور من بدء التظاهرات وبعد سقوط آلاف الضحايا برصاص قوات الأمن والجيش الذي نزل إلى الساحات حاملاً أوامر صريحة بقتل المتظاهرين، على ما تفيد التقارير الموثقة للمنظمات الحقوقية والدولية. وعلى الرغم من عديد الأوراق التي صدرت عن الهيئات المعارضة، لم تنجح لا الأوراق ولا الهيئات في ضمّ كل المطالبين بالتغيير السياسي في سوريا وفق رؤية عامّة تحدد الوجهة التي يريد السوريون السير بها.

انعكس هذا الواقع المشتت لقوى المعارضة التي لم تكن في بداية الثورة قد برأت بعد من كارثة التصفية التي تعرضت لها في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، وعجزت الثورة عن صوغ خطاب جامع لكل فئات الرافضين لبقاء الوضع على ما كان عليه قبل آذار 2011؛ وهي مأساة دُفع ثمنها الباهظ وغير المسبوق على المستوى العربي (ربما تصح مقارنتها فقط مع حروب جنوب السودان الدمويّة والتي رافقتها مجاعات وعمليات تهجير واسعة النطاق، قبل أن يستقل الجنوب ويتابع حروبه الأهلية خارج الإطار العربيّ).

من دون استطراد في شرح الماضي القريب الذي سال حبرٌ كثيرٌ في وصفه وتحليله، لنقل الأمور ببساطة: فجرت الثورة السورية، بأطوارها ومراحلها المختلفة ووصول سوريا اليوم إلى حالة الساحة المباحة لكل القوى الإقليمية والدولية المحددة وحدها إيقاع العملية السياسيّة، فجرت مسألة المجتمع والشعب والدولة؛ أو ما كان يسمى في لبنان قبل حروبه وأثناءها بـ”مسألة الكيان”.

لا مبالغة في القول إنّ المسألة هذه كانت قد أُخرِجت إخراجا متعسفاً من التداول والنقاش على أيدي نظام البعث الذي فرض وجهة نظره حول “القطر السوري” وعروبته، ساحقاً كل وجهات النظر المخالفة؛ مما أعاق تكون وطنية سورية على أساس أنّ البحث في هذه الوطنية يشكل خيانة للقومية العربية التي ينبض قلبها في دمشق. أسفر حكم البعث عن وجهه، خصوصاً بعد وصول عائلة الأسد إلى الحكم، كنظامٍ طائفيّ يستخدم شعارات الصراع العربي ضد إسرائيل والعروبة، إضافة إلى الاشتراكيّة والتأميم وغيرها، كوسائل لتأبيد سيطرته.

هذه الحقائق التي جرى تناولها في الكثير من أعمال الكتاب السوريين على مدى الأعوام الماضية، كان لها أثر على تكريس انقسام غير معلن بين المناطق والفئات السورية حيث راحت تتطور مشاعر قومية وجهوية مكبوتة في العديد من النواحي. لعلنا نشهد اليوم الصعود الكبير للمطالب الكردية التي قُمعت منذ خمسين عاماً. لكن ذلك لا يلغي أنّ النوازع المناطقية والطائفية والقومية تعيش اليوم، في ظل انحسار سلطة المركز انحساراً كاملا عن عدد من المناطق وجزئياً عن مناطق أخرى، تعيش ازدهاراً ملحوظاً. والأمثلة معروفة لكل مراقبٍ للشأن السوريّ.

والآن، في الوقت الذي يبدو فيه أنّ الحل السياسي لن يكون إلّا على مقاسات ومصالح القوى الإقليمية التي تورطت في الصراع السوري ونجحت في تحويله إلى صورة عن طموحاتها، من دون أخذ مصالح وطموحات السوريين في الاعتبار، يعود الضوء ليُسلط على إشكالية التكوين المجتمعي الذي يفترض به أن يكون الأساس الجامع الذي يمكن أن يظهر منه “الشعب” كمفهوم سياسيّ، وليس ككتلة بشرية.

لا مفر من الاعتراف بالخشية الكبيرة من أن تكون حدة الصراعات التي رافقت الثورة السورية وقلبتها مجموعة معقدة من الحروب الأهلية والإقليمية والدولية قد ألحقت أضراراً شديدة بالمجتمع السوري ورسخت خطوط الفصل بين قومياته وطوائفه وطبقاته الاجتماعية، وبين الداخل والخارج وبين اللاجئين والباقين في البلاد وبين العديد من شظايا التصدع الاجتماعي الذي طغى في السنوات الماضية. بكلمات أخرى، أن يكون المجتمع السوري في حاجة إلى فترة زمنية مديدة ليعيد اكتشاف ذاته ويحدد مدى حاجته إلى التلاحم مجدداً، إذا ظهرت هذه الحاجة أصلاً.

ذلك أنّه يصعب بمكان تصور علاقة تقوم بين مناطق الشمال والشمال الشرقي الكردي وبين أي نوع من السلطة المركزية في دمشق، على سبيل المثال. ناهيك عن أنّ الحرب قد فرزت وقائع مادية واقتصادات موازية بات ثمة من يدافع عنها وعن أرباحها وغنائمها ويعسر أن يقبل بالانضواء مجدداً في اقتصاد وطني، سواء على النسق القديم الفاسد، أو على نسق جديد (الشيء بالشيء يذكر أن بعض الأوراق المقدمة للإصلاح الاقتصادي لسوريا بعد الحرب تقوم على فرض رؤية نيوليبرالية ستكون شديدة القسوة والإجحاف بحق شرائح واسعة من السوريين، ما سيعني، ومن دون كثير تفكير، زرع بذور اضطراب اجتماعي وطبقي جديد).

وإذا تعذر التوصل إلى توافقات تنقل الجماعات السكانية إلى سوية “الشعب” كمفهوم سياسيّ يقتضي اتفاق المواطنين على جملة من قواعد الحكم والقيم والمصالح والأصدقاء والأعداء، ستكون متعذرة كذلك إمكانية الانتقال من الكيانات السياسية القائمة على الزعامات المسلحة المنتشرة اليوم في العديد من البقاع السورية (ومن ضمنها الزعامة الأسديّة التي تصر على أنّها الدولة)، إلى “الدولة” كمفوم سياسيّ أيضاً، يتعين عليها أن تحدد نفسها سواء كانت فدرالية أم مركزية أو أيّ شكل آخر من اشكال الحكم، بناءً على اتفاق أكثريّة مواطنيها.

الطروحات التي يتداولها المشرفون الخارجيون على الصراع السوري تركز على “المكونات” الطائفية والعرقية، على الطريقتين العراقية واللبنانية الكارثيتين، كتصور لحل مقبل بعدما فشلت الثورة السورية في تقديم نفسها كمشروع وطنيّ عامّ لأسباب صارت معروفة. هذا النوع من الحلول، الشبيه أيضاً بما طُبّق في البوسنة بعد حربها في بداية التسعينيات، قد يأتي بقدر من الهدوء الأمنيّ الذي يسمح لمشاريع إعادة الإعمار بانطلاق بعد الأخذ في الحسبان القوى المحلية المهيمنة، على ما شهدته إعادة إعمار لبنان مثلاً.

لكن الاسئلة حول قدرة هذا النموذج على الصمود والاستمرار، من دون ذكر النجاح والازدهار، ستظل قائمة بسبب الارتباط العضويّ بين هذا النوع من التسويات وبين الرعاية الإقليمية والدولية التي تقدم نفسها على أنّها ضمانة السلم الأهليّ، لكن ما من شيء يضمن بقاء هذه الرعاية ذاتها  إذا تغيرت التوازنات أو ظهر فاعل جديد ومفاجئ.

والإنهاك الشديد الذي أصاب السوريين كأفراد وكجماعات والقصور الجليّ الذي ميز العمل السياسي والميداني للمعارضة منذ اليوم الأوّل للثورة، يتركان مواضيع حاسمة الأهميّة مثل “الشعب” و”الدولة” خارج التفكير الضروريّ، ويفرغان الساحة لسيطرة نوع من البراغماتيّة المبتذلة.

صحافي وباحث لبناني، يشغل حالياً موقع مسؤول ملحق “صحافة العالم” الأسبوعي في جريدة الحياة اللندنية.

معهد العالم للدراسات

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى