صفحات مميزة

محادثات فيينا حول الشأن السورية –مقالات وتحليلات-

ماذا وراء فيينا؟/ ميشيل كيلو

ثمة سر وراء ذهاب الدول إلى فيينا، يرتبط باستحالة بدء عملية السلام في سورية، انطلاقا من تشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، كاملة الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية، بتراضي الطرفين، كما تقول وثيقة جنيف وقرار مجلس الأمن رقم 2118 الذي حدد آلية تنفيذها.

المشكلة أن الروس تخلوا عن جنيف، والنظام يرفض رفضا مطلقاً هدفه، نقل سورية إلى الديمقراطية الذي سينجز بتعاون أطراف منه مع المعارضة لتشكيل “الهيئة الحاكمة الانتقالية”، التي ستنجز الحل، وأنه تمسك ببشار الأسد، أو أجبر على التمسك به بمعونة روسية / إيرانية، حتى بعد الهزائم التي نزلت بجيشه، وزلزلت نظامه، وأوشكت أن تسقطه، علما أن رحيله يعتبر شرطاً لا بد منه للتراضي بين أهل الثورة وأهل النظام أولاً، ولقيام “الهيئة الحاكمة” ثانياً، وللانتقال الديمقراطي الموعود في نهاية الأمر. لم يحدُث التراضي المطلوب، وبقي بشار مؤيداً من أجهزته، فلم تؤسس “الهيئة” التي يعتبر تشكيلها بداية الحل الذي بدا، وما زال يبدو، مستحيلاً.

لا مبالغة في القول إن كل ما يفعله الأميركان يندرج في إطار الالتفاف على هذه الاستحالة، وكل ما يفعله الروس والإيرانيون يقتصر على تثبيتها وترسيخها. لم تتخلَّ عصابات الجيش والأمن الأسدية عن بشار، فلعب الأميركيون، وبعض الأوروبيين، بفكرة إبقائه رئيساً خلال مرحلة انتقالية، تتراوح بين ستة أشهر وعام ونصف العام، تشكل خلالها “الهيئة” في صورة “حكومة وحدة وطنية” (مقترح روسي) تكون بقيادته وليس ضده، كما يقول قرار تفسيري صدر عن مجلس الأمن، يقول إن صلاحيات الهيئة التنفيذية تعني صلاحيات رئيسي الجمهورية والوزراء اللذين ستنتفي الحاجة لهما حتى خلال مرحلة الانتقال. وبدورها، تمثل لجان دي ميستورا محاولة أخرى للالتفاف على معضلة “الهيئة الحاكمة” التي أدرجها في بند خاص من البنود التي ستتحاور اللجنة القانونية والسياسية حولها، وتخلى بذلك عن تشكيلها باعتبارها بداية الحل. وقد رفض “الائتلاف” مقترحه لهذا السبب، وطالبه بفصل “الهيئة” عن سواها من بنود “الحوار”، وتكريس لجنة خاصة لها، ما دامت مهام بقية اللجان ستحل بقرارات ستصدر عنها، لا تحتاج إلى تفاوض أو حوار.

هذا الالتفاف محكوم بالبحث عن أداة غير “الهيئة”، تكون مدخلا إلى جنيف معدل هنا وهناك، انتهى، أخيراً، إلى مقترح لا ينتمي نهائياً إلى وثيقته، يتحدث عن “جسم حكم وحوكمة”، خالطاً بين الاثنين، ومتجاهلا الفارق بين الحوكمة أسلوباً في الإدارة و”الهيئة الحاكمة”، أو الجسم الحاكم، كياناً سياسياً/ مؤسسياً، وظيفته نقل سورية إلى الديمقراطية، وليس الحوكمة التي أرجح أن أحداً لن يمارسها قبل الانتقال، لافتقار سورية الحالية إلى جميع متطلبات ممارستها من بيروقراطية رشيدة إلى قضاء مستقل وصحافة حرة إلى رقابة برلمانية لمؤسسات الدولة. في المقابل، يتمسك الروس بتصورهم للحل، الخارج بنسبة ألف بالمائة عن جنيف، والذي يقتصر على تشكيل بشار الأسد، بصفته رئيس سورية المنتخب، وبالتالي الشرعي، حكومة وحدة وطنية، وبضم “جيش الدفاع الوطني” إلى جيش السلطة، قبل ضم الجيش الحر إليهما، وإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية برقابة دولية. يحق طبعاً لبشار ترشيح نفسه فيها، بعد انتهاء ولايته الحالية، أي بعد خمسة أعوام، كما يقال مرة، أو بعد تشكيله الحكومة وهيكلته الجيش، كما يقال مرة أخرى. ينبني المشروع الروسي بكامله على التمسك باستمرار النظام وبشار، بينما مشروع جنيف الذي وافقت روسيا عليه نهاية يونيو/حزيران 2012، قائم من ألفه إلى يائه، على فكرة الانتقال الديمقراطي، وبالتالي، على رحيل بشار وتغيير النظام.

في هذه الأثناء، يقوم الروس بجهد عسكري كبير جداً، هدفه شطب الجيش الحر و”الائتلاف” من معادلات الحل، تحقيقاً لهدف بشار القديم: الوصول إلى وضع يكون بديله فيه “داعش” و”النصرة” ولا أحد سواهما، يخير العالم بينه وبينهما، فيختاره هو. هذا ما يعمل عليه الروس، فإن سمح “أصدقاء الشعب السوري” لهم بإنجاحه عسكرياً، تعاظمت فرص حلهم السياسي، الذي سيتم عندئذ بين النظام و”معارضتهم” التي يعملون، منذ ستة أشهر، لفبركتها.

العربي الجديد

 

 

 

 

بيان فيينا وتفاهمات جديدة/ حسين عبد العزيز

على الرغم من إقرار الأمين العام للأمم المتحدة، بان كي مون، بفشل اجتماع فيينا لعدم الاتفاق على مصير الأسد، فإن الاجتماع، بحد ذاته، شكّل تطوراً مهماً على صعيد حل الأزمة السورية، فلأول مرة تُشارك قوى إقليمية متعارضة حول سورية على طاولة واحدة. ولأول مرة، يجري التوافق على شكل سياسي موحد للحل في سورية. ولأول مرة، يتم استبعاد السوريين أنفسهم من اجتماع دولي موسع كهذا، ولأول مرة تبدأ الأطراف بتحديد هوية الفصائل والقوى التي تقع خارج دائرة الإرهاب.

وقد بدا واضحاً أن الاجتماع سيكون مختلفاً عن أية اجتماعات سابقة مخصصة لبحث الأزمة السورية، حيث ظهرت مؤشرات إيجابية عدة قبيل عقده، منها أولاً، تلميح إيران إلى تفضيلها مرحلة انتقالية مدتها ستة أشهر، تعقبها انتخابات لتحديد مصير الرئيس بشار الأسد، على الرغم من نفي أمير عبد اللهيان، نائب وزير الخارجية الإيراني وعضو الوفد الإيراني في المحادثات، هذا الكلام الذي نسب إليه. ومنها ثانيا، إعلان مندوب روسيا في مجلس الأمن، فيتالي تشوركين، من أن النظام السوري أوقف القصف بالبراميل المتفجرة، إثر دعوات متكررة من موسكو بشكل خاص لوقف استخدامها لتجنب سقوط ضحايا مدنيين. ومنها ثالثا، تصريح ميخائيل بوغدانوف، نائب وزير الخارجية الروسي، بأن موسكو والرياض تبادلتا قوائم بشأن الشخصيات المعارضة التي يمكن أن تشارك في مفاوضات مع الحكومة السورية، بما فيها “الجيش الحر” والأكراد.

انتهى الاجتماع باتفاق 17 دولة، إضافة إلى الأمم المتحدة والاتحاد الأوروبي، على نقاط تسع شكلت مبادئ عامة للحل السياسي في سورية: وحدة سورية واستقلالها وهويتها العلمانية، بقاء مؤسسات الدولة، تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة، وضع دستور جديد، إجراء انتخابات جديدة، تنفيذ وقف إطلاق النار في كل أنحاء البلاد.

تشكل هذه النقاط تطوراً إيجابياً من حيث المبدأ، وإن لم تصل إلى المستوى الذي تنشده المعارضة السورية وداعموها الإقليميون. لكن، ثمة جديد هنا، فقد انتقل التفاهم من المبادئ العامة الفضفاضة إلى المضامين السياسية والآليات التي يجب اتباعها، والتي ستكون مثار نقاش الاجتماعات المقبلة.

اعتمد البيان الختامي لاجتماع فيينا على بيان مجموعة العمل الدولية (بيان جنيف)، وتجاوزه

“تجاوز بيان فيينا وثيقة جنيف لجهة شكل هيئة الحكم، فجنيف تنص على تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، فيما دعا البيان إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية” في آن معا، فالفقرة السابعة من بيان فيينا تؤكد أن آلية الحل السياسي متضمنة في بيان جنيف، بعدما أصبح قاعدة سياسية وقانونية وفق المادتين 16 و17 من قرار مجلس الأمن الدولي 2118، خصوصا فيما يتعلق بالمرحلة الانتقالية. وفي الوقت نفسه، تم تجاوز وثيقة جنيف لجهة شكل هيئة الحكم، فبعدما أكدت الوثيقة على ضرورة تشكيل هيئة حكم انتقالية ذات صلاحيات تنفيذية كاملة، يشارك فيها النظام والمعارضة مناصفة، دعا بيان فيينا إلى تشكيل حكومة ذات مصداقية وشاملة وغير طائفية. وهناك فرق كبير بين الحالتين. في الأولى، تنتزع صلاحيات الرئاسة، وتعطى إلى الحكومة التي ستكون مشرفة على المؤسستين، العسكرية والأمنية. وفي الحالة الثانية، لن تكون الحكومة المقرر تشكيلها ذات صلاحيات كاملة، وإنما ذات صلاحيات معقولة، يجعل منها حكومة جديرة بالثقة.

لكن، حتى الآن لا تبدو الصورة واضحة حول عمل المؤسستين العسكرية والأمنية، هل سيتم تقسيمهما؟ بحيث تكون المؤسسة العسكرية ضمن صلاحيات الرئاسة، في حين تكون المؤسسة الأمنية ضمن صلاحيات الحكومة التي تتشكل من النظام والمعارضة، بحسب ما سرّب، ما يعني أن المؤسسة الأمنية فعليا لن تكون بالكامل تحت سلطة المعارضة. وتنجم عن هذه المسألة تفرعات كثيرة، منها ما هو مصير فصائل المعارضة المسلحة التي ستدخل في العملية السياسية والعسكرية؟ ولمن ستؤول صلاحية السيطرة عليها، وكيف يمكن فرز بعض هذه الفصائل عن الأخرى التي تندرج في قائمة الإرهاب، مثل “جبهة النصرة”، في ظل التحالفات الميدانية القائمة الآن.

وهناك مشكلة أخرى مرتبطة بتحديد هوية المعارضة السياسية، بعدما تشكلت في سورية معارضات، يتماهى بعضها مع نظام الحكم في دمشق (حزب الشعب، حزب التضامن، حزب التنمية، حزب الشباب الوطني للعدالة والتنمية، التجمع الأهلي الديمقراطي للأكراد السوريين، تيار سلام ومجد سورية)، وبعضها الآخر يقف مقابل النظام (الائتلاف)، في حين بقيت أطراف أخرى بين المنزلتين (هيئة التنسيق، تيار بناء الدولة). على أن الإشكالية الكبرى التي تواجه المعارضة وداعميها، هي هل يمكن المشاركة في هذه الحكومة، قبيل معرفة مصير الأسد؟ بعبارة أخرى، هل سيؤدي هذا المسار السياسي، في النهاية، إلى رحيل الأسد، وعدم ترشحه للانتخابات؟

تبدو الإجابة عن هذا السؤال صعبة للغاية، في ظل الخلاف القائم بين الأطراف الإقليمية والدولية للأزمة السورية: السعودية وقطر وتركيا يطالبون برحيل الأسد عبر حل سياسي أو عسكري، فيما تتمسك روسيا وإيران ببقائه ضمن أي حل يتم التوصل إليه. في حين يبقى الموقف الأميركي غامضا كعادته. يقول وزير الخارجية الأميركي، جون كيري، إن “السوريين يستحقون خيارا آخر بين الأسد والمنظمات الإرهابية”، لكنه يقول في المقابل، “لا يمكن أن نسمح بأن يقف هذا الخلاف في الطريق أمام إمكانية أن تعمل الدبلوماسية لإنهاء القتل”.

العربي الجديد

 

 

 

فيينا2: بيان بلا بيان/ علي العبدالله

لم تستطع اللغة والمواقف الايجابية التي وردت في بيان فيينا اخفاء الخلافات العميقة والعقبات الكثيرة والكبيرة التي تعترض طريق الدول التي اجتمعت للاتفاق على حل سياسي للصراع في سوريا وعليها. وقد عكس غياب خريطة طريق واضحة وجدول زمني محدد ذلك بوضوح. فالاتفاق على منطلقات عامة للحل لا تعني الوصول الى حل بقدر ما تعكس توجه المجتمعين الى الانخراط في عملية سياسية اكثر من توجههم الى حل سياسي قريب، عملية سياسية تبدأ بالاتفاق على مبادىء عامة تليها مفاوضات طويلة لتفسير هذه المبادىء وتقنينها وتحويلها الى خطوات اجرائية، وهذه سترتبط بالتطورات الميدانية التي قد تجعلها سلسة وممكنة او تضعها في الادراج في ضوء نتائج العمليات العسكرية على الارض.

وأول ما يلاحظ على البيان طابعه الايجابي، وكأن المجتمعين على مسافة بسيطة من الاتفاق، مع أن نقاط الاختلاف، والنقاط التي رُحلت الى لقاءات قادمة، اكبر من ان تخفى او يتم القفز عليها. فالحديث عن “وحدة سوريا واستقلالها وسيادة أراضيها وهويتها العلمانية، والابقاء والحفاظ على المؤسسات السورية، وحماية حقوق السوريين بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية او الدينية، واهمية تعزيز وتكثيف الجهود الدبلوماسية لإنهاء الحرب، وضمان وصول المساعدات الانسانية الى كل المناطق وتعهد الدول المشاركة بزيادة الدعم المقدم للنازحين واللاجئين السوريين في بلادهم”، حديث لطيف ومطالب منطقية، ولكن كيف ستدخل هذه المطالب حيز التنفيذ في ضوء تعدد الدول الفاعلة في الصراع وتباين مصالحها الى حد التناقض. وثاني الملاحظات تناقض بين مطلع البند السابع ونهايته حيث يشير المطلع الى بيان جنيف، الذي تحدث عن تشكيل هيئة حاكمة كاملة الصلاحيات، وقرار مجلس الامن 2118، الذي صدق على البيان واعطاه صفة الالزام، ونهايته التي تتحدث عن “تشكيل حكومة قادرة وفعالة وشاملة وغير طائفية”. فالكلام الرومانسي لا يحجب هذا التباين، وهو تباين سيثير خلافات اضافية لأنه يعيد العملية الى المربع الاول: طبيعة النظام السياسي في سوريا. وثالث الملاحظات التعابير الفضفاضة والبالغة العمومية التي استخدمها البيان في وصفه للدستور الجديد وللانتخابات “بما يحقق أعلى المعايير العالمية وأعلى معايير الشفافية والتحقق، ويقود الى اجراء انتخابات حرة ونزيهة يشارك فيها كل السوريين بمن فيهم المهاجرون الذين لهم حق المشاركة”، عبارات آخاذة لكنها خيالية في ضوء الواقع المعاش في سوريا، ورابع الملاحظات التباين الصارخ بين دعوة البيان لان تكون العملية السياسية “يقودها السوريون ويقرر الشعب السوري مستقبل سوريا” (البند الثامن) وعدم اشراك السوريين في الاجتماع، ليس هذا وحسب بل وتجاهل المجتمعين لجذر الصراع واسبابه المباشرة وتقديم مبادئ عامة للحل بمعزل عنها. كل هذا قبل ان يصل المجتمعون الى الحديث عن خطوة عملية: وقف اطلاق النار ولكن بصيغة “استكشاف طرق لتنفيذ وقف لإطلاق النار في كافة انحاء البلاد” ما يعني انها خطوة بعيدة المنال، وخاصة بعد التدخل الروسي والتصعيد الايراني وسعيهما لتعزيز قوات النظام لكسر توازن القوى وتحقيق مكاسب ميدانية لصالح النظام وتوظيفها في العملية السياسية، ما يجعل الحديث عن وقف اطلاق النار حديثا غير واقعي. ويختمون البيان بعبارة طريفة “وتعمل الدول المشاركة خلال الأيام المقبلةعلى تقريب وجهات النظر في القضايا الخلافية والبناء على القضايا المتفق عليها وسيجتمع وزراء خارجية الدول خلال أسبوعين لمواصلة النقاشات”. وكأن النقاط الخلافية هي نقاط قليلة او صغيرة والاتفاق عليها سهل وفي متناول اليد.

يلاحظ قارئ البيان انه ليس أكثر من عناوين عامة وكل عنوان منها يحتاج الى بحث مستفيض لتحديد طبيعته والاتفاق عليها وعلى الخطوات التنفيذية المطلوبة لتحقيقها، خاصة وان المواقف منها متباينة، تباينا يبلغ حد التناقض في بعضها مثل دور رأس النظام في المرحلة الانتقالية، من جهة ومن جهة ثانية لدورها في تحديد المنتصر والمهزوم وما يترتب على ذلك من اثر على النظام الاقليمي ودور القوى المحلية والدولية فيه. فالمبادئ العامة التي وردت في البيان جذابة ومغرية وقابلة لان تكون نقطة ارتكاز لكن عموميتها تستدعي تقنينها وتحويلها الى بنود قابلة للتحقق في الواقع، وهذا غير ممكن دون أخذ طبيعة الصراع واسبابه في الاعتبار والانطلاق من التعاطي مع مطالب السوريين في الحرية والكرامة التي يفتح الطريق اليها تغيير عميق للنظام الراهن واقامة نظام ديمقراطي تعددي على قاعدة المواطنة والمساواة بين المواطنين في الحقوق والواجبات بغض النظر عن العرق والدين والمذهب والجنس، وهذا لا يمكن ان يتم دون تخلي روسيا وايران عن تصوراتهما للحل ولمستقبل سوريا، ودون توقف موسكو عن محاولة اختراق المعارضة وتشتيتها وخلق الخلافات بينها والعمل على اقناع بعضها بالقبول بالتصور الروسي للحل، وقبولهما بتغيير شامل في بنية النظام الدستورية والقانونية وقواعد اشتغاله والانتقال الى نظام ينطلق من سيادة القانون، كي يحقق العدالة والمساواة بين المواطنين، ويفتح الحقل السياسي أمام الجميع ويشركهم في تحديد الخيارات السياسية والاقتصادية والاجتماعية للنظام وللبلاد كمدخل لاستعادة الوحدة الوطنية والعمل على تحقيق اندماج وطني حقيقي وفاعل.

لا يمكن انجاز تقدم على هذه المحاور دون حسم طبيعة التحرك السياسي لروسيا وهل اقترحت ما اقترحت من بنود لحل سياسي للمناورة والتغطية على الهدف الرئيس: دعم النظام وتعزيز موقفه، او لكسب الوقت علّ العمليات العسكرية تقود الى توازن قوى يميل بشدة لصالح النظام، ام انها جادة في البحث عن حل سياسي بعد ان لمست صعوبة تحقيق اختراق ميداني كبير يقلب توازن القوى في ضوء عجز قوات النظام وحلفائها عن تحقيق انجازات ميدانية مهمة رغم غارات شهر كامل بعنفها وعشوائيتها المقصودة ما يثير امكانية غرقها في مستنقع مجهول العواقب. يبقى المؤشر العملي لاكتشاف ذلك دورها في العمليات العسكرية القادمة والتي يتوقع المحللون ازدياد عنفها وشمولها للتأثير على مواقف الاطراف الاخرى على طاولة المفاوضات.

المدن

 

 

خلط الأوراق في سوريا/ سمير العيطة

بيان «لقاء فيينّا» الأخير مهمّ من حيث أنّه نجم عن اجتماع جميع القوى الإقليميّة المعنيّة بالأزمة السوريّة، خاصّة منها تلك التي تغذّي الحرب. ولا ضير من عدم حضور السوريّين فيه لأنّ ما يجب الحصول عليه أوّلاً هو توافق هذه القوى على إنهاء الحرب على سوريا عبر السوريين. وللتذكير، لم يكن هناك أيّ سوريّ عند صياغة بيان «جنيف 1» في 30 حزيران 2012. لقد رفضت معظم أطياف المعارضة الإشارة حينها إليه في وثائق «مؤتمر القاهرة» الذي أعقب ذلك ببضعة أيّام. ذلك قبل أن يصبح «بيان جنيف» بعد أشهر عدّة وثيقة مقدّسة ومرجعيّة لقرارات لمجلس الأمن، يفسّرها كلٌّ كما يريد.

ظاهريّاً لا يبدو أنّ «بيان فيينّا»، الذي يستند إلى «بيان جنيف»، قد أطلق ديناميّة لحلٍّ ما. فالحرب قد استعرت أكثر فأكثر. والغموض يسود حول الخطوة القادمة وعمّا سيتحدّث عنه وزراء خارجيّة «لجنة الاتصال الدوليّة» (بحسب تعبير المبعوث الأمميّ ستيفان دي ميستورا والبيان الرئاسي لمجلس الأمن) في اجتماعهم بعد أسبوع، هذا في حال عقده.

في المقابل، تشهد الساحة الإعلاميّة إشاعات هدفها خلط الأوراق.

ثمة إشاعات عن تشكيل مجلسٍ عسكريّ للمعارضة في القاهرة مع تفاصيل مثيرة عن خلافات بين الضباط المنشقّين وبين الفصائل المعارضة المسلحّة. لكن يكفي التمعّن في الخلاف الجوهريّ بين مصر وتركيا كي تنتفي إمكانيّة عقد لقاء لمثل هذا الغرض في القاهرة. ويكفي النظر إلى أسماء المشاركين لمعرفة أنّ الحوارات التي نسبت إليهم لا أساس لها. ويبقى السؤال حول من فبرك هذه الإشاعة ولأيّ هدف؟

وهناك إشاعات عن لقاءات بين بعض فصائل المعارضة المسلّحة ومبعوثين روس في موسكو. هنا تكفي معرفة أنّ أيّ فصيل مدعوم من تركيا سيخسر هذا الدعم بمجرّد ذهابه إلى موسكو. صحيحٌ أنّ موسكو تستطيع ضمان هدن في مناطق محاصرة. لكنّ المنطق والواقع يقولان إنّ اللقاءات مع المعارضة المسلّحة التي تخوض المعارك اليوم لن تحدث إلاّ إذا أنهت رباعيّة جنيف، أي روسيا والولايات المتحدة والسعودية وتركيا، والدول الأخرى المشاركة، خلافاتها المعلنة حول الحلّ.

وهناك إشاعات عن قائمة أسماء معارضين بارزين قدّمتها روسيا للبدء سريعاً في المفاوضات مع السلطة. في حين يعرف الجميع أنّ هذه القائمة تضمّ أسماء من دُعيَ إلى مفاوضات موسكو 1 و2، وموسكو تشير باستمرار إلى أنّها لن تقوم بعقد لقاء «موسكو 3». وماذا حينها عن لجان السيّد دي ميستورا الأربع؟

أمّا المعارضة السوريّة، فكلّ ما تفعله هو التموضع حول هذه الإشاعات من دون التدقيق فيها، بدل البحث عن آليّات لمواقف موحّدة تضع ثقلها كطرفٍ سوريّ مستقلّ ضمن العقد المستحكمة بين الدول المتصارعة.

مرحلة خلط الأوراق الحاليّة تذكّر بما حدث في بدايات الانتفاضة السوريّة، حين فبركت أجهزة الأمن السوريّة كما تلك التابعة للقوى المناهضة للسلطة، أموراً دفعت لإبعاد الثورة عن منطق الحريّة والكرامة والمساواة والانحراف نحو الطائفيّة والسلاح والحرب. فهل تهدف الفبركات الحاليّة إلى ضرب مقوّمات الحلّ في سوريا، أم لخلق دخّانٍ كثيف يحجب عن المشهد ما يجري في كواليس الديبلوماسيّة الدوليّة بين لقائي فيينّا الثاني والثالث؟

الأمر الوحيد الذي أصبح أكثر وضوحاً اليوم، هو سقوط مقولتي أنّ «داعش» والمعارضة المسلّحة شيءٌ واحد سمّي التكفيريين، وما يقابل ذلك من أنّ «داعش» صنيعة السلطة السوريّة وحليفتها. لقد بات ظاهراً للعيان أنّ طرفي الصراع يستخدمان ورقة «داعش»، يهادنانها أو يحاربانها بحسب الظروف. عدا الطرف الثالث المتمثّل بقوّات الكرد السوريين وحلفائهم.

لكنّ هذا الوضوح لا يدلّ على أنّ مرحلة توحيد الجهود ضدّ «داعش»، أو على الأقلّ منعها من الاستفادة من ظروف الصراع، قد انطلقت. لكنّه يعني أنّ أساس الحلّ في سوريا ما زال يحتاج إلى توافقٍ مُعلن أو مُضمر أكثر عُمقاً في فيينّا.

النبأ الوحيد الذي قد يكون له دلالات نحو الحلّ هو تعرّض الليرة السوريّة لهزّة حقيقيّة. إنّه يزيد من معاناة المواطنين السوريين، إلاّ أنّه قد يعني وقف تدفّق الأموال على الطرفين.

السفير

 

 

 

محادثات حول مصير سورية في غياب السوريين/ عبدالباسط سيدا

كُتب الكثير حول التدخل العسكري الروسي المباشر في سورية، وقُدم العديد من التحليلات والاستنتاجات التي استندت إلى جملة من النظريات المتباينة. منها ما انطلق من فكرة التوافق بين الروس والأميركيين على «حلٍّ» ما، ومنها ما اعتمد فكرة التعارض بينهم، فيما تحدث آخرون عن بداية التفارق الروسي – الإيراني، وحاول بعض من مؤيدي النظام وأتباعه الترويج لفكرة وجود استراتيجية روسية – إيرانية متكاملة ستتجسّد مآلاتها في القضاء النهائي على القوة العسكرية للمعارضة السورية تحت شعار مكافحة الإرهاب، هذا الشعار الممجوج الذي بات وسيلة لتسويغ وتمرير المشاريع التي لا يستطيع أصحابها التحدث عنها علناً، لأنها في الأحوال العادية عصيّة على أي تسويغ.

لكن حتى الآن، وبعد مرور أسابيع عدة على بداية الغارات الروسية المطعّمة بالصواريخ الباليستية، وهي مدة لا يستهان بها وفق المقاييس والحسابات العسكرية، لا يبدو أن تغييراً نوعياً في الموازين قد حدث على الأرض. على النقيض من ذلك، تمكنت فصائل المعارضة الميدانية من امتصاص الصدمة، والتكيّف معها، كما حققت الفصائل المعنية الكثير من الإنجازات، بخاصة في ميدان تدمير دبابات النظام وآلياته وإلحاق خسائر جسيمة بالقوات المهاجمة على الأرض، سواء تلك الإيرانية، أم تلك التي تخصّ حزب الله والمجموعات الأخرى التي استقدمتها إيران من مختلف الأنحاء والأصقاع، في إطار ما تسوّقه كحرب «مقدّسة» لحماية الأماكن المقدّسة. وهكذا تقاطع «المقدّس» الإيراني مع «المقدّس» الأرثوذكسي الروسي في مواجهة افتراضية مع «المقدّس» الداعشي.

أما على الصعيد الواقعي، فما يجري لا يخرج عن نطاق جهود حثيثة يبذلها كل طرف لتحقيق مصالحه على حساب الشعب السوري، ومن دون أي اعتبار للتدمير الذي تتعرض لها سورية على صعيد الشعب والنسيج الوطني المجتمعي والبنية التحتية والكوادر والمؤسسات.

لكن الأمر اللافت أن التدخل الروسي كان في مثابة الخطوة التي حركت المواقف الإقليمية والدولية في خصوص سورية، وذلك بعد فترة ركود نسبية استمر خلالها التطاحن بين مختلف القوى في الداخل السوري، وتفاقمت أزمة اللاجئين وباتت تشكّل هاجساً كبيراً بالنسبة إلى دول أوروبا الغربية، وذلك من جهة تكاليف الاستيعاب، وردود الأفعال المجتمعية الآنية، وتبعاتها المستقبلية. وقد أوحى الترقّب الأميركي الواضح، كما أوحت ردود الأفعال المدروسة من جانب السعودية وتركيا على وجه التحديد، بوجود نَفَسٍ جاد للبت في إمكان الوصول إلى حل سياسي لمعالجة الجرح السوري المفتوح، وهو الذي بات يؤثر فعلاً في الجوار الإقليمي، وستمتد نتائجه إلى المحيط الدولي – الأوروبي الأقرب، إن لم نقل إنها امتدت فعلياً.

وقد جاء اجتماع فيينا في 23 تشرين الأول (أكتوبر) الماضي ليجسّد النَفَس المشار إليه، ويعلن انطلاقة المحادثات الدولية – الإقليمية للتوصل إلى حلٍّ يكون في مثابة تقاطع مصلحي بين الجميع. ويبدو أن التوافق الأولي على الخطوط العامة قد حصل، ومنها الحفاظ على وحدة سورية، وهوية الدولة، وتغيير الحكم. وهي خطوط تلتقي في إطارها العام مع توجهات الشعب السوري بمختلف مكوّناته. لكن العقدة ستكون في التفصيلات، وعملية إخراج المتفق عليه، وترجمته واقعاً على الأرض.

السوريون بكل مكوّناتهم، يريدون الحفاظ على وحدة بلدهم، لأنها الضمانة الأفضل لهم ضمن الظروف والمعطيات الحالية، وذلك بعد عقود من العيش المشترك والتفاعل. لكن التجربة أثبتت أن هذه الوحدة لا يمكنها أن تتعايش مع الاستبداد والإفساد، ومع النزعات المذهبية – الطائفية اللاعقلانية، أو القوموية العنصرية الانعزالية. ولذلك لا بد من دولة محايدة أيديولوجياً ودينياً وقومياً يحترم دستورها جميع الخصوصيات، ويعترف بحقوق سائر الجماعات التي يتشكل منها الشعب السوري، والتي من أجل شبابها وأجيالها المقبلة كانت الثورة.

فظاهرة «داعش»، الأقرب إلى الشركة المخابراتية المساهمة، لا تنسجم مع طبيعة المجتمع السوري، وتتناقض مع التوجه التقليدي للاعتدال السني السوري. كما أن ظاهرة ولاية الفقيه، و «حزب» الله و»جنوده» تدفع بالسوريين، بخاصة العلويين منهم، نحو حالة اغتراب لم ولن ينسجموا معها أبداً.

كما أن التوجهات العقائدية القوموية بمختلف أسمائها وتفرعاتها، العربية منها والكردية وغيرها، شكّلت على الدوام، وما زالت، عائقاً أمام تفاعل السوريين ووحدتهم الوطنية، ومهدت الطريق باستمرار أمام الشكوك والهواجس المتبادلة.

ما ينقذ سورية، ويطمئن كل مكوناتها، جماعات وأفراداً، هو المشروع الوطني لكل السوريين ومن أجلهم كلهم على قاعدة احترام الخصوصيات والحقوق. ومشروع كهذا سيكون في المنظور البعيد لمصلحة دول الإقليم ومجتمعاته، لأنه سيساهم في ترسيخ معالم الأمن والاستقرار في المنطقة، وسيفتح الآفاق واسعةً أمام المشاريع التنموية القادرة على استيعاب الطاقات الشبابية، وتوظيفها في خدمة التطوير المجتمعي المتوازن، ما يشكّل ضمانة أكيدة للمصادرة على النزعات المتطرفة، وتجسّداتها وتحوّلاتها الإرهابية.

ويبقى موضوع تغيير الحكم المفتاح لبلوغ المذكورين. فالحكم الحالي هو الذي أوصل البلاد والعباد إلى الوضع الكارثي الشمولي الراهن، ومن دون تغيير جذري نوعي فيه ستظل دوّامة العنف، وستستمر المأساة، وسيتواصل تدفق السوريين نحو المهاجر، كما سيتوالى توافد جنود مقاتلي المشاريع «المقدسة» إلى سورية ليعيثوا فيها فساداً وتدنيساً.

ويبدو أن المجتمعين في فيينا لم يتوافقوا بعد حول التفصيلات الخاصة بالتوجهات الأساسية الثلاثة: وحدة سورية، هوية الدولة، وتغيير الحكم. ولهذا كان الاتفاق على استمرار اللقاءات، وتوسيع دائرتها، لتشمل المزيد من القوى الإقليمية والدولية. وهذا أمر يستشف منه ظهور صيغة ما من التوافق الأميركي – الروسي، وهو توافق أثبتت التجربة المريرة لأكثر من أربعة أعوام، أنه يبقى الأساس والمدخل لأي حل ممكن يراعي مختلف التوازنات.

لكن الطريف والأليم في الوقت ذاته، أن الكل يزعم حرصه على مصلحة السوريين، ويعلن احترامه قرارهم، لكن مع ذلك يبقى السوري في المعارضة والموالاة آخر من يعلم بخبايا الطبخة وماهيتها.

أما الأمر الأهم الذي ينبغي أن يعلمه الجميع، فهو أن أي حل مقترح أو مفروض لا يرتقي إلى مستوى تضحيات السوريين وتطلعاتهم، سيبقى مجرّد إجراء طارئ وقتي، ولن يساهم في معالجة الجرح السوري النازف، بل سيزيده نزفاً وتأثيراً، ويجعل علاجه أكثر صعوبة وتعقيداً.

* كاتب وسياسي سوري.

الحياة

 

 

 

مصير الأسد و… الإقليم رهن تقدم المسار السياسي/ جورج سمعان

فتحت فيينا الباب واسعاً أمام المسار السياسي. لكن الحل ليس خلف الباب. الأزمة السورية ليست وحدها موضوع اللقاءات الموسعة. هي أيضاً تفتح الباب بالضرورة نحو أزمات المنطقة من بغداد إلى صنعاء وبيروت وغيرها. ما سينتهي إليه المسار، أياً كانت نتائجه، سيقرر صورة النظام الإقليمي برمته، والذي يشكل لبنة أساسية في بناء النظام الدولي. من أوكرانيا الأوروبية أو الروسية إلى بحر الصين. التدخل العسكري الروسي لم يبدل قواعد الحرب على الأرض فقط. دفع جميع المتصارعين في سورية وعلى سورية إلى عملية سياسية طويلة. ومن المبكر توقع نتائج فورية وسريعة. فالحوار الواسع والشامل يجري فوق صفيح حارق. وستظل النار مشتعلة كما هي القاعدة في أي عملية لاستثمار ما يفرزه الميدان. وجلوس المتخاصمين جميعاً إلى الطاولة يرسخ حقيقة رئيسية هي أن طرفاً وحيداً أو تحالفاً منهم لا يمكنه ادعاء القدرة على إنجاز حل أو تسوية من دون الآخرين.

عجز القوى الإقليمية لا يحتاج إلى دليل. ولولاه لما استنجدت بالقوى الكبرى، من الولايات المتحدة إلى روسيا وأوروبا. وحتى هذه تسلم هي الأخرى بعدم قدرتها وحيدة على حسم الصراع ميدانياً. لذلك كانت هذه الصورة الجامعة في فيينا قبل أيام. الجميع بدأوا التنازل عن مواقفهم. الرافضون حضور إيران لم يتراجعوا وحدهم خطوة إلى الوراء. هي الأخرى تراجعت أكثر من خطوة. إرسالها طاقم ديبلوماسيتها الكامل إلى اللقاءات طوى صفحة إعلان المرشد علي خامنئي رفضه التفاوض مع أميركا وغيرها في شأن القضايا الإقليمية وما يتعلق منها بحلف الممانعة والمقاومة!

والواقع أن ما تعانيه استراتيجية إيران في الإقليم يهدد بتداعي الكثير من البنيان الذي شادته. ولا حاجة إلى الحديث عن رضوخ حلفائها في اليمن للقرار الدولي 2216 واستعدادهم للبحث في تنفيذ بنوده. وعن الصراعات التي تخوضها لتثبيت مواقعها في العراق حيث تواجه أكثر من تحد. من الصراع المكبوت بين مرجعيتي النجف وقم والذي يتجاوز الديني العقائدي إلى السياسي العام. إلى عودة الحضور الأميركي العسكري تحت لواء التحالف الدولي لمحاربة «داعش». وعبر الدعم الذي تقدمه واشنطن لحيدر العبادي الذي يعلق عليه كثيرون آمالاً بالقضاء على غريمه نوري المالكي، رجل طهران الأول. وقد فشل الأخير في إقناع شريكيه في «التحالف الوطني» الشيعي مقتدى الصدر وعمار الحكيم بحجب الثقة عن رئيس الوزراء تمهيداً لترحيله. ولعل هذا الصراع بين قوى «التحالف» الذي تعتمد عليه أساساً في ترسيخ أقدامها في بغداد هو التحدي الأكبر. ولا ننسى ما حمل ويحمل التدخل الروسي في سورية من مخاطر على مستقبل دورها في هذا البلد. تتناثر الأوراق من بين يدي الجمهورية الإسلامية لحساب خصومها وحساب قوى أكبر.

القوى الأخرى في الإقليم ليست في حال أفضل. صحيح أن التحالف العربي في «عاصفة الحزم» تقدم على الأرض. لكنه بالتأكيد يرغب في استعجال التسوية التي تعيد تقويم الأمور وتصحيح ميزان القوى في اليمن والإقليم كله. ولا يرغب في حرب استنزاف دائمة. ويعتمد خيارات سياسية مفتوحة على روسيا وأوروبا، بالتوازي مع سعي الولايات المتحدة إلى خيارات وشركاء جدد في المنطقة وخارجها، وتعويضاً عن تراجع الشراكة الكبرى معها. أما تركيا فيكفي أن تنظر إلى الخريطة المحيطة بها لتدرك حجم التهديدات. مشكلتها لا تقتصر على عودة القتال مع حزب العمال الكردستاني. ولا صعود القوى الكردية في الساحة السياسية الداخلية. المشكلة في ترسيخ «وحدات حماية الشعب» الكردية كياناً على حدودها الجنوبية سيكمل عليها الطوق، من ديار بكر إلى كردستان العراق وحتى تل أبيض وكوباني وحدود الفرات. وربما توسع جنوباً في ضوء نتائج الهجوم على الرقة. ولا يروقها بالتأكيد ما يواجه حليفها مسعود بارزاني من متاعب مع شركاء يتلقون دعماً واضحاً من إيران. وهم ساحة صراع وتنافس بين أميركا وروسيا، سواء في سورية أو العراق حيث يستعد البنتاغون لمزيد من الانخراط لوقف اندفاعة موسكو في المنطقة والحؤول دون عودتها إلى بغداد بعد دمشق… هل تنسى الولايات المتحدة ما قدمت في بلاد الرافدين. وهل يغيب عنها ما يتردد عما تختزنه صحراء المحافظات الغربية من ثروات نفطية؟

جميعهم متعبون، وينشدون التسويات. وهناك قراءتان في تفسير استعجال الرئيس فلاديمير بوتين فتح الباب أمام إشراك الجميع في الحوار. ليس بعيداً عما تعانيه القوى الإقليمية من عجز عن الحسم أو حتى بناء حد أدنى من توازن القوى يسمح لها بحوار ندي يفضي إلى نتائج أو صفقات. وليس بعيداً عن تخبط أوروبا أمام مشكلة اللاجئين. ولا عن عودة أميركا إلى الساحة العراقية واشتباكها مع الإيرانيين وأعوانهم في بغداد. أطلق بوتين آلته العسكرية على خصوم النظام السوري بلا استثناء. سعى أولاً إلى إعلان حضوره القوي في الحرب من جهة، وإلى إبعاد التهديد بإسقاط هذا النظام وحاضنته الشعبية والمذهبية. لكن الاندفاعة الروسية الأولى لم تحقق الكثير على الأرض، وإن استعادت القوات النظامية بعض المواقع هنا وهناك. دوائر أميركية عزت ذلك إلى عجز هذه القوات وتعبها وإرهاقها، وإلى بعض السلاح النوعي الذي تلقته فصائل معارضة، خصوصاً القذائف المضادة للدروع. بل عزت العجز أيضاً إلى عدم قدرة التدخل الجوي الروسي عن فعل الكثير في مسرح يميل فيه ميزان القوى البرية المتحاربة لمصلحة الفصائل المعارضة. علماً أن موسكو ترفض الانجرار إلى مزيد من الانخراط. أو تجاوز السقف الزمني الذي حددته لتدخلها.

قراءة أخرى عزت هذا البطء في تحقيق إنجازات إلى حرص الكرملين ربما على حسابات دقيقة. فهو لا يريد إعطاء الرئيس بشار الأسد جرعة كبيرة يستعيد معها تصلبه وتمسكه بالحل العسكري، فيمسك عن التنازلات المطلوبة في وقت يدور البحث أساساً عن دوره في المرحلة الانتقالية وتوقيت رحيله.

وبعيداً عن هاتين القراءتين، بدا واضحاً منذ البداية أن موسكو سعت إلى تحريك المسار السياسي عشية تدخلها العسكري. وليس في حساباتها أنها ستخوض معركة «تحرير» سورية من خصوم النظام ومن الحركات الجهادية. تعرف تماماً أنها لا تملك من القدرات والوسائل لتحقيق ما عجزت عنه قوى التحالف الدولي في العراق وسورية. التسليم بهذه الحقيقة لم يقتصر عليها. واشنطن وشركاؤها الأوروبيون والإقليميون سلموا هم أيضاً. وجاء جلوس جميع المتصارعين إلى طاولة واحدة اعترافاً بهذه الحقيقة. يبقى أن مصير الرئيس الأسد يبقى العقدة أمام فتح باب الصفقة أو الصفقات. لن يلتزم الرئيس بوتين ولن يعطي ضمانات أو تعهدات بتغيير القيادة السورية. لن يسقط شعاره برفض تدخل أية قوة خارجية في شؤون دولة أخرى لقلب نظام الحكم أو إسقاط رئيس. لكنه يدرك تماماً أن النظام سقط من زمن. كما يدرك استحالة بقاء الأسد أو عودته إلى حكم سورية التي لا يكاد يبقى منها شيء، لا بشر ولا حجر وعمران وتراث.

مصير الأسد ونظامه سيكون رهناً بتقدم الحوار على المسار السياسي. مثلما نظام الإقليم وصورته التي ستكون رهن نتائج هذا المسار. المشهد الجيوسياسي يتبدل كلياً. وبترسيخ روسيا أقدام تدخلها، سيتعمق شعور القوى التي تساند النظام بمزيد من الاطمئنان. وستعيد النظر في حساباتها. ستنظر في ما قدمت وما حصدت وستترجم غضبها واستياءها ومراراتها التي تعبر عنها كل يوم. ولن يكون أمامها في المحصلة سوى الابتعاد عن الرئيس إذا ظل عقبة أمام أي حل أو تسوية. والتخلي عنه أياً كانت الصيغة التي سترسو عليها بلاد الشام، من العراق إلى لبنان. مثلما ستؤدي العودة الأميركية إلى العراق إلى نتائج مماثلة وتعميم صيغة الفيديرالية. وحديث الانتلجنسيا الفرنسية والأميركية عن الشرق الأوسط القديم الذي انتهى قديم. الاستعصاء السياسي بين مكونات «الهلال الخصيب» لن يقنع أهل السنة في العراق بالعدول عن إنشاء إقليمهم على غرار كردستان. واستعجال كرد سورية رسم حدود إقليمهم يمهد الطريق أمام أقاليم أخرى لا مفر منها. حتى لبنان العصي والحاضر في فيينا سيلحق بشقيقيه الأكبرين، إلى صيغة لامركزية فضفاضة لم تغب عن صيغة الطائف، لكنها هذه المرة قد تكون أكثر اتساعاً وعمقاً.

الحياة

 

 

 

 

 

سورية وعقاقير فيينا/ غسان شربل

كانت الخريطة السورية المريضة ممددة على الطاولة. وكانت ترشح دماً. استدعاها أطباء دوليون وإقليميون إلى فيينا. تعايش العالم سنوات مع النزاع المدمّر. يستطيع العالم العيش بلا سورية إذا اختارت الانتحار ضمن حدودها، لكن النزاع تجاوز كل الحدود. سجّلت التدخُّلات الخارجية أرقاماً قياسية. مشهد مقلق. جاء مقاتل غريب وأطلق النار على سوري لأنه يؤيد النظام. وجاء مقاتل غريب وأطلق النار على سوري لأنه معارض للنظام. تحوّلت سورية إلى مسرح لحشد من الاعلام والسياسات والحسابات الخاطئة والكراهيات.

كان يمكن للعالم أن يترك سورية تواصل مسيرة النحر والانتحار لولا إطلالتين مدويتين. الأولى إطلالة «داعش» التي أدمت المعارضة أكثر مما أدمت النظام. وإطلالة طائرات بوتين التي أعطت النزاع في سورية بعداً دولياً خطراً. تداخلت الحروب على الأرض السورية، وبدا أن نتيجتها لن تقرر مصير سورية وحدها.

فاضت بحيرة الدم السورية وأقلَقَت العالم. ملايين اللاجئين ينتظرون في مخيمات الأردن وتركيا ولبنان، وأمواج منهم تلقي بنفسها في الحضن الأوروبي القلق، وفي الوقت ذاته تحولت أجزاء واسعة من سورية إلى معاهد لتخريج أجيال جديدة من الانتحاريين والإرهابيين. باتت سورية شديدة الخطورة على المنطقة والعالم معاً، لهذا استُدعيت الخريطة المريضة إلى فيينا.

إنها لجنة طبية إقليمية ودولية. لا خلاف على خطورة حال المريض. إنه مصاب بسرطانات متعددة. الإرهاب والمذابح الواسعة والتدخُّلات. لكن الخلاف هو حول طبيعة العلاج ومراحله، خصوصاً أن بعض الأطباء يشارك مباشرة في القتال السوري، وبين المشاركين مَنْ يقدّم حساباته على حسابات إنقاذ المريض. يريد أولاً إنقاذ مصالحه أو صورته أو دوره.

كان انعقاد اللجنة الطبية الإقليمية الدولية حدثاً بارزاً. للمرة الأولى منذ اندلاع النزاع تشنُّ طائرات بوتين غارات متلاحقة لا تقتصر أهدافها على «داعش». وللمرة الأولى يجلس وزيرا خارجية السعودية وإيران في لقاء من هذا النوع والخريطة السورية ممددة على الطاولة. وللمرة الأولى تعلن طهران سقوط هذا العدد من جنرالاتها خلال مهماتهم «الاستشارية» في سورية.

ما أصعب إنقاذ المريض حين تختلف حسابات الأطباء. من السهل الاتفاق على وحدة سورية في ظل الديموقراطية وقيادة علمانية واحترام حقوق كل المكوّنات. ومن السهل القول إن المطلوب هو منع انهيار الدولة السورية ومؤسساتها. وما أسهل القول إن الحل متروك في النهاية للشعب السوري عبر الانتخابات. الصعوبة تكمن في إقناع الأطباء أولاً بتوحيد طريقة العلاج، لئلا تتسبّب الجرعات المتناقضة في موت المريض.

مأساة سورية هي أن حربها أكبر منها، وأن العلاج الذي سيُعتمد فيها سيعتبر صالحاً لأكثر من مكان. أكد أطباء فيينا تمسُّكهم بوحدة الأراضي السورية. هذا يعني ترميم الخريطة ورفض تمزيقها إلى دويلات. ولكن، ماذا عن المشهد داخل الخريطة نفسها، وإعادة توزيع القرار بين المكوّنات؟ ولماذا يفترض أن تترسخ المساواة في سورية ولا تترسخ في العراق؟ ولماذا ما يصلح في سورية لا يُطبَّق عملياً في لبنان؟ ولماذا يُنصَف أكراد سورية ولا يُنصَف أكراد تركيا وإيران.

لا يأخذ فريق على طاولة التفاوض ما عجز عن انتزاعه في ميدان المعارك. لهذا يبدو الحل في سورية صيغة لتوزيع الخسائر. والسؤال هو أي سورية ستولَد من هذا العلاج؟ وماذا سيكون موقعها الإقليمي والدولي؟ وماذا عن إيران التي كانت سورية ما قبل الحرب حلقة جوهرية في هلالها؟ وفي أي ظروف يستطيع «حزب الله» العودة من سورية التي كانت قبل الحرب عمقه وسبب تحوّله لاعباً إقليمياً؟

مأساة سورية أن حربها أكبر منها، وأن الحل فيها يعيد رسم موازين القوى الإقليمية على طريق قيام النظام الإقليمي الجديد. أغلب الظن أن العملية لا تزال طويلة ومعقّدة، وتحتاج إلى مزيد من الدم ليرجع المتحاربون ومعهم الأطباء من رهاناتهم وأوهامهم. المسألة أبعد مما بات يُعرف بـ «عقدة الأسد»، على رغم أهميتها. فلكي يتقبّل المريض عقاقير فيينا لا بد من مصالحة مبادئ جنيف مع المستجدات الإقليمية والدولية والميدانية. لا بد من معالجة بعض الأطباء قبل معالجة المريض السوري.

الحياة

 

 

 

 

إيران عربياً وروسيا شيعياً/ علي بردى

حقق اجتماع فيينا في شأن الأزمة السورية اختراقاً شكلياً. جمع مسؤولين سعوديين وايرانيين تحت سقف واحد في وقت عصيب. أظهر في المقابل جوهر الخلافات وعمقها بين اللاعبين الإقليميين، ليس فقط على مستقبل الرئيس بشار الأسد بل أيضاً على دور ايران في العالم العربي.

سعى مؤتمر فيينا الى معالجة البعد الإقليمي المتعدد الوجه في الحرب السورية. يظهر هذا المسعى الضروري شرخاً ذا وجهين: الأول سني – شيعي، والثاني عربي – فارسي. قد لا يجدي توجيه أصابع الإتهام الى من تسبب بهذا الوضع. يكفي الآن القول إن الدول العربية لم تكن في أحسن أحوالها حين تمكنت الجمهورية الإسلامية من الإستثمار سياسياً وعسكرياً واستراتيجياً حيث أمكن في مشاعر الأقليات الشيعية – والأقليات الأخرى المنبثقة من المذهب الإمامي – في المنطقة. لم يكن التأهب على الطرف المقابل غريباً دفاعاً عن المكتسبات التاريخية للأكثرية الساحقة من أهل السنّة في المنطقة وأبعد منها بكثير.

هذا الشرخ لا يمكن أن يطغى على البعد الدولي للأزمة بين تحالف غربي – عربي واسع تقوده الولايات المتحدة من جهة، وتكتل آخر تقوده روسيا ويضم الصين من جهة أخرى. تجلى هذا الخلاف في استخدام روسيا – ومعها الصين – حق النقض، الفيتو، مرات عدة لتعطيل مشاريع قرارات غربية وأوروبية وعربية في مجلس الأمن. بيد أن هذه الخلافات الدولية العميقة لم تحل يوماً دون التواصل بين واشنطن وموسكو في إطار السعي الى تفاهم ما على طريقة لإنهاء الحرب المتواصلة بلا هوادة منذ أكثر من أربع سنوات ونصف سنة. ازدادت التعقيدات مع التدخل الروسي العسكري المباشر في الحرب. يحاول بعض الغرب أن يصوّر لأهل السنّة أن الكرملين يدافع، ضمن أمور أخرى، عن تحالف شيعي. كأن روسيا شيعية.

على رغم اتساع الحرب الدولية على الإرهابيين وجماعاتهم في سوريا خصوصاً، ترعرعت “الدولة الإسلامية” (داعش) والجماعات المتطرفة العنيفة وتوسعت سيطرتها وسطوتها. أفادت من هذه الخلافات دولياً واقليمياً. بل أن تدخّل القوى الدولية والإقليمية عسكرياً، وبأشكال مختلفة، أدى الى تسعير الحرب الأهلية. رفع أثمان وكلائها المحليين. لا يقلل هذان البعدان الإقليمي والدولي شأن “الإنفجار” الداخلي الذي حصل في سوريا عام ٢٠١١ بعد أكثر من ٤٠ سنة من حكم حزب البعث العربي الإشتراكي بقيادة الرئيس بشار الأسد. هو موضع الخلاف الرئيسي بين كل القوى، دولياً وإقليمياً ومحلياً.

إذا كانت مشاركة ايران و”حزب الله” في الحرب حالت دون إسقاط الأسد، فإن التدخل الروسي حتى الآن لم يؤد الى قلب الموازين على الأرض. بالنسبة الى السعودية، لا يمكن ترك ايران تحقق انتصاراً كهذا في قلب المنطقة العربية. كيف يمكن البلدين أن يتفاهما على مستقبل سوريا إذا لم يتفقا على مصير الأسد؟

النهار

 

 

 

 

“اجتماع فيينا٢” وخيارات واشنطن/ مصطفى اللباد

انتهى «اجتماع فيينا» في نسخته الثانية وبمشاركة سبع عشرة دولة تضم الدول العظمى في النظام الدولي، والدول الإقليمية الكبرى في الشرق الأوسط ودول جوار سوريا والدول المنخرطة في الصراع السوري، إضافة إلى ألمانيا وإيطاليا والإمارات وقطر وعمان، لكن تداعياته لن تنتهي قريبا. فتح «اجتماع فيينا» الباب أمام زخم يمكن نظريا التعويل عليه للوصول إلى تسوية سياسية في حال توافقت حسابات الطرفين الروسي والأميركي. وفي الوقت ذاته، لا يمكن استبعاد احتمالية الانتكاس إلى حرب جديدة بالوكالة بين واشنطن وموسكو على الأرض السورية، في حال تبدد زخم التسوية المتولد عن «اجتماعات فيينا» المتتالية. ولئن كان معلوماً أن الحرب الأهلية في سوريا التي استمرت لما يقارب الخمس سنوات لا يمكن أن تنتهي ويتم الوصول إلى تسوية سياسية لها في اجتماعين اثنين، إلا أن الإعلان عن اجتماع ثالث خلال أسبوعين يعني أن الفجوة التي تفصل مواقف أميركا وروسيا ليست بالضرورة عصية على التجسير. ويعني الإعلان عن موعد اجتماع ثالث أيضاً، أن ما طرحه الروس كأساس للتسوية السياسية يمكن أن يصبح مقبولاً أميركياً عند إضافة تعديلات عليه.

تكتيكات أميركا التفاوضية

تعي واشنطن أن الدخول في مفاوضات سياسية حول سوريا من دون شروط مسبقة تعني في الواقع أن روسيا والنظام السوري سيدخلانها مرتاحين، وأن النظام السوري الذي لم يسقط بالقوة العسكرية للمعارضة، سيصعب إجباره على التسليم بالتغيير بعد بداية مثل هذه المفاوضات غير المشروطة. لذلك استهلت واشنطن وتحالفاتها الإقليمية «اجتماع فيينا 1» بالبحث ليس في مبدأ رحيل الأسد من عدمه، وإنما التفاوض حول الفترة الزمنية التي سيبقى فيها بالسلطة ضمن المرحلة الانتقالية ستة شهور أم سنة أم سنة ونصف. وهنا تركت واشنطن الفرصة للرياض وأنقرة كي تتشددا في تقصير مدة الفترة الانتقالية، للضغط على روسيا كي تقدم تنازلات مسبقة تعدل من ميزان القوى المختل على الأرض لمصلحة روسيا والنظام السوري. بالتوازي مع الشروط المسبقة، حرصت واشنطن على توسيع المشاركة في «اجتماع فيينا 2» ليصبح اجتماعاً دولياً ـ إقليمياً؛ وليس اجتماعاً أميركياً ـ روسياً كما ترغب موسكو. في هذا الإطار، شاركت الدول الأوروبية الأعضاء في مجلس الأمن إنكلترا وفرنسا، إضافة إلى الاتحاد الأوروبي ومنسّقة سياسته الخارجية موغيريني وإيطاليا محطة اللاجئين الأولى، وألمانيا أكبر مستضيف للاجئين السوريين، وهي مشاركة تروم توزيع أعباء مواجهة روسيا على حلفاء واشنطن الغربيين. وكان لافتا أن واشنطن وجّهت الدعوة إلى إيران للمشاركة في الاجتماعات برغم المعارضة السعودية لذلك، ليس فقط لأنه لا يمكن عمليا ونظريا التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا من دون إيران الحاضرة وتحالفاتها على الأرض، ولكن بالأساس بغرض توسيع التناقض الروسي ـ الإيراني حول من يمسك بورقة النظام السوري. تعلم واشنطن أن هناك تنسيقاً روسياً ـ إيرانياً حول سوريا، ولكنها تعلم أن مصالح موسكو وطهران لن تظل متطابقة حولها إلى الأبد. وتعني مشاركة إيران في «اجتماع فيينا ٢» أن ينتقل التعاون الإيراني ـ الأميركي خطوة علنية جديدة بعد إبرام الاتفاق النووي، وهي خطوة سيكون على موسكو كما على دول الخليج العربية التوقف عند دلالاتها ومعانيها. كانت تصريحات وزير الخارجية البريطانية المتقاربة مع الموقف الأميركي معروفة مسبقاً، مثلما كانت المزايدة الفرنسية المعتادة متوقعة بغرض الحصول على مكاسب اقتصادية من السعودية ودول الخليج ومكاسب سياسية في الداخل الفرنسي من إسرائيل، كما فعلت أثناء المفاوضات النووية بين إيران والغرب، ولم يمنعها إبرام الاتفاق في النهاية من الحصول على صفقات اقتصادية من إيران أيضاً. باختصار، صبّت مواقف كل من إنكلترا وفرنسا خلال «اجتماع فيينا 2» والمتوقعة سلفاً في تكتيكات واشنطن التفاوضية أيضاً. وبرغم تكتيكات أوباما التفاوضية المحبوكة نوعاً ما، إلا أن غياب استراتيجية أميركية واضـــحة حيال التدخل الروسي في المشرق العــربي كان فاقعا في فيينا، ولا يمكن للتكتيكات مهما بدت حاذقة التعمية عليه.

خيارات أميركا الأربعة

تعود أسباب الورطة الأميركية في سوريا إلى محدودية خياراتها والتكلفة السياسية المصاحبة لها، وليس فقط إلى أن أوباما قد أصبح في سنته الرئاسية الأخيرة «بطة عرجاء»، وهو كذلك بالفعل. تنحصر خيارات واشنطن في أربعة:

أولا: عدم القيام بأفعال جدية من شأنها التأثير على موازين القوى على الأرض السورية، الأمر الذي سينتهي ـ في حال استمرار العمليات العسكرية الروسية ـ بانتصار النظام مدعوماً من روسيا وإيران على المعارضة وإنهاء الحرب الأهلية بهذه الطريقة. ولا يخفى أن النظام السوري تجاوز مرات عدة «الخطوط الحمر» التي حددها أوباما، ما يعني هزيمة كبرى لأوباما وأميركا، وبالتالي فمن غير المحتمل أن ترسي سياسة أوباما ثقلها على هذا الخيار.

ثانيا: التحالف مع إيران والنظام لمحاربة تنظيم «داعش» الإرهابي، وهو خيار له ثمنه الكبير على تحالفات أميركا الإقليمية في الشــــرق الأوسط، وبديل سيصعب للغاية تسويقه في واشنطن، ناهيك عن أنه سينسف فرص المرشح «الديموقراطي» في انتخابات الرئاسة الأميركية في العام 2016.

ثالثا: توجيه ضربات جوية أميركية ضد النظام السوري، والتدخل برياً مع القوات التركية والسعودية لإسقاطه. لم يعتمد أوباما هذه الإمكانية في أي وقت خلال الحرب الأهلية في سوريا وسنواتها التي تقارب الخمس، حتى مع تخطي النظام السوري لخطوط أوباما الحمر، بسبب رغبة الأسمر النحيل في الخروج عسكرياً من الشرق الأوسط وعدم التورط في حرب جديدة فيه. كما أن التدخل العسكري الروسي المستجد جعل هذه الإمكانية تساوي الصفر تقريباً، لأنها ستعني مواجهة عسكرية مباشرة أميركية ـ روسية على الأرض السورية. ويمكن القول إن خطة بوتين السورية استهدفت أساسا سحب هذه الإمكانية من التداول، نظرا لتخوف موسكو من تأثير سعودي ـ تركي على إدارة أوباما لموازنة الاتفاق النووي مع إيران بتعديل في ميزان القوى الإقليمي عبر البوابة السورية، ما قد يجعل هذه الإمكانية خياراً مطروحاً على طاولة البحث الأميركية.

باختــــصار، يبقى احتمال الضـــربات الجــــوية الأميركية للنظام السوري غير وارد عملياً.

رابعا: الاستمرار في دعم المعارضة المسلحة أو حتى زيادتها كمياً ونوعياً، ما سيطيل أمد الحرب الأهلية في سوريا ويستنزف قدرات موسكو فيها. وينطوي هذا الخيار، الأقرب للتصور أن واشنطن ميالة إليه، على مروحة احتمالات تبدأ من منع روسيا من ترجمة تفوقها الجوي إلى مكاسب على الأرض كما يجري الآن، مرورا بتزويد المعارضة المسلحة بصواريخ محمولة على الكتف مضادة للطائرات، وليس انتهاء بتحويل سوريا إلى مستنقع جديد لروسيا بعد المستنقع الأفغاني. ويتميز هذا الخيار الراجح أميركيا بأنه يسمح لإدارة أوباما بالتعامل مع روسيا وفقا للتطورات، إما تسوية سياسية تقبلها واشنطن، أو تصعيد عسكري تشارك واشنطن في التحكم بإيقاعه. في هذا السياق، يمكن فهم الإعلان الأميركي عن إرسال مستشارين عسكريين إلى سوريا يقدر عددهم بخمسين مستشاراً، في لفتة بأن واشنطن لم تترك الملعب السوري تماماً، وفي الوقت نفسه يعي أوباما أن هؤلاء المستشارين لن يغيروا ميزان القوى في سوريا جوهرياً، ما يعني أن التكلفة السياسية لهذه الخطوة الرمزية في مواجهة روسيا متدنية للغاية، وتستهدف ربما هدفاً ثانوياً مفاده تثبيت توازن كردي ـ تركي جديد في سوريا.

الخلاصة

كشفت «اجتماعات فيينا 2» عن وجود تكتيكات أميركية تفاوضية للتعامل مع التغيير العميق الذي أحدثه التدخل العسكري الروسي في ميزان القوى السوري والإقليمي، ولكنها تبقى بحسب توصيفها مجرد تكتيكات لا ترقى إلى مستوى استراتيجية أميركية واضحة للتعامل مع التحدي الروسي في الأزمة السورية. ويشي غياب الاستراتيجية أن إدارة أوباما في مأزق يصعب أن تخرج معه رابحة، خصوصا أن ما في جعبتها لا يتجاوز التكتيكات وأن موازين القوى على الأرض الســــورية تميل لغير مصلحتها حتى الآن. لذلك فمن غير المستــــبعد أن نشهد خلال الأسبوعين المقبلين، حتى موعــــد الاجتماع المقبل حول سوريا، محــــاولات تكتــــيكية لحلفاء واشــــنطن في الوصــــول إلى تعديل نسبي لموازين القوى على الأرض، بغــــرض إسناد المواقف التفاوضية في الاجتماع الثالث.

جريدة السفير 2015

 

 

 

 

 

مؤتمرات فيينا: إسقاط الأوهام/ محمد صالح الفتيح

مع الوقت تأتي الحكمة، أو مع الوقت تسقط الأوهام، وكذلك هو الحال مع العام الخامس للأزمة السورية الذي جلب بعض الحكمة وأسقط بعض الأوهام. ومن بين الأشياء الجديدة التي جلبها معه العام الخامس للأزمة السورية كان مؤتمرا فيينا. فعلى عكس مؤتمري جنيف 1 و2 ومؤتمري موسكو 1 و2، جاء مؤتمرا فيينا ليكشفا حقيقة ما يسمى الحل السياسي في سوريا وهي الحقيقة التي جهلها، وتجاهلها، الكثيرون. فالحل السياسي للأزمة السورية لم يكن في أي يوم من الأيام متعلقاً بما تعتقده المعارضة والحكومة السوريتان، ولم يكن متوقفاً يوماً على مكان الحوار بينهما، سواء في دمشق أو في جنيف أو في موسكو أو أي مكان آخر. الحل السياسي يعني بشكلٍ مباشر الحوار بين الحكومة السورية وخصومها، أو، لنكون دقيقين أكثر، الحل السياسي يعني الحوار مع من يمول استمرار الحرب في سوريا ويمنع توقف عجلتها. هذه هي الحقيقة التي كشفها مؤتمرا فيينا.

وإن كان غالب السوريين اليوم يعتقدون أن الفصائل المختلفة للمعارضة السورية غير قادرة على مخالفة إرادة رعاتها، وبالتالي لا يُتوقع منها القيام بمبادرة أو مناورة توقف النزيف السوري، فما هي ذريعة الحكومة السورية التي يبدو وكأنها لا تملك سوى انتظار ما يتفق عليه الحضور في فيينا؟ ألم يقم أحد بتوجيه النصح للحكومة السورية بأن الحل السياسي يمر حصراً بالحوار مع داعمي استمرار الحرب؟ جاء هذا النصح بشكل غير مباشر من الإيرانيين الذين قيل كثيراً، في الأعوام الماضية، أنّ حل الأزمة السوريّة سينضج متى ما نضج التصالح السعودي ـ الإيراني. ثم جاء هذا النصح بشكل مباشر من موسكو في شهر حزيران الماضي عندما طرح الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مبادرته التي تدعو سوريا والسعودية، ودول شرق أوسطية أخرى، للتحالف في وجه الإرهاب. وكيف يمكن للأعداء أن ينتقلوا من خانة العداء إلى خانة التحالف؟ بالحوار والتفاوض وتقديم تنازلات هنا والحصول على مكاسب هناك والاتفاق على تصفية الإرهاب الصرف، مثل تنظيم «الدولة الإسلامية» وسواه، الذي سينتهي دوره بمجرد الوصول إلى الحل السياسي.

ولكن لماذا دعت موسكو دمشق للتحالف مع الرياض ولم تدعوها لذلك مع أنقرة أو واشنطن؟ الجواب يتعلق بتحليل موسكو لدوافع كل من هذه الأطراف الثلاثة لإذكاء نيران الأزمة السورية، ومنظورهم لموازيين الربح والخسارة، أو المكاسب والعواقب، لانخراطهم في الأزمة السورية، وبالتالي لحدود قدراتهم على التأثير في الأزمة. فبالنسبة لواشنطن، تختلف الأزمة السورية عن أي أزمة أخرى انخرطت فيها واشنطن، فالدور الرئيسي لواشنطن هو إعطاء الضوء الأخضر للاعبين الإقليميين للتدخل في سوريا، والدور الأميركي من ناحية التمويل والتسليح هو دور ثانوي، إن لم يكن هامشياً تماماً، إذا ما قورن بالدور التركي والسعودي، والخليجي عموماً. كما أن الإدارة الأميركية، التي كانت قد أنفقت مئات مليارات الدولارات ضمن حربها العالمية على الإرهاب، تدرك عواقب تحول الميدان السوري إلى بيئة لتفريخ الإرهاب التكفيري، ولذلك تتجنب أن تتحمل مسؤولية تحويل المقاتلين في سوريا إلى «حركة طالبان» جديدة. إلا أن الإدارة الأميركية، من ناحيةٍ أخرى، لا تستطيع تماماً منع اللاعبين الإقليميين من دعم هذا الإرهاب في سوريا، وهي لم تستطع فعل ذلك في العراق في السابق، ربما تستطيع فعل ذلك عبر تقديم ثمن ما لأولئك اللاعبين. لذلك فإن حدود الدور الأميركي هي الاستفادة من الأزمة السورية ولكن من دون دفع ثمن الانخراط المباشر في الحرب هناك، وأيضاً من دون دفع ثمن الضغط على حلفاء أميركا الإقليميين لوقف تمويل الحرب. أي أن من يريد أن يحل الأزمة عبر صفقة مع الأميركيين يتوجب عليه أن يدفع ثمناً ما للأميركيين وثمناً آخر، عبر الأميركيين، للاعبين الإقليميين. ولهذا يدرك الروس أن الصفقة مع الأميركيين معقدة ومكلفة، إن لم تكن شبه مستحيلة، ناهيك عن أن الروس لا يستطيعون لعب دور الوسيط بين السوريين والأميركيين، ولهذا لم يعرضوا على السوريين هذا الخيار أساساً.

أما بالنسبة لأنقرة، فهي على عكس واشنطن، انخرطت في الحرب بشكل مباشر وتتحمل بالفعل جزءًا من فاتورتها، وإن كان ما تقدمه الآن هو أقل بكثير مما تقدمه السعودية، ودول الخليج عموماً. ولكن أنقرة تختلف عن عواصم الخليج في نقطتين رئيسيتين. الأولى هي أنها تمتلك مطامع تاريخية في الأراضي السورية، ولاسيما الشمالية منها، وتعتبر أن هذه الأراضي، كما الموصل العراقية، قد سُلخت عن تركيا في لحظة ضعف تاريخية، في معاهدتي «سيفر» 1920 و «لوزان» 1923. وعلى سبيل المثال، تدعم الحكومة التركية، بشكلٍ مباشر، ما يعرف بـ «النوادي العصبوية» (Ülkü ocakları) التي تضم آلاف الأعضاء وتنادي بإعادة تلك الأراضي. كما أن «حزب النهضة التركماني»، الذي يعمل تحت سقف المجلس الوطني التركماني، قد أعلن مؤخراً عن فرص عمل لرجال أمن في المنطقة العازلة التي تنوي تركيا إنشاءها في سوريا، وهذا يثبت المطامع التركية في الأراضي السورية. أما النقطة الثانية، فهي أن تركيا تعتبر أنها تمتلك أدواتٍ سياسية قادرة على المشاركة في الحياة السياسية السورية، في مرحلة ما بعد الأزمة، سواء في الانتخابات البرلمانية أو التصدي لتشكيل الحكومة الانتقالية. وأهم هذه الأدوات هي جماعة «الإخوان المسلمين»، التي كانت، حتى في سنوات ما قبل الأزمة، تمتلك الآلاف من الكوادر داخل سوريا. والعلاقة التركية ـ «الإخوانية» تعود إلى ثمانينيات القرن الماضي، عندما قدمت الحكومة التركية الملجأ لكوادر الحركة الهاربين من سوريا، ولهذا يستبعد أن تتأثر هذه العلاقة بشكل جذري بنتائج الانتخابات التركية أو بمن يجلس في القصر الرئاسي في أنقرة. ولذلك، فإن أي صفقة مع تركيا ستكون مكلفةً للغاية مقارنةً بالمكاسب المتوخاة منها. فالصفقة المفترضة لا تضمن تحييد أكبر مصادر تمويل الحرب، وهي السعودية، وستضمن لتركيا نفوذاً كبيراً في سوريا، ولاسيما عبر «الإخوان المسلمين»، وأيضاً لا يُعلم تحديداً أي نوع من الامتيازات، في الشمال السوري، يمكن أن يُرضي تركيا. ولهذا لا يعول الروس على إحداث خرق في الموقف التركي من سوريا.

أما الرياض فالحوار معها، من المنظور الروسي، أقل كلفةً، وذلك لسببين رئيسيين. الأول هو أنه لا يمكن تجاهل قدرتها على إبقاء عجلة الحرب في سوريا في حالة دوران متسارع. فالرياض هي الممول الأكبر للحرب اليوم، والدعاية الدينية التي تسوقها ضد الحكومة السورية هي أحد الأسباب الرئيسية لتدفق الإسلاميين المتطرفين من حول العالم إلى سوريا. أما السبب الثاني فهو أن الرياض، على عكس أنقرة، لا تمتلك تصوراً سياسياً بديلاً للحكومة السورية ولا تمتلك أدواتٍ سياسية مؤثرة في الشارع السوري، لكي تخوض بهم الصراعات السياسية في مرحلة ما بعد الحل السياسي. كما أن الصفقة مع السعودية قد تضمن إبعاد «الإخوان المسلمين»، وبالتالي تقليل النفوذ التركي. ومن النقاط التي كشفها مؤتمرا فيينا أن السعودية كانت صاحبة النبرة العدائية الأعلى، حتى بالمقارنة مع تركيا.

ما كشفه مؤتمرا فيينا أنه لا حل للأزمة السورية إلا بالحوار مع الأعداء، ومن بين هؤلاء الأعداء يبرز السعوديون كأصحاب التأثير الأكبر والنبرة الأعلى. هم بكل تأكيد المسؤولون الأكبر اليوم عن استمرار الحرب، ولكن هذه الحقيقة يجب أن ينظر إليها كدافعٍ للتوصل إلى حلٍ يُحيد التأثير السعودي، وليس كذريعة لاستمرار وضع العصي في الدواليب واستمرار النزيف السوري من دون أي أفق. السؤال الآن ماذا ترى دمشق؟ هل ستبقى طويلاً تتفرج وتنتظر مؤتمر «فيينا 3»، وما يليه، أم أنها ستتحرك للقيام بالشيء الصحيح؟

جريدة السفير 2015

 

 

 

 

مدلول مؤتمر فيينا: إنهاء «داعش» وإخوته يتقدّم الحل السياسي/ د. عصام نعمان

■ لا غلوّ في القول إن واشنطن وموسكو توافقتا، أخيراً، على أن خطر تنظيم «الدولة الإسلامية- داعش» داهم وشامل، وأنه يتهددهما كما العالم أجمع.

تطوران مهمان حملاهما على التسليم بهذه الحقيقة، وبضرورة توليد إرادة مشتركة وتفاهم استراتيجي لمواجهة مفاعيلها: تعاظم قدرات «داعش»، بما هو محور «الإسلام الجهادي» ورأس حربته، وصمود سوريا في وجه استغلال واشنطن وحلفائها الإقليميين لـِ»داعش» وإخوته لإسقاط نظامها السياسي وتفكيكها إلى كيانات مذهبية وإثنية بالتزامن مع عملية مماثلة في العراق.

موسكو أدركت باكراً قوة «داعش» وشمولية خطره، فسعت لحمل واشنطن على الكفّ عن استغلاله في مخططها المعادي لسوريا، واتخذت لهذه الغاية خطوة وقائية لافتة بموافقتها على نزع أسلحة سوريا الكيميائية لتحقيق هدفيـن استراتيجيين: إجهاض ضربة أمريكية وشيكة وموجعة لسوريا عام 2013 من جهة، وتفادي إمكانية وقوع تلك الأسلحة المدمّرة في ايدي «داعش» أو غيره من التنظيمات الإرهابية من جهة أخرى، ذلك أن الاستخبارات الروسية كانت قد تأكدت من أن «داعش» استخدم سلاحاً كيميائياً ضد الجيش السوري في محيط مدينة حلب، كما في محيط مدينة دمشق، وأنه لن يتورع في قابل الأيام عن استخدام السلاح الكيميائي وغيره من أسلحة الدمار الشامل ضد روسيا وأمريكا وسائر أعدائه، إذا ما اقتضت مصالحه الإستراتيجية.

واشنطن كانت تدرك هذه الحقيقة، لكنها تباطأت في مصارحة حلفائها الإقليميين بها، آملةً أن يتمكّنوا من إسقاط دمشق قبل أن تجد نفسها (أمريكا) مضطرةً إلى إنهاء تعاونها الظرفي مع «داعش» والمباشرة في مواجهته جدّياً. هذا يفسر عدم فعالية الغارات المسرحية التي شنتها طائرات «التحالف الدولي لمواجهة الإرهاب»، طيلة أشهر وسنوات، على مواقع «داعش» في سوريا والعراق، كما تهديد أمريكا لـِ»الحشد الشعبي» بقصف وحداته المقاتلة، إذا ما حاولت مساندة الجيش العراقي في هجومٍ (كان) مقرراً لاسترداد مدينة الرمادي من براثن «داعش».

مع توسع «داعش» في شرق سوريا (تدمر) و»جبهة النصرة» في غربها (إدلب) قدّرت موسكو أن احتمال انتصار تنظيمات «الإسلام الجهادي» لا يشكّل خطراً على وحدة سوريا ونظامها وسيادتها فحسب، بل على أمن روسيا القومي أيضاً، ذلك أن روسيا الاتحادية دولة تعددية تضم جمهوريات إسلامية يتعاطف بعض مواطنيها مع شعارات «الإسلام الجهادي»، ويشارك بعضهم الآخر في الحرب التي تشنها «داعش» و»النصرة» وغيرهما في سوريا والعراق وعليهما.

أكثر من ذلك، سرّبت موسكو للإعلام تقديرات استخبارية مفادها أن «داعش» بصدد استعمال أسلحة كيميائية ضد أعدائه في سوريا والعراق. قبل ذلك، كان الرئيس فلاديمير بوتين قد صرح خلال استقباله رؤساء استخبارات بلدان رابطة الدول المستقلة في موسكو «بأن الإرهابيين يستغلون الشرق الأوسط كقاعدة لتدريب مقاتلين جدد قبيل إرسالهم إلى مناطق أخرى لزعزعة الاستقرار فيها. يجب رفع مستوى التعاون بين الدول في هذا المجال واعتماد الأساليب الأكثر فعالية ووضع مقاربات موحدة لتحقيق الأهداف المحددة».

في الواقع، كان بوتين قد بدأ، قبل أسابيع، بوضع أفكاره وخططه موضع التنفيذ بتكثيف حضور روسيا برياً وجوياً وبحرياً في سوريا، وبمباشرة سلاحها الجوي غارات هادفة ودقيقة على مواقع «داعش» و»النصرة» في شمال البلاد وغربها، وصولاً إلى مواقعهما في محافظتيّ درعا والقنيطرة في جنوبها. مدلول هذه الحملة الروسية المتعاظمة داخل سوريا أن موسكو عازمة على حرمان التنظيمات الإرهابية مواطئ قدم ومواقع أرضية يمكن اتخاذها قواعد للتدريب والتجهيز ومنطلقات لشن هجمات مدمرة لا تقتصر على سوريا والعراق، بل تمتد إلى بلدان مجاورة وربما إلى روسيا تحديداً.

أدركت واشنطن، بعد طول لأيٍّ ومخاتلة، أن الحضور الروسي في سوريا ليس من شأنه ترجيح ميزان القوى لمصلحة الرئيس بشار الأسد فحسب، كما قالها صراحةً رئيس هيئة أركان الجيوش الأمريكية الجنرال جوزف دنفورد، بل من شأنه أيضاً توليد تداعيات تهدد حضور أمريكا ونفوذها في الشرق الأوسط. وعليه، ليّنت واشنطن موقفها ودعت حلفاءها الأطلسيين والإقليميين إلى التسليم بأن الإرهاب هو الخطر الأكبر الذي يهدد الجميع، وأن مواجهته بجدّية هو الأولوية الأولى في هذه المرحلة المترعة بالحروب والاضطرابات من ليبيا إلى اليمن مروراً بمصر وسوريا والعراق وفلسطين.

معنى مؤتمر فيينا، إذن، هو إقرار أطراف الصراع، ولو بدرجات متفاوتة، بأن الخطر الاكبر والأدهى هو الإرهاب وأن إنهاء «الدولة الإسلامية»، بما هي محوره ورأس حربته، يتقدّم الحل السياسي الذي سيكون، بطبيعة الحال، مدار مفاوضات وتجاذبات لمدة طويلة مشروطة بالزمن المطلوب لاقتلاع تنظيمات الإرهاب من سوريا واستعادة وحدتها الجغرافية والسياسية، لكن ذلك لا يمنع ممثلي النظام والمعارضة من التفاوض في فيينا منتصفَ الشهر الحالي، من أجل التوافق على دستور جديد للبلاد وانتخابات.

بهذا المعنى تكون سوريا، رغم غيابها عن مؤتمر فيينا، الرابح الأول من انعقاده بما ينطوي عليه من مدلولات سياسية واستراتيجية. غير أن ذلك لا يعني أن الصراع سوف يهدأ وأن وتيرة الاضطرابات في عالم العرب سوف تتلاشى. بالعكس، ثمة جبهات في هذا البلد او ذاك ستبقى مشتعلة في سياق أغراض ومصالح، إقليمية ودولية، يراد تحقيقها على حساب قوى محلية تحاول هي الأخرى استخلاص حصتها في حمأة المساومات والمقايضات الجارية لإعادة رسم خريطة تقاسم المصالح والنفوذ في الشرق الأوسط الكبير.

٭ كاتب لبناني

القدس العربي

 

 

 

 

من أجل شرعنة الهمجية يؤجل المؤتمر الدولي العقيم السلم إلى آخر!/ مطاع صفدي

كثيراً ما رددنا عبارة اللحظة التاريخية طيلة مرحليات نهضتنا الاستقلالية المعاصرة. كنا نطلبها بسهولة على كل حدث نحس له ثمة فعالية وطنية أو توعية. ولكن معظم لحظاتنا التاريخة المسجلة هذه سريعاً ما كانت تتساقط وعودها الضمنية التي كنا نحملها إياها، وهي مازالت في عالم الغيب. تلك اللحظات كأنها أخطأت وعودها التاريخية. غالباً ما كان التاريخ يقدم أحداثه باستقلال تام عن كل إرادة بشرية تدعي قيادته أو فهمه، في الوقت الذي كانت آمال الناشطين في كل تنظيم تتهاوى وتتبعثر تحت صخب المفاجآت الطارئة.

اللحظة التاريخية رغم أن كل المتشبثين باللفظ لا يحاولون تفسير مضامينها، وذلك جرياً على عادة العقل العربي العام الذي ينساق مع أصدار ألفاظه الجرسية أكثر من اهتمامه بدلالاتها الموضوعية. فالقيمة البلاغية للمصطلح طاغية غالباً على مفهومه، فلا حاجة للتفسير والتحليل كيما لا يصاب جرْس اللفظ بما يشوه صفاءه..

لم تنتظر ثورة الملالي أن تنال إذناً أو سماحاً عندما قررت تفجير العالمين العربي والإسلامي من حولها، مذهبياً؛ لقد اختارت توقيتها التاريخي مع انهيارات التجارب التقدمية التي انهكت قوى هذين العالمين لعقود عديدة، فلم يخرجا من تحت الأطلال المتراكمة على عقول وقلوب أجيالهما القريبة منذ الأمس وإلى اليوم. فإذا كان الهدف هو التفجير النووي يوما ما وهذا مستحيل حتى الآن _ فإن التفجير العقائدي بالغيبيات الماضوية سيقوم بالمهمة. بدلاً من التدمير الكلي بالنووي يمكن أن يتحقق تدمير العقول، ودفع الجماعات إلى عواصف الانتحار الذاتي، وكأنها أمجاد عظمى تُكَلُل هامات تاريخها الراهن.

إنها الردة الطوعية إلى اسطوريات القرون الأولى من المسيرة البشرية، وليس إلى مجرد حقبة مظلمة من قصة العرب والإسلام مع الغيبيات وحدها. فقد باتت جماعاتنا المتقاتلة مبدعة لنماذج الفظائع كبدائل فريدة عن أية منتوجات حضارية، كانت طلائع النهضة تبشّر بها أبناءها وأحفادها، وتعتبرها واقعة متحققة في الغد القريب.

نعم! يجب القول بل الإقرار الصريح أن ملالي (قمْ) قد نجحوا في نشر شعار إعادة أسلمة المسلمين، بإعطائه دلالة عملية واحدة وهي إعادة مقتلة الإسلام بأيدي المسلمين أنفسهم؛ تلك هي لحظة الخطأ الأعظم. كل أعداء الخارج ينسحبون إلى الصفوف الثانية المتوارية لكي تظهر عداوات الداخل وحدها لاعبة حرة في تفجير تناقضات ثانوية تجاه قطبيات جديدة متصارعة فيما بين أركانها المستحدثة فورياً. كأنما أصبح على قادة العرب والإسلام الانشغال باختلاق نمذجيات عداواتها، من لحمها وعظمها فحسب.. بينما يبدو واقع الأمور هو أن شعوب القادة عاشت على استيراد مختلف أسباب الحياة والرفاه العرضي من خارجها. لكنها في المنعطف العجيب من تطورها أضحت هي المنتجة والمورِّدة ذاتياً لبضائع الحروب التي جرى توزيع جحميها حصصاً متناسبة طرداً مع حجوم الكوارث المفتعلة، حتى في جذورها المتوارثة والمكتسبة.

هذه هي مشاهد الفوضى الدموية والدبلوماسيات المراوغة تغطيان معاً مسارح المشرق. هناك حيثما يولد كلَّ يوم تنظيمُ أو تنشبُ معركة ما بين منظمات قائمة لا تكاد تتمايز أسماؤها وأفعالها عن بعضها؛ لم يعد أحد يسأل عن الأسباب ولا تهمه الأهداف التي قلما استوعبها مقاتل ما وهو منشغل فحسب بتصويب نيرانه على أنداد له في المعسكر المقابل.

هذا المشهد الدموي العبثي هو يومي نَسِيَ بدايته، ولا تهمه نهايته. إنه المشهد الذي باتت الدول العظمى نفسها مأخوذة بعشقه القاتل إلى درجة التذرع به لاستدامة شغفها الجنوني بالمزيد من مذابح الآخرين ضحايا لمناوراتها المتذاكية. إنهم هذه الأيام يستردون أسطورة الحل السياسي مجدداً، كأنهم فعلاً أمسوا قابضين على أسرار خلقه من تحت رميم الأهوال طيلة هذه المقتلة السورية المشؤومة. فالجميع من زعماء أجانب وقادة محليين يصيرون دفعة واحدة دعاة سلام. لم تعد اجتماعاتهم المتوالية تكتفي بنقاشات حول الحل السياسي، بل تخطوا هذه المرحلة لما بعده. إنهم منهمكون بتداول صيغ عن الحكم لما بعد الديكتاتور، عن عناصره المرشحة، عن بعض برامجه الملتبسة تحت شعارات حقوق الإنسان إنْ تذكروها.

يحدث كل هذا في الوقت الذي لا تزال فيه أصوات المدافع تهز أجواء العاصمة المغدورة. فقد تحولت سوريا إلى خارطة مغمورة بالجبهات المفتوحة على كل نماذج الحروب المعروفة منها والمستحدثة، وذلك لحساب أقذر المهالك العبثية المستبيحة لأبسط حق إنساني في أمنه وكرامته.

كل هذا العنف المجنون اللاأخلاقي يعم البلاد من أقصاها إلى أقصاها ومع ذلك نجد الكتلة العظمى من الأهالي لاتزال محافظة على التأني النفسي والاجتماعي عن بؤر الموت وجماعاته. فكلما غرقت هذه البؤر في ضلالاتها ازداد الرأي العام السوري تبرؤاً من أية مسؤولية عن أفعالها وأهدافها. فقد تحتل مهرجانات القتل والصراع أمكنةً وأزمنةً معينة من جغرافية البلاد، لكنها تبقى من طبيعة عابرة وسطحية، ويظل الزمكان (الوطن) السوري ملكاً خالصاً نقياً لأمته.

كأن الجريمة الكبرى بالنسبة لمذهب السفاح الطاغية هو منعه، أو توقفه عن ارتكاب الجريمة تلو الأخرى. وفي فلسفة القانون حتى ما قبل تدوينه في شرائع الأمم الحية، أن الساكت على القاتل هو قاتل كذلك. لكن المحزن بل المفجع أن أقوياء ما يسمى بالمجتمع الدولي، وهم الأكثر تقدماً، حسب مقاييسهم عينها، باتوا هم الأعداء الفعليين الأصليين لمدنيتهم، عندما يتنازل بعض كبار قادتهم عن بداهة العقل الجماعي، ويحل الفراغ الأهم في صدورهم، بعد أن هجرتها ضمائرهم البائسة. ما نفع أية مدنية إن تحول ساستها ومثقفوها وقضاتها إلى نوع آخر من الجلاميد مرصوفة ومنضدة مع أحجار قصورها وكنائسها ومتاحفها. ما قيمة مدنية الصروح الحجرية وأشباهها إن تمكنت فقط من تحقيق قدرتها على حماية نفسها مقابل انحدار بقية العالم، كل العالم إلى هاوية الهمجية المطلقة. فليس مؤتمر فيينا بالأمس سوى العرض الأخير لمسرحية إعادة تأهيل حضارة الهمجية. (بالرغم من تناقض اللفظة) هذا المجتمع الدولي لم تلتق شخصياته من أجل وضع حد لمنع القرار الخبيث باستمرار المقتلة السورية، بل لإعادة إنتاج مشروعية دولية تُسبغ على الهمجية بعد أن غدت هي الأيديولوجيا المفضلة لدى الأمركة المصممة عالمياً.

مؤتمر فيينا اليوم وسلالته غداً هو عنوان المنعطف الكوني من أسطورة مدنية المدنية التي شُغل العالم بها طيلة عصور متواصلة وصولاً إلى مدنية الهمجية وحدها كأنها هي تتويج ما يسمى بالنظام العالمي. هؤلاء القادة الغربيون بجناحيهما الأطلسي والموسكوفي (الروسي القيصري) لن يقدموا للشعوب المحرومة سلاماً مشرقاً لمستقبلهم في الوقت الذي أصبح فيه معظم زعماء السياسة الدولية حلفاء موضوعيين لتجار السلاح.

مؤتمرات السلام الكاذب هي مصانع دولية للتقوية. لتجديد حروب الأمس واليوم كيما تدوم غداً وبعده..

٭ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

 

 

 

 

 

مؤتمر فيينا والحل السوري المعلّق/ كلوفيس مقصود

على الرغم من البداية الصعبة لمؤتمر فيينا الذي اختتم يوم الجمعة، وعلى الرغم من ضبابية المناخ الذي انبثق عنه البيان الختامي وبنوده العمومية، يبدو أنه كان الخطوة الأولى العملية باتجاه التركيز على أولويات الحل السياسي في سورية. من جهةٍ لإدارة الأزمة، ومن جهة ثانية لاستباق أية عراقيل قد تحبط عملية الحل، فقد بدا من أجواء المؤتمرين وتوافقهم أن هناك نية جادة، هذه المرة، لإيجاد معادلة تضمن بداية معالجة جذرية للأزمة. ولعلّ الإجراءات التي اتخذها الرئيس الأميركي، باراك أوباما، في تحريك مجموعة من القوات الخاصة بالذهاب إلى سورية تدعم الاعتقاد أن هناك توجهاً نحو الحل، إذ يعتبر مثل هذه التحرك بمثابة استثمار لتسريع عملية الحل السياسي وإخراج سورية من عبثية حربها الأهلية.

وتشير المبادرة التي اتخذها أوباما أيضاً إلى أن الإدارة تريد أن تشكل نوعاً من التوازن الميداني مع روسيا على الساحة السورية، بعد أن طال ترددها في حسم موقفها تجاه الأزمة، فقد ساهم التردد، بشكل أو بآخر، في تعقيد الأزمة السورية.

لكن، يلاحظ أيضاً وعلى الرغم من التنافر الروسي الأميركي حول قضايا وساحات كثيرة، من أوكرانيا إلى الشرق الأوسط، إلا أن خطورة الوضع السوري دفعت إلى نوع من تلاقي المصالح، ولو لدوافع مختلفة. والدليل أن واشنطن خففت، في الأيام الأخيرة، من خطابها الاعتراضي على الدور الروسي في سورية، كما أن موسكو لم تعترض، حتى اللحظة، على إرسال دفعة القوات الخاصة الأميركية إلى سورية، ما يشير إلى توافق ضمني ما على السير في حل الأزمة.

ولعلّ الاجتماع الثاني بعد أسبوعين، تكون أجواؤه مساعدة أكثر للدخول في تفاصيل العملية الانتقالية، مثل وقف إطلاق النار لوقف التهجير، ثم النظر بالتركيبة الائتلافية للمرحلة الانتقالية. ولعل الاجتماع الثاني من شأنه المساهمة في تنفيس الاحتقان في المنطقة، وبما يعزز فرص التفاهم، وتقليص فرص الصدامات، باعتبار أن لدى المنطقة فائض من الأزمات والصراعات والتوترات التي طالما أحبطت ما سمي الربيع العربي. فبعد العذابات التي عاناها الشعب السوري، والتهجير المأساوي والمؤلم، يتوجب على العرب أن يضبطوا اعتراضاتهم المحقة، ليعملوا على تصويب الأخطاء والخطايا التي ارتكبت طوال السنوات الماضية من الحروب العبثية. كما أن الأطراف الدولية التي أدركت، وإن تأخرت، خطورة الانزلاق، عليها أن تصرّ هذه المرة على تحقيق اختراق تاريخي يؤول إلى عودة سورية إلى حالها الطبيعي ووقف نزيفها؛ لأن استمرار محنتها يؤدي إلى مزيد من التآكل في الجوار وباقي الإقليم.

من هنا، فإن المجتمع الدولي، وخصوصاً المؤتمرين، مطالب بالإصرار على تجاوز العقبات التي حالت، وما زالت، دون وضع حد للأزمة، بل إنه مطالب بفرض حل يكفل وقف النزيف السوري، ثم العمل على إعادة اللحمة والمؤسسات التي وضعها بيان فيينا من أسس العملية الانتقالية وأولوياتها.

الأهم والأكثر ضرورة أن يتحمّل المؤتمر الدولي، وخصوصاً العرب ودولهم ومجتمعاتهم، تسريع وقف الحرب، ثم الالتفات إلى إعادة البناء الاجتماعي والوطني والبنيوي، بما يمكّن السوريين من العودة إلى استئناف دورة حياتهم الطبيعية، والعودة إلى حضن الدولة السورية التي لا بد وأن تكون لجميع السوريين، من دون تفرقة أو تمييز على أساس المذهب أو العرق أو المنطقة مع ضمان حقوق الإنسان والمواطن وحرياته، وبما يعيد اللحمة إلى طبيعتها وتحصينها من الوقوع، مرة أخرى، في فخ التشرذم والتفكيك الذي شاهدنا مآسيه في السنوات الأربع الماضية، وكان عظيم الكلفة، فضلاً عمّا أفرزه من أعباء ومخاطر له وللجوار. ومن البديهي أن ذلك يبقى عصياً على الحل، إذا لم يتحمل السوريون من الانتماءات كافة مسؤولياتهم في وقف هدر طاقات بلدهم واستعادته لدروته العادية.

العربي الجديد

 

 

 

 

الدبّ والحوت يتصارعان في الشام/ محمد صالح المسفر

رمت روسيا الاتحادية بكل ثقلها في الحرب الدائرة في سورية، علماً أنه لا وجود لحلفاء لها في الوطن العربي بالقدر الذي يتزاحم الحلفاء العرب على أعتاب الولايات المتحدة الأميركية. تعمل روسيا على كل الصعد لإنقاذ بشار الأسد وأجهزته الأمنية والعسكرية من السقوط على أيدي ثوار سورية الذين يقاتلون من أجل الحرية والكرامة، وحقهم في اختيار نظام الحكم الذي يحميهم ويدافع عنهم. روسيا تقاتلهم، وتعقد مؤتمرات ولقاءات من موسكو إلى فيينا لإهدار الزمن العربي، وحماية الحليف السفاح المقيم في دمشق، والإدارة الأميركية لم تقدم لحلفائها العرب ما يجب أن تقدمه لهم.

(2)

طالبت موسكو بعقد اجتماع رباعي، يضمها مع السعودية وأميركا وتركيا، في فيينا، وتم ذلك، وانتهى الاجتماع من دون صدور أي بيان يحدد المستقبل السوري، لكنه ولّد اجتماعاً آخر متعدد الوجوه، في فيينا أيضاً، وتحقق لها ما أرادت، وفرضت على الاجتماع الذي عقد في 30 أكتوبر/تشرين الأول الماضي مشاركة مصر والعراق وإيران والأردن ولبنان إلى جانب دول من أوروبا الغربية. والحق أن لكل من هذه الدول العربية المدعوّة أزمة تصرفها عمّا دعيت إليه، ومن ذلك أن حكومة وزير خارجية لبنان لم تستطع حل مشكلة الزبالة في بيروت، ولم يتمكن البرلمان من انتخاب رئيس للجمهورية، لأن دولة حزب الله في لبنان تريد رئيساً يحافظ على مكتسباتها، فماذا عسى الوزير، جبران باسيل، أن يقدم من أفكار ومواقف من أجل إعادة الأمن والسلام والاستقرار وإيقاف الحرب في سورية؟ أعتقد أن روسيا دعت إلى اجتماع فيينا حزب الله، ممثلا بوزير خارجية لبنان المحسوب على الحزب في بلده.

دُعيت مصر لحضور اجتماع فيينا الثاني، ومثلها وزير الخارجية سامح شكري. مصر مأزومة سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وإعلامياً وأمنياً، فماذا سيقول شكري في الشأن السوري؟ والعراق المدعو للمشاركة حدّث ولا حرج، يحكمه نظام أمعن في الفساد وترسيخ جذور الطائفية، ويعيش حرباً لن تستطيع قياداته الطائفية أن تخرج منها بسلام، وقادته منشغلون بتعظيم الفوائد الشخصية، ولا يهمهم ما يجري على الساحتين العراقية والسورية، لأن إيران تقوم بتلك المهمة وحدها. ما أردت قوله إن موسكو، صاحبة اقتراح مؤتمر فيينا الثاني، وتوسيع دائرة المشاركين فيه، إنما تهدف إلى جمع العدد الذي يسير في ركابها من أجل مواجهة الحقائق التي ستقدمها السعودية وتركيا وقطر والإمارات عما يجري في سورية، وإنه لا خلاص لدمشق إلا بالخلاص من بشار الأسد وحكومته. نستطيع القول إن روسيا جمعت في فيينا كل الأصوات المرتفعة، والتي لا تطالب بسقوط بشار الأسد وقواته الأمنية ومليشياته الطائفية التي أتى بها من كل فج، ليكونوا في مواجهة الشعب السوري إلى جانب روسيا.

(3)

يتحدثون في كل مؤتمر عن سورية، عن تشكيل حكومة انتقالية لها كامل الصلاحيات تتألف من

“روسيا دعت إلى اجتماع فيينا حزب الله، ممثلا بوزير خارجية لبنان المحسوب على الحزب في بلده” المعارضة ومناصري النظام. هذا النموذج ثبت فشله في اليمن، وقاد إلى حرب أهلية بشعة، ما برحت رحاها دائرة حتى هذه الساعة. يقول الروس والإيرانيون إن الأسد خط أحمر، ولا يجوز الحديث في شأنه، والحق أنه لا يجوز لأي طاغية قتل من شعبه أكثر من ربع مليون إنسان ودمر البلاد، وأجفل الشعب السوري من أرضه إلى الحد الذي جعلهم يركبون البحر بحثاً عن ملجأ يحميهم من البراميل المتفجرة المنصبة على رؤوسهم من النظام وأنصاره. لا أفهم أن يبقى بشار الأسد في هرم السلطة في المرحلة الانتقالية المزعومة، إلى أن تنتهي الانتخابات التي تعدها الحكومة الانتقالية.

تقول روسيا إنها تبحث عن حلول سياسية لتلك المصيبة، كيف نصدقها وطائراتها تشن غارات وحشية، ليل نهار، على المدن والقرى السورية الآهلة بالسكان المدنيين، وترفض في مجلس الأمن الدولي رفضاً قاطعاً منع القيادة السورية من استخدام البراميل المتفجرة على المدنيين العزل من دون تمييز.

تقول تسريبات روسية إن موسكو ستضمن عدم ترشيح بشار نفسه لأي انتخابات مقبلة، لكن لأي من أهله أو أي شخصيات في النظام مقربين منه حق الترشح. وفي حال قبلت المعارضة في الداخل والخارج تشكيل حكومة انتقالية مشتركة مع النظام القائم، فعلى تلك الحكومة منح بشار الأسد والعاملين معه حصانة كاملة بعدم محاسبته عن الجرائم التي ارتكبها في حق الشعب السوري، تشبه الحصانات التي قدمت للرئيس اليمني السابق علي عبدالله صالح.

آخر القول: الدب لوث البيئة العربية ليحقق أهدافه فيها، والحوت لوّث بحارنا، وأكل صغار أسماكنا وكبارها، ولم يترك لنا باقية، فهل من صحوة عربية تعيد الأمل، كما أعادتها عاصفة الحزم؟

العربي الجديد

 

 

ما يقرّره “الشعب السوري”؟/ راجح الخوري

قبل عشر ساعات من بداية مؤتمر فيينا تحدثت تقارير ميدانية عن سيطرة مفاجئة لتنظيم “داعش” على الطريق الممتد من بلدة خناصر الواقعة في ريف حلب الجنوبي الى بلدة إثريا في ريف حماه الشرقي، وهو ما قطع طريق الإمداد الوحيد الى مواقع النظام في حلب ومحيطها.

المثير هنا بالنسبة الى قياديين في المعارضة، كان غياب الدعم الجوي الروسي وتراجع قوات النظام بما مكن الإرهابيين من تحقيق هذا التقدم، ولكن سرعان ما برزت شكوك في ان الروس تعمّدوا تسهيل الأمر هناك على “داعش”، بدليل ان سيرغي لافروف سارع فور بداية الاجتماع الى مخاطبة زميليه التركي والسعودي بالقول “هذا هو بديل الأسد الوحيد، وهو يشكّل خطراً كبيراً، يجب ان نضع أيدينا في يد نظام الأسد لقتال داعش”!

لكن الرد غير المنتظر جاء على لسان جون كيري ليقطع الطريق على محاولة لافروف تحقيق كسب سياسي، فقال له “هل كثير اذا لاحظنا ان التدخل العسكري الروسي لم ينتج منه حتى الآن إلا المزيد من التقدم على الأرض لتنظيم “داعش”؟”.

ليس في كلام كيري أي مبالغة فبعد شهر من بداية التدخل العسكري الروسي، يبدو واضحاً ان العمليات تركّز على إعادة ترميم مواقع الأسد في منطقة الساحل التي بدت مهددة في الأشهر الماضية، لكن هذا لا يمنع الروس والإيرانيين من الإصرار الدائم على تعطيل الحل وعرقلة عملية الانتقال السياسي عبر التمسك بعقدة الأسد.

ففي حين خرج لافروف من فيينا مكرراً نظرية أن الشعب السوري هو الذي يقرر مستقبل الأسد، من غير ان يتذكّر أن معظم أبناء هذا الشعب باتوا مشردين في العالم، قال المرشد علي خامنئي [رغم مشاركة ايران في اجتماع فيينا] إن من الحماقة ان تجتمع دول عدة وتقرر مصير نظام ورئيسه، وان الحل في سوريا يأتي بعد انتهاء الحرب وإجراء انتخابات!

الحديث عن الشعب السوري يدعو الى البكاء قياساً بالأهوال التي جعلت نصفه في القبور أو في اللجوء، ويدعو الى الضحك قياساً بالموقفين الروسي والايراني اللذين يتمسكان ببقاء الأسد حتى آخر سوري على طريقة “الأسد أو نحرق البلد”، والمثير ان بيان البنود التسعة الذي صدر عن اجتماع فيينا لا يقل تعمية ووهماً عندما يتحدث عن حقوق الشعب السوري ودوره في تقرير مستقبله!

من البند الأول الى التاسع كلام إنشائي جميل عن وحدة سوريا وسلامة اراضيها وهويتها العلمانية وعن بقاء مؤسسات الدولة، وحقوق السوريين، ووقف الحرب، وإيصال المساعدات الى النازحين في الداخل والخارج، لكن السؤال كيف سيتمكن هؤلاء النازحون وهم بالملايين من تقرير مستقبل سوريا والأسد، وفي المناسبة القصف الروسي أضاف عشرات الآلاف منهم الى النزوح نحو تركيا؟

النهار

 

 

15 يوماً سورياً حاسماً… وواشنطن أقرب إلى الوسيط

تبدو صورة الملف السوري من عواصم المثلث السعودي ــ التركي ــ القطري هذه الأيام، تحديداً بعد انتصار حزب العدالة والتنمية في تركيا، وبعد لقاء فيينا، مزيجاً من التفاؤل الحذر حيال الوضع سياسياً وعسكرياً، من جهة، والقلق إزاء ما يبدو أنه انتقال أميركي من دور الطرف الرافض لبقاء بشار الأسد، إلى ما هو أقرب للوساطة بين معسكري روسيا وإيران (أي النظام)، في مقابل معسكر الثورة والدول الحاضنة لها.

من أروقة القرار في الرياض وأنقرة والدوحة، تخرج إيحاءات واضحة إزاء هذا القلق حيال “ملامح الدور الأميركي الوسيط وغير المفيد بتاتاً حيال مصير الثورة كونه دوراً يعيد إنتاج الأسد ونظامه عملياً وهو ما تدركه واشنطن تماماً، وخصوصاً أن الولايات المتحدة لم تفعل أمراً جيداً لمصلحة الثورة وقواها منذ اندلاعها”، على حد تعبير مصدر أساسي في قرار الثلاثي السعودي ــ التركي ــ القطري. هو ثلاثي موقفه حيال سورية “موحد بالكامل” على كل حال بموجب تصريحات متقاطعة من أطرافه لـ”العربي الجديد”.

” من الانتخابات التركية يأتي النبأ السعيد ليس للسوريين من معسكر الثورة فحسب، بل بالنسبة للعواصم الداعمة لهذا الطرف في المنطقة أيضاً؛ فإذا كان مجرد الإعلان عن حملة “عاصفة الحزم” في اليمن قبل 7 أشهر، قد أدى فوراً إلى سقوط مناطق مهمة بيد المعارضة السورية المسلحة، مثل بصرى الحرير وجسر الشغور من الجنوب إلى الشمال، فإنّ فوز حزب رجب طيب أردوغان “سيكون له تأثير كبير سورياً مستقبلاً كونه سيمكن حزبه من الحكم منفرداً مجدداً”. تأثير ستترجمه أنقرة “بإقامة المنطقة الآمنة بالفعل داخل الأراضي السورية” للأهداف المعروفة سلفاً، تبدأ من حماية اللاجئين فيها من خطر “داعش” والنظام، وصولاً إلى منع توسع المنطقة الخاضعة للانفصاليين الأكراد والوصول إلى الحدود التركية، مروراً بانتقال عدد كبير من اللاجئين السوريين إلى تلك المنطقة من بلدهم، كذلك جزء مهم من المعارضين العسكريين والسياسيين المتحدثين باسم الثورة.

إذاً، تظهر نتيجة الانتخابات التركية كخبر سعيد بالنسبة إلى قيادات في المعارضة السورية، وفي الدول الثلاث. نبأ سعيد من شأنه أن يخفف من حدة القلق إزاء انتقال الطرف الأميركي إلى معسكر “المحايد” أو “الوسيط” رسمياً، وهو ما لا يصب إلا في مصلحة موسكو وطهران ونظام الأسد عملياً. موقف أميركي مثير للقلق ظهر في كواليس جلسة فيينا الطويلة يوم الجمعة الماضية، حيث بدا وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف “مرتبكاً إزاء الهجوم الذي تعرض له ليس من نظيره عادل الجبير فحسب، بل أيضاً من الوزيرين الفرنسي والبريطاني”، لوران فابيوس، وفيليب هاموند أيضاً بسلوك “غير مسبوق منذ فترة إزاء الهيبة الروسية، لدرجة أن فابيوس قاطع لافروف بالقول حرفياً: “اصمت ولا تكرر روايتك، فالعالم يعرف أنكم تستهدفون المعارضة وليس داعش”!.

ما حصل في فيينا قد حصل، في ظل تعدُّد القراءات التي تناولت بيان النقاط التسع الصادر عن المجتمعين. لكن الأهم بالنسبة لمصدر خليجي عربي، ما سيفصل فيينا 2 عن فيينا 3 المرجَّح بعد نحو أسبوعين، ذلك أن “الأيام الـ15 المقبلة ستكون مرحلة كسر عظم حقيقي لتنعكس الموازين الميدانية في غرفة الاجتماعات النمساوية المقبلة: هم (روسيا وإيران ورجالها) سيفعلون المستحيل على الأرض، والطرف الآخر أيضاً (المعارضة السورية والدول التي تدعمها) سيفعل كل شيء أيضاً للتقدم”. هكذا، من دون مواربة، يصدر إقرار ضمني بأن الحل السياسي يستحيل أن يأتي معاكساً للحقائق والتوازنات العسكرية الميدانية السورية، في فيينا أو في غيرها. لكن ماذا لو حاولت واشنطن فرض حلّ “بالقوة” على الدول الإقليمية الداعمة للثورة والمصرة على ألا يشمل الحل السياسي بشار الأسد؟ سؤال وجيه يقابله رد لا يقل عنه وجاهة من أكثر من مسؤول في هذا الثلاثي: “لا يمكننا محاربة أميركا. هي بالنهاية قادرة على محاصرتنا بقرارات من مجلس الأمن الدولي مثلاً، لكن هل يمكن لواشنطن أن تحارب الشعب السوري؟ ألم تتعلم من تجاربها الفاشلة في العراق وأفغانستان؟”. وبرأي المسؤول نفسه، ستكون المهمة أصعب في سورية التي عجزت “خمسة جيوش فيها عن القضاء على الثورة”، في إشارة إلى الجيوش السورية والروسية والإيرانية فضلاً عن “جيش حزب الله” والمليشيات العراقية.

” في جميع الأحوال، يتجه الثلاثي السعودي ــ التركي ــ القطري إلى فيينا بعد أسبوعين بنقاط ثلاث لا رابع لها يطرحها على طاولة المفاوضات مع “الطرف الآخر”: أولاً: مناقشة رحيل الأسد، ثانياً: الآلية التنفيذية لبدء تنفيذ خطة المبعوث الأممي ستيفان دي ميستورا، وثالثاً بند خروج القوات الأجنبية من سورية.

بالعودة إلى فيينا، ثمة الكثير ليُقال عن الجلسة التي استغرقت ساعات طويلة وتخللتها إشكالات واشتباكات كلامية وصلت إلى حد مواجهة عادل الجبير لمحمد جواد ظريف باتهام مباشر بالوقوف خلف تفجيرات الخُبر منتصف التسعينيات، وهو ما حمل اتهاماً مبطناً للولايات المتحدة على قاعدة أنها على علم كامل بنتيجة التحقيقات حيال تورط إيران، فلم تفعل واشنطن إزاء ذلك سوى الضغط على الرياض لطيّ الملف، لأنّ ذلك كان سبباً كافياً لتوجيه ضربة عسكرية لإيران.

في الجلسة الصاخبة، بدا ظريف وهو يحاول توزيع ابتساماته على الحاضرين كالعادة، وذلك إما حرجاً لموقف طهران المعزول، أو في محاولة للإيحاء بارتياح إيراني، أو كليهما. ولكن هدفَي إيران الأساسيين يبقيان: شراء الوقت والمماطلة، وفعل المستحيل للإبقاء على الأسد “وإلا الإتيان بأسد جديد”. أما الروسي، فبدا مرتبكاً فعلاً إزاء الوزراء الذين واجهوه “بشدّة”. أما أبرز محاولات تعويم الأسد، بحسب مصدر تركي، فقد صدرت بشكل مفاجئ من طرف عربي دُعي للمشاركة. موقف تلقفه وزير الخارجية الأميركي جون كيري بحماسة، ويدعو إلى “الاتفاق على تعريف جديد موحد للإرهاب في سورية حصرياً ينص على التالي: نعلن وقفاً لإطلاق النار في سورية، وأي طرف لا يلتزم به يتم تصنيفه في خانة الإرهاب والتعامل معه من هذا المنطلق”. ردّ جاء من إحدى عواصم الثلاث السعودي ــ التركي ــ القطري وينص على “أنه لا يمكن قبول هذا التعريف للإرهاب، فالكثير من السوريين ممن تضرروا من النظام قد لا يلتزمون إذا لم يقتنعوا بحل غير عادل. رحيل الأسد أولاً، نشرع في تطبيق مرحلة الانتقال السياسي ثانياً، ونعلن الحرب على تنظيم داعش ثالثاً، ومَن لا يلتزم بالحرب ضد الإرهاب وداعش يكون إرهابياً بالفعل”.

” “لم تمت روحية بيان جنيف 1″ (2012) بحسب المصدر العليم بتفاصيل ما جرى في فيينا وكل ما يحصل حول الملف السوري، ذلك أن جنيف 1 لا يزال حياً، لكن الخلاف الرئيسي يكمن في قلب جنيف 1 نفسه: الأسد يشارك في المرحلة الانتقالية وتحديد مصير سورية أو لا يشارك؟ خلاف ظلّ ماثلاً في النقاط التسع، سواء تمت تسمية المرحلة الانتقالية بهذا المصطلح أو بـ”الإدارة الانتقالية أو الحكم الانتقالي”. فليرحل الأسد ولن نختلف على التسميات… عبارة أثيرة تتكرر في إسطنبول والرياض والدوحة.

العربي الجديد

 

 

 

 

القطعة الناقصة من لوحة فيينا/ علي دياب

يُشبه بيان فيينا الختامي، الذي صدر الجمعة، المبادرة الإيرانية بخصوص سوريا، ذات النقاط الأربع، التي تتمحور حول: وقف إطلاق النار وتشكيل حكومة وحدة وطنية، وإجراء إصلاحات دستورية، ثم القيام بانتخابات برلمانية ورئاسية.

لكن أهم ما يميز بيان فيينا، ذي البنود التسعة، هو الإلتفاف على اتفاق “جنيف-1” وخاصة حول “هيئة حكم انتقالي” كاملة الصلاحيات، عبر تحويلها إلى “حكومة وحدة وطنية”، وفق بيان فيينا. وبهذا تتحقق رغبات الجميع إلا الشعب السوري.

كان شغل روسيا الشاغل، في الفترة الماضية، هو التملص من اتفاق جنيف الذي وقعت عليه في العام 2012، في حين أن إيران لم تعترف بجنيف أصلاً. لكن الداعم الأكبر للتملص من جنيف، هو الولايات المتحدة التي ألزمت نفسها بنص يتعارض مع مصالحها الإقليمية. فحين عُقد “جنيف-1” لم تكن هناك “داعش”، ولم يكن الاتفاق النووي مع إيران قد أنجز بعد، ما جعل حسابات أميركا في المنطقة تختلف اليوم.

فما الذي حدث؟ الواضح من ترتيب الأحداث، أن المبادرة هذه المرة كانت روسية، فهي من دعا إلى “الاجتماع الرباعي”، الخميس، مستثنية إيران من بين اللاعبين الكبار في الساحة السورية. وتمت دعوة بقية الدول إلى الاجتماع الموسع، الجمعة، في ما يشبه دعوة بروتوكولية لمنح الاجتماع لمسة الشرعية الدولية، في استحضار لأجواء “جنيف-1”. الاجتماعان، الموسع والرباعي، لم يلحظا أصلاً، وجوداً سورياً.

دعوة إيران للاجتماع الموسع، كانت استثنائية تماماً، فهي لم تحضر فعلياً، في “الاجتماع الرباعي”؛ حيث حضر وزير خارجيتها محمد جواد ظريف، مساء الأربعاء إلى فيينا، وعقد اجتماعات جانبية، على هامش “الاجتماع الرباعي”، أهمها كان مع وزير الخارجية الأميركية جون كيري. وفي الوقت الذي يفسر فيه الكثيرون هذا الأمر بالإصرار السعودي على غياب أي دور كبير لإيران في اجتماع يخص الشأن السوري، فإن الترويج لهذا السبب لا يعدو كونه ذراً للرماد في العيون. فالسعودية، لا تملك القدرة على فرض رأيها في منع الحضور الإيراني، في حال أصرت روسيا وأميركا على ذلك. فأين هي القطعة المفقودة؟

المشكلة كانت دائماً في التصنيف النمطي للقوى الدولية، خاصة في ما يخص الشأن السوري. حيث درجت العادة على تصنيف القوى الدولية والإقليمية وفق محورين: روسي وأميركي. وهذا التصنيف لم يعد صحيحاً اليوم، بما ظهر من دعوة إيران إلى فيينا، بحيث بات جلياً أن أميركا هي من أصرت على حضور إيران، رغم رغبة الروس بتحجيمها.

وهذه الرغبة الأميركية ليست وليدة فيينا، بل بدأت مع أول غارة روسية في سوريا، وسط ملاحظات تشير إلى أن هدف التدخل الروسي في سوريا ليس دعم الأسد بقدر ما هو تحجيم السطوة الإيرانية عليه. واتضحت السيطرة الإيرانية على مفاصل القرار السوري، في مفاوضات الزبداني-الفوعة، التي غاب عنها النظام، مفسحاً المجال لإيران في أن تتصدر المشهد، الأمر الذي قد يكون حافزاً وراء التدخل الروسي بشكل متسرع لحماية استثمارها في النظام السوري.

وروسيا تتجه اليوم إلى دعم نظام الأسد عبر دعم الجيش، لا عبر تقديم الغطاء الجوي له فقط. كما أن التغييرات التي حصلت ضمن بنية الجيش توضح أن هناك إجراءات سريعة لترميم هذا الكيان المترهل، الذي فتته سطوة الميليشات التي تدعمها إيران.

المبادرة الإيرانية المختصرة، ذات البنود الأربعة، كانت قد صُممت لتحل محل خطة “النقاط الست” التي قدمها الموفد الدولي إلى سوريا كوفي عنان، وكانت أساساً لوثيقة “جنيف-1”. والفارق الأساسي بينهما هو تحويل نظام الأسد من مجرم تترتب عليه مسؤوليات والتزامات، إلى شريك إيجابي يعول عليه في “مكافحة الإرهاب”.

وبالمقارنة بين المبادرة الإيرانية والمبادرة الروسية، ورغم توافق الطرح العام وتشابه البنود، يبقى هناك فارق أساسي: المبادرة الروسية تُشرعن الوصاية الروسية على سوريا، والوجود العسكري الروسي على الأرض السورية، بوصفه ضامناً للدولة. وهو الأمر الذي قد لا ترغب فيه أميركا، رغم رضاها التام عن التورط الروسي في رمال سوريا المتحركة، ورغبتها الكبيرة في استمرار التنافس المحموم بين الصديقين اللدودين: الروسي والإيراني. وواشنطن لا تخفي تفضيلها للإدارة الإيرانية في حل الأزمات، كما عهدتها وتآلفت معها في تجربة العراق، في حين يضمن لها هذا التنافس الروسي-الإيراني استمرار الاستنزاف الاقتصادي لكليهما، في ظل أزمة انخفاض عائدات النفط.

في انتظار الجولة المقبلة من اجتماعات فيينا، والتي قد يشارك فيها وفدا النظام والمعارضة، يبقى البحث جارياً عن القطعة الناقصة في لوحة فيينا. قطعة ستربط وتوائم بين كل الرؤى والمصالح، وتخرج بصفقة يكون الكل فيها رابحاً، باستثناء الشعب السوري.

المدن

 

 

 

 

مؤتمر فيينا قرر وأمر السوريين بالتنفيذ/ جهاد الخازن

روسيا دخلت الحرب في سورية دفاعاً عن الرئيس بشار الأسد ونظامه، وضربت المعارضة بالصواريخ من بحر قزوين، وهي تقوم بغارات جوية ولها قاعدة بحرية وأخرى برية وجنود في مناطق القتال. والآن الولايات المتحدة دخلت الحرب بدورها، وهي قدمت مئة مليون دولار لدعم معارضين يقاتلون في منطقة الحسكة وأرسلت 50 رجلاً من القوات الخاصة إلى سورية لنصح المعارضين. وسيكون أول اختبار للدور الأميركي الجديد في الرقة، عاصمة «داعش»، بالتعاون مع المقاتلين الأكراد.

لولا الفاجعة السورية المستمرة لوجدنا التدخل الأميركي مضحكاً، إلا أنه إذا كانت في الموضوع «نكتة» فهي علينا ونحن ندفع الثمن.

الدور الأميركي، إذا كان لنا أن نبالغ ونسمّيه دوراً، أثار ردود فعل متناقضة داخل الولايات المتحدة، فالسيناتور جون ماكين، وهو داعية حرب حقير يريد أن تحتل بلاده بلادنا، قال إن التدخل الأميركي المعلن لا يكفي بالنظر إلى حجم التحدي المطروح. وكان للنائب بول ريان، الرئيس الجديد لمجلس النواب، رأي مماثل. لكن السيناتور الديموقراطي كريستوفر ميرفي رأى أن إرسال رجال القوات الخاصة إلى سورية تطور سياسي مهم قد يكون خطراً يجرّ الولايات المتحدة إلى حرب أهلية لا نهاية لها في الأفق.

البيان المشترك الصادر عن الاجتماع في فيينا حول سورية كان أسوأ من التدخل الأميركي بخمسين عسكرياً. المشاركون تفاهموا على وحدة الدولة السورية واستقلالها وسلامة أراضيها والإبقاء على مؤسسات الدولة وحماية حقوق السوريين جميعاً، ثم طلبوا من الأمم المتحدة أن تجمع ممثلي الحكومة السورية والمعارضة في عملية سياسية تفضي إلى حكم موثوق وشامل وغير طائفي.

هل لاحظ القارئ شيئاً في الكلام السابق؟ لاحظت أن 17 دولة وجهة اجتمعت في فيينا وأصدرت بياناً عن حاضر سورية ومستقبلها من دون أن يشارك في الاجتماع أي وفد سوري من النظام أو المعارضة.

بكلام آخر، الدول المشاركة قررت الحل ودعت الأمم المتحدة إلى جمع أطراف النزاع للتنفيذ. وهي في بيانها عن اجتماع فيينا، عادت وقالت إن العملية السياسية ستكون عملية سورية وبقيادة سورية والشعب السوري هو الذي سيقرر مستقبل سورية. بل أن البيان يكمل قائلاً إن المشتركين السوريين سيعملون مع الأمم المتحدة لتطبيق وقف إطلاق النار في أنحاء البلاد كافة.

وهكذا مرة أخرى، يقرر المشاركون ما يجب عمله ويأمرون السوريين بتنفيذه.

مؤتمرات فيينا أو جنيف واحد أو اثنين أو مئة لن تحل المشكلة، فالمجتمعون ليسوا على اتفاق أبداً حتى لو أصدروا بياناً مشتركاً. الولايات المتحدة وفرنسا وبريطانيا وتركيا ودول عربية مثل المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة وقطر تصر على رحيل بشار الأسد، وإن اختلفوا على الموعد والآلية، في حين تصر روسيا وإيران على بقائه وتحاربان مع «حزب الله» لدعمه.

هذا الخلاف المستمر تجاهله المجتمعون في فيينا، واختاروا أن يقرروا ما ينفع الشعب السوري، وأن يتركوا لهذا الشعب التنفيذ.

لو كانت الأطراف في فيينا على رأي واحد لكان التنفيذ سهلاً، إلا أنها في النهاية على خلاف من حجم الخلاف بين النظام السوري وخصومه، ما يجعل التنفيذ صعباً، وربما مستحيلاً.

أتمنى لو أكون مخطئاً، بل أنظر إلى السماء وأدعو أن أكون مخطئاً، إلا أنني أعرف أنه سواء اتفقت الدول الأجنبية أو اختلفت، فالسوريون ضحية ونحن جميعاً ندفع الثمن.

الحياة

 

 

 

«بلومبيرغ»: المناوشات السعودية الإيرانية في فيينا

ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد

اشتبكت إيران والمملكة العربية السعودية مرارا وتكرارا خلال محادثات فيينا الدبلوماسية في الأسبوع الماضي، وقد اتهمت إيران السعوديين بممارسة الإرهاب. وقد هدد التوتر بإنهاء جولة المفاوضات الجديدة قبل بدايتها في فيينا يوم الجمعة الماضي.

 

داخل الاجتماع الذي استمر حوالي 9 ساعات، ووفقا لاثنين من المسؤولين الغربيين المطلعين، فقد دخل وزير الخارجية الإيراني «محمد جواد ظريف» ووزير الخارجية السعودي «عادل الجبير» في مشادة حامية وجه خلالها «ظريف» اللوم والاتهام لمواطنين سعوديين بارتكاب هجمات 11 سبتمبر/ أيلول الشهيرة. أثار التعليق دهشة المشاركين الذين كان من بينهم وزيرة الخارجية الأمريكي «جون كيري»، والذي ذهب إلى غرفة هادئة في أعقاب تصريحات «ظريف».

وقد أكد لي «ظريف» أنه أدلي بهذه الملاحظة، ولكنه أشار أنه لم يكن يقصد إلقاء اللوم على الحكومة السعودية بشأن هجمات 11 سبتمبر/أيلول بقدر ما كان يشير إلى مواطنين سعوديين فقط. خمسة عشر من بين تسعة عشر مهاجما كانوا من السعوديين.

وقال مسؤولون غربيون اطلعوا على ملخص الاجتماع أنه كانت هناك صعوبات في جعل المملكة العربية السعودية وإيران يناقشان أي شيء بشكل متحضر، ناهيك عن التوصل إلى اتفاق حول سوريا، حيث يجند كلا الجانبين قوات بالوكالة على أرض المعركة. لكن اجتماع الجمعة قد أسفر عن بيان مشترك مكون من 9 نقاط تحدد الأهداف المشتركة للتوصل إلى حل للأزمة السورية.

سافر «الجبير»، وزير الخارجية السعودي، إلى البحرين في اليوم التالي، وتحدث بقوة ضد التدخل الإيراني في سوريا، في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية حوار المنامة. قام «الجبير» بتعيين اثنين من الخطوط الحمراء لأي اتفاق سياسي للمضي قدما في سوريا: يجب أن يكون هناك تاريخ وخطة عمل لرحيل الرئيس السوري «بشار الأسد» وجميع القوات الأجنبية وبخاصة القوات الإيرانية التي يجب أن تغادر سوريا في بداية أي عملية سياسية. إيران لديها المئات من المقاتلين في سوريا كما تقوم بتوفير الدعم للآلاف من مقاتلي حزب الله.

«الأمر يرجع للإيرانيين إذا ما كانوا يرغبون في الاحتفاظ بعلاقات معنا تكون قائمة على حسن الجوار أم أنهم يريدون علاقات ممتلئة بالتوتر» وفقا لوزير الخارجية السعودي.

يوم الاثنين، هددت إيران بالانسحاب من المحادثات بسبب تصريحات «الجبير». ونقلت وكالات الأنباء الرسمية الإيرانية عن الرئيس الإيراني «حسن روحاني» أنه قال: «أي شاب عديم الخبرة في بلد مجاور لن يصل إلى شيء مستخدما الوقاحة في مواجهة الكبار»، وهي التعليقات التي فسرت على نطاق واسع على أنها إشارة لـ«الجبير».

في البحرين يوم السبت، قال لي وزير الخارجية البريطاني «فيليب هاموند» أنه متفائل بحذر بأن محادثات فيينا التي يعقدها «كيري» قد تؤتي بعض الثمار. لكنه قال أن الموقف السعودي الذي أعلنه «الجبير»، والذي يطالب القوات الإيرانية بمغادرة سوريا في بداية هذه العملية، «لن يجدي نفعا».

وأضاف: «بالطبع هذا ليس مطلبا واقعيا يمكن تحقيقه ولذلك فإن كل ما سيكون مبنيا عليه هي أشياء افتراضية»، وقال: «في النهاية لم يقم أحد بمغادرة المحادثات وهذا في حد ذاته يعد إنجازا ملحوظا. سواء بالنسبة للإيرانيين والسعوديين، فإن خوض هذه النقاشات المباشرة ليس أمرا سهلا».

وتابع «هاموند» إن الجانبين لا يزالان يبتعدان عن بعضهما البعض بشأن السؤال الرئيسي» وهو المتعلق بمصير «الأسد». إيران وروسيا تريدان أن يكون بمقدور الأسد الدخول في انتخابات جديدة في حين أن الولايات المتحدة وأوروبا والدول العربية لا يعتقدون بأن «الأسد» يمكن أن يكون جزءا من عملية سياسية جديدة، لأن يديه ملطخة بالدماء، وفقا لوصفهم.

وقال نائب وزير الخارجية الأمريكي «توني بلينكن» في البحرين أنه في نهاية المطاف فإن روسيا سوف تدرك أن تدخلها العسكري في سوريا كان خطئا وسوف يتخلى الكريملين عن دعمه للأسد. كان معظم المسؤولين والخبراء في المؤتمر يشككون في هذا التقييم . وبغض النظر، فقد وقعت روسيا ما يعرف باسم إعلان جنيف الذي يدعو لتولي هيئة انتقالية مسؤولية الحكم في سوريا حتى يمكن إجراء انتخابات ذات مصداقية.

ولم توافق إيران أبدا على شروط جنيف. والجدير بالذكر أن البيان المشترك الصادر عن قمة فيينا لم يأت على ذكر أي هيئة انتقالية للحكم. وينص البيان ببساطة على أن تتولى الأمم المتحدة أي عملية سياسية تؤدي في النهاية إلى وضع دستور جديد للبلاد وإجراء انتخابات جديدة. إذا وقفنا عند هذه الكلمات، فإن إيران ربما تكون قد حصلت امتيازا جديدا بفتح الباب أمام احتمالية استمرار حكم «الأسد». الولايات المتحدة، في الجهود الرامية إلى جلب إيران إلى طاولة المفاوضات، فإنها ربما يجعل أي حل للحرب في سوريا بعيدا عن متناول اليد.

جوش روجين / بلومبيرغ

 

 

 

 

 

اجتماعات فيينا: تلازم المسارين السياسي والعسكري في الصراع السوري

وحدة تحليل السياسات

وحدة تحليل السياسات

هي الوحدة المكلفة في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات بدراسة القضايا الراهنة في المنطقة العربية وتحليلها. تقوم الوحدة بإصدار منشورات تلتزم معايير علميةً رصينةً ضمن ثلاث سلسلات هي؛ تقدير موقف، وتحليل سياسات، وتقييم حالة. تهدف الوحدة إلى إنجاز تحليلات تلبي حاجة القراء من أكاديميين، وصنّاع قرار، ومن الجمهور العامّ في البلاد العربية وغيرها. يساهم في رفد الإنتاج العلمي لهذه الوحدة باحثون متخصصون من داخل المركز العربي وخارجه، وفقًا للقضية المطروحة للنقاش..

بعد ثلاثة أسابيع فقط على التدخل العسكري الروسي، تحرّك المسار السياسي المجمّد في المسألة السوريّة منذ فشل مؤتمر “جنيف 2” مطلع عام 2014؛ فقد شهدت العاصمة النمساوية فيينا في 23 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 اجتماعًا يعدّ الأول الذي يجمع الدول الأربع الفاعلة في المسألة السورية، وهي: الولايات المتحدة وروسيا والسعودية وتركيا. وأسفر هذا الاجتماع، الذي فشل أطرافه في التوصل إلى اتفاق حول بعض القضايا الأكثر استعصاءً وعلى رأسها مصير رئيس النظام السوري بشار الأسد، عن توافقٍ على عقد اجتماعٍ موسعٍ آخر في فيينا في 30 تشرين الأول/ أكتوبر 2015 يضمّ جميع الدول الفاعلة أو ذات العلاقة بالمسألة السوريّة، بما فيها إيران. كما تمّ التوصّل إلى بيانٍ من تسع نقاطٍ عدّه بعضهم تطورًا مهمًا باتجاه ظهور إجماعٍ دولي وإقليمي على أسس الحل السياسي، فيما عدّه آخرون غير ذي قيمةٍ لأنه لم يتمكن من حسم مصير الأسد؛ إذ جرى تأجيل البحث في شأنه إلى اجتماعٍ ثالث يعقد في منتصف تشرين الثاني/ نوفمبر الجاري.

تحريك المسار السياسي

مع التصعيد الميداني الذي رافق التدخل العسكري الروسي في سورية، ازدادت المخاوف من تداعيات تحوّل المسألة السورية إلى صراع إرادات إقليمي ودولي قد يخرج عن نطاق السيطرة مع تعدّد الفاعلين من دول وتنظيمات وميليشيات. فالغطاء الجوي الروسي الداعم للنظام السوري والميليشيات التي تقاتل إلى جانبه ذات الإدارة والإرادة الإيرانية، قابلهما زيادة في مستوى الدعم العسكري لقوات المعارضة على الأرض؛ ما أفشل الخطط الروسية في استعادة نقاط إستراتيجية في جبهات الشمال الغربي أو في محيط العاصمة دمشق. وكانت معارك ريف حماة التي اندلعت بعد أسبوع فقط من التدخل العسكري الروسي واستخدمت فيها صواريخ تاو (الأميركية الصنع) المضادة للدبابات على نطاق واسع أبرز دليل على مدى إصرار المعارضة السورية والدول الداعمة لها على إفشال أهداف موسكو الرامية إلى فرض معادلات ميدانية جديدة وحلٍ سياسي يبنى عليها. وهكذا اختزل أثر التدخل الروسي في هدفه الأصلي وهو إنقاذ النظام من السقوط.

وزادت المخاوف من حصول صدامات غير مقصودة بين قوات جوية لدول عديدة تحلّق في الأجواء السورية تحت ذريعة محاربة تنظيم الدولة الإسلامية “داعش” احتمالات التصعيد، وبخاصة بعد أن وقعت بعض الحوادث مثل إسقاط تركيا طائرة من دون طيار (يعتقد أنها روسية) على حدودها مع سورية، واختراق الطائرات الروسية الأجواء التركية أكثر من مرة؛ ما زاد الحاجة إلى فتح مسارٍ سياسي يمنح جميع الأطراف فرصةَ التواصل لاحتواء أي تصعيد محتمل.

وربما دفعت خشية موسكو أيضًا من الانجرار إلى حرب استنزاف غير واضحة الأفق في سورية نحو تحريك مسار التسوية، في وقت بدأ فيه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين السعي لإظهار مدى النفوذ والتأثير الذي بات يتمتع به في الشأن السوري نتيجة وجوده عسكريًا في قلب الصراع. وقد اتضح ذلك من الطريقة التي استدعى بها بوتين رئيس النظام السوري بشار الأسد إلى موسكو لاطلاعه على أفكاره حول التسوية قبل أيام من اجتماع فيينا الرباعي.

تفاعلات اجتماع فيينا الموسّع

اتضحت خلال اجتماع فيينا الأخير ملامح جديدة لتفاعلات الصراع السوري، يمكن إجمالها بالآتي:

في ظل غياب أي طرفٍ سوري عن اجتماعات فيينا، سواء من النظام أو المعارضة، بدا واضحًا أنّ الحلّ لم يعد في متناول السوريين، بل أصبح شانًا إقليميًا ودوليًا. ويُرجّح أن ينتج هذا الحلّ، إن جرى التوصّل إليه، من توافق إرادات بين المحورين اللذين تكرّس وجودهما خلال الاجتماع. ويضم المحور الأول السعودية وتركيا وقطر، ويصرّ على وثيقة “جنيف 1” كإطار وحيد للحل، وعلى تسوية “عادلة” تفضي إلى هيئة أو إدارة انتقالية تقصي الأسد من المشهد السياسي ومن مستقبل سورية، وتبدأ بإعادة الإعمار. ويضم الثاني كل من روسيا وإيران، ويقترح وقفًا لإطلاق النار، ومفاوضات تفضي إلى حكومة تضم النظام وشخصيات معارضة تتولى إجراء انتخابات برلمانية، وأخرى رئاسية تضمن للأسد الترشّح فيها. إنّ إجراء أي انتخابات بوجود الأسد وهو يتحكم بأجهزة الأمن، وتقتصر على المناطق التي يسيطر عليها النظام، لن تختلف كثيرًا عن سابقاتها.

اضطلعت الولايات المتحدة خلال اجتماع “فيينا 2” بدور “الوسيط” بين المحوريين السابقين. وبخلاف موقفها المعلن، نأت بنفسها عن السجالات أو ممارسة الضغط على روسيا لإقناعها إبداء مرونة تجاه القضايا الخلافية. وعلى المنوال ذاته، سارت أغلبية الدول العربية المشاركة؛ إذ تنتظر أية تسوية تتمخض عن مفاوضات الجانبين، بغض النظر عن شكل التسوية النهائية وتفاصيلها.

تمكّن حلفاء المعارضة من انتزاع تنازلٍ مهم في فيينا؛ إذ نص البيان الختامي الذي وقع عليه ممثلون عن سبع عشرة دولة على تسع نقاط، كان أبرزها الاتفاق على إجراء انتخابات “بإشراف الأمم المتحدة”، على أن يكون لكلّ السوريين، في الداخل والخارج، حقّ المشاركة فيها. وقد أثار هذا البند قلق النظام بعد أن وافق عليه أبرز حلفائه؛ أي روسيا وإيران والصين، الذين كانوا من الدول الموقعة على البيان، لأنّ مشاركة الأغلبية العظمى من السوريين الموجودين في الخارج في الانتخابات سوف تساهم في ترجيح كفة المعارضة إذا جرى الاتفاق على إجراء انتخابات. وتشير معظم التقديرات إلى أنّ نصف السوريين يعيشون في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام في حين يعيش النصف الآخر في مناطق المعارضة أو في بلاد اللجوء.

أظهر اجتماع فيينا مواقف أوروبية (فرنسا، وبريطانيا، وألمانيا) أكثر حدّة تجاه التدخل العسكري الروسي مقارنة بمواقفها السابقة، أو بالموقف الأميركي التي اعتادت الدول الأوروبية السير على خطاه. ويعود ذلك إلى اقتناعٍ أوروبي بأنّ غارات موسكو لا تستهدف تنظيم الدولة، ولن تساهم إلا في إطالة أمد الصراع، وتدفق موجات جديدة من اللاجئين السوريين إلى أوروبا. وفي هذا السياق، تشير أحدث تقارير الأمم المتحدة إلى أنّ الضربات الروسية أجبرت أكثر من 120 ألف سوري معظمهم من ريف حلب على النزوح من مناطقهم إلى الحدود السورية – التركية، وينتظر كثير من هؤلاء فتح المعابر مع تركيا للانتقال إلى أوروبا والاستقرار فيها[1].

عودة إلى فيينا من بوابة حلب

بالتوازي مع المسار السياسي في فيينا، استمر حلفاء النظام في محاولة تحسين مواقعهم التفاوضية قبل العودة للاجتماع مجددًا منتصف هذا الشهر؛ وذلك عبر التصعيد ميدانيًا في حلب. ويعدّ ازدياد عدد القتلى من الضباط الإيرانيين وعناصر الحرس الثوري في ريف حلب الجنوبي مؤشرًا على شدة المعارك وضراوتها، واندفاع طهران وموسكو لتحقيق حسم عسكري في المحافظة بأي ثمن للاستفادة من الواقع الميداني الجديد وفرض رؤيتهما للحل في فيينا. وكان لافتًا تزامن هجوم تنظيم الدولة على ريف حلب الجنوبي ضد قوى المعارضة السورية، مع الهجوم الروسي – الإيراني في محافظة حلب نفسها.

تنبهت الدول المناوئة للمحور الروسي – الإيراني لأهداف الحملة العسكرية على حلب، وقدّمت دعمًا نوعيًا لفصائل المعارضة مكّنتها من إيقاف القوات المهاجمة عند خان طومان، واستعادت عددًا من القرى التي خسرتها في ريف حلب الجنوبي. كما وفّر سلاح الجو التركي، لأول مرة، غطاءً جويًا لبعض فصائل ريف حلب الشمالي، مثل جيش الشام وحركة نور الدين الزنكي وكتائب السلطان مراد، لصدّ هجمات تنظيم الدولة واستعادة بعض المواقع المهمة التي خسرتها مؤخرًا أمامه. وأكسب الفوز الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنميّة في الانتخابات البرلمانية الأخيرة فصائل المعارضة في إدلب وريف حماة الشمالي زخمًا معنويًا وسياسيًا دفعها إلى البدء بهجوم مضادّ ألحق خسائر كبيرة بقوات النظام، وأجبرها على الانسحاب من مواقع عديدة سيطرت عليها خلال تشرين الأول/ أكتوبر الماضي مستفيدة من دعم ناري كبير قدمته روسيا عبر الجو والبحر.

خاتمة

على الرغم من الصعوبات التي تكتنف المفاوضات، يمكن أن يمثل مسار فيينا إطارًا جديًا لحل الأزمة يحظى بإجماع دولي وإقليمي، وبخاصة بسبب الصعوبات التي يواجهها المحور الإيراني – الروسي في تحقيق أي نتائج مهمة على الأرض بعد أكثر من شهر على بدء عمليات القصف الروسي، وبعد أن أرسلت إيران أعدادًا كبيرة من قوات الحرس الثوري للمشاركة في المعارك، خاصة في حلب. لكنّ الدول الرئيسة الداعمة للمعارضة تواجه تحديات بسبب محاولة روسيا وإيران زجّ مزيد من القوات لتغيير الوقائع على الأرض استباقًا للتسوية المحتملة، وكذلك بسبب “حيادية” الإدارة الأميركيّة ونزوعها لقبول أي حل يتماشى مع سياساتها في سورية وحربها ضد تنظيم الدولة؛ وهو ما يمنح روسيا وإيران هامش مناورة أكبر خلال جولات التفاوض القادمة. وحتى لا تصبح المفاوضات غطاءً سياسيًا لاستمرار العمليات العسكرية الروسية والإيرانية في سورية، لا بدّ من التوافق على نقاط أوليّة ضرورية أقلها تحييد المدنيين عن القصف خلال مرحلة التفاوض. من جهة أخرى، يبدو جليًا أنّ التدخل العسكري الروسي قد نجح في إحداث تقارب سعودي – تركي كبير، وهو معطى يمكن البناء عليه خاصة بعد فوز حزب العدالة والتنمية، لمساعدة المعارضة السوريّة بشقيها السياسي والعسكري على تنظيم صفوفها وتنسيق جهودها لمواجهة التدخل الروسي – الإيراني. ويمكن أن يكون الردّ الوحيد على مطلب وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف الأخير بتعريف “من هي المعارضة المعتدلة؟” هو توحيد المعارضة السورية المسلحة والسياسية باتجاهاتها كافة في قوة واحدة، تمنع عزل أي من مكوناتها، وتغيّر موازين القوى على الأرض، وتشكّل طرفًا يمثل الشعب السوري في أي مفاوضات قادمة.

 

 

 

 

 

موسكو وطهران تسوّقان الأسد وهو يرتكب المجازر/ عبدالوهاب بدرخان

لا حضور لسورية في لقاء فيينا المخصص لسورية. وفيما كان المشاركون يدلون باقتراحاتهم لما يجب أن يكون في سورية، كان نظام بشار الأسد يسجّل مجزرة أخرى في سجله الأسود، حاصداً بضع عشرات من الضحايا والمصابين بتكرار القصف على سوق دوما، كما فعل مراراً خلال الشهور الأخيرة. لم يشر أحد في فيينا إلى هذه الجريمة، لا جون كيري في مؤتمره الصحافي المشترك مع سيرغي لافروف، ولا الأخير بطبيعة الحال، ولا حتى المبعوث الأممي البائس ستيفان دي ميستورا الذي جلس بين الوزيرين وحرص خصوصاً على إبداء سروره لمشاركة إيران أخيراً في مؤتمر دولي للبحث في إنهاء الأزمة السورية.

في أي لقاء مماثل مقبل، لا بدّ من مساءلة روسيا وإيران طالما أنهما تمثّلان النظام، وهما وصيّتان عليه، وتدخلتا أساساً لدعمه ومنع سقوطه، لكن استمراره منذ منتصف 2011 حتى الآن لم يعد ليعني شيئاً آخر غير المجازر. وإذا كانت دولة متهوّرة مثل إيران شجعته على هذا النهج السقيم، فماذا عن دولة مثل روسيا تدخلت في سورية لتستعيد صفتها كـ «دولة عظمى».

عندما تحدّث فلاديمير بوتين عن شعار دعم «الحكومة الشرعية»، هل كان يعني ما يحصل منذ أسابيع من قتل جماعي في قصف كثيف على غوطتَي دمشق. وعندما سعى لافروف إلى إقناع نظيره الفرنسي لوران فابيوس بعدم التقدم إلى مجلس الأمن بمشروع قرار يحظر القصف بالبراميل المتفجّرة، هل تعهّد ضمان عدم استخدام هذا السلاح أم أنه كان يدافع عن «حقّ» النظام في أن يقتل بالطريقة التي يريدها. وعندما تبرع فيتالي تشوركين، المندوب الروسي في الأمم المتحدة، بنفي قاطع لاستخدام النظام البراميل، هل كان يتعمّد الكذب أم أن أحداً لم يخبره بأن أكثر من عشرين برميلاً انهالت في يوم واحد على داريا وحدها؟

يبدو أن ثمة دافعاً رئيسياً للتدخل الروسي لم يُشَر إليه حتى الآن، وهو أن الكرملين وجد أن نظام الأسد لم يقتل ما يكفي من السوريين، ولم يدمّر ما يكفي من العمران، ولم يهجّر ما يكفي من أبناء الشعب. بل يبدو المشهد حالياً كما لو أن النظام استأجر دولة «عظمى» لتشاركه جرائمه وتساهم معه في القتل والتدمير والتهجير. فكل جريمة جديدة، كل مجزرة، هي تلطيخ إضافي لسمعة جيش تقول موسكو إنها معنية بتوحيد صفوفه وإعادة الاعتبار إليه، وتتصرّف على أنه ورقتها القوية الرابحة على حساب الميليشيات – «ورقة إيران»، لكن نهجها الأهوج قد يبدّد مسعاها… فهل اعتزم الأسد تعطيل هذه الورقة الروسية، سواء لأنه لمس أن موسكو تحاول استقطاب «الجيش الحرّ» والضباط الذين انشقّوا ولم يحاربوه، وربما لأنه يشعر بأن تعويم الجيش خطوة لا بدّ منها نحو إيجاد «البديل» أو الترتيب لإيجاده.

وسواء صحّ هذا التقدير أم لا، فإن روسيا أقحمت نفسها في سياق حرب ذهب فيها نظام الأسد إلى أقصى إجرامه وكانت طوال الوقت شريكه غير المباشر. وإذا صحّ ما يُتَداول عن أن موسكو لا ترحب بلجوء الأسد إليها، تجنّباً لإشكالات قانونية وأخرى سياسية تسيء إلى دورها في «المرحلة الانتقالية»، فما المصلحة التي تسعى إليها، حين تصبح شريكه المباشر في القتل أو حين تعده مثلاً (كما نُقل عنها) بدمار في إدلب يساوي عشرة أضعاف خراب غروزني (عاصمة الشيشان). هل هذه هي الطريقة التي تثبت بها روسيا اختلافها «الإيجابي» عن الولايات المتحدة ومساهمتها الفارقة في تصويب نظام دولي ترفضه بسبب الهيمنة الاميركية عليه؟

حاججت روسيا على الدوام بأنها تريد الحفاظ على «الدولة» و «الحكومة» و «المؤسسات»، وأصبح واضحاً اليوم أنها كانت دائماً ترى «الدولة» في «النظام»، و «المؤسسات» في الجيش، مع علمها اليقين بأن النظام لم يعتدّ يوماً إلا بزمرة السلطة التي تنفّذ نزواته الاستبدادية، ولا قيمة عنده ولا احترام لدولة أو حكومة أو مؤسسات. ليس لدى الدولتين المتمسكتين بهذا النظام، روسيا أو إيران، أيُّ نموذج تجذبانه إليه ليكون مقبولاً من شعبه وجيرانه ومحيطه. وقد باشرتا للتوّ مناورات مشتركة لاستدراج قبول دولي ببقائه، أو بـ «سورية المختزلة» التي تريدان تحصين سيطرته عليها، سواء سمّيت «دولة الساحل» أو «إقليماً» أو اعتُبرت إحدى «مناطق النفوذ» المطروحة لتوزّعها بين أطراف جالسة إلى طاولة فيينا. وتلعب هواجس عدّة في المساومات، من خطر الإرهاب إلى أزمة النازحين إلى احتمالات الانزلاق في «حرب بالوكالة» ومواجهات إقليمية.

لذلك تبدو «عملية فيينا» بداية الطريق إلى حل نهائي بسيناريوات متنافسة يستغرق كلٌ منها وقتاً غير قصير. وكان اللافت أن الإيرانيين دخلوا بخطابين غير متطابقين، إذ سرّبوا خارج القاعة تأييدهم لفترة انتقالية من ستة شهور وقال نائب الوزير حسين أمير عبداللهيان إن إيران لا تصرّ على إبقاء الأسد في السلطة إلى الأبد، أما الوزير محمد جواد ظريف، فاقترح انتخابات في أجل قريب وكرر الدعوة إلى «حل وسط»، وما لبث المرشد علي خامنئي أن حدّد «مستقبل سورية» بمسارين هما «انتهاء الحرب وإجراء انتخابات». لا أحد يتخيّل مثل هذا السيناريو في ستة شهور، لكنّ الإيرانيين أرادوا أن يسجّلوا دخولهم المعترك الدولي – السوري بأطروحة هي أقرب إلى المناورة، وإذا التقت مع اقتراحات الجانب الروسي وتركيزه على الانتخابات، إلا أنها تزايد عليها بطرح مهلة زمنية ولو غير واقعية. لماذا؟ أولاً لأن الحديث عن ستة شهور فقاعة دعائية تخاطب الاستعجال الغربي بمقدار ما تشير إلى «قدرة» طهران على الإنجاز، وثانياً لأن إيران نفسها مستعجلة أيضاً للانخراط في مساومة على ثمن مساهمتها في الحل، وثالثاً وهو الأهم لأنها وروسيا تتطلعان إلى «مرحلة أسدية ولو من دون الأسد» أكثر «شرعيةً» من المرحلة الحالية، بل تبدوان موقنتين بأن أي انتخابات ستكون لمصلحتهما.

دُعيت إيران إلى «فيينا 2» من دون أن يُطلب منها الاعتراف ببيان «جنيف 1»، فهي لا تزال ترفضه. ولهذا الرفض مغزى يُستدَلّ عليه من الحرص الروسي – الإيراني على عدم تجديد الجدل حول «رحيل الأسد»، والترويج لدخول فوري في «مرحلة انتقالية» بتشكيل حكومة من الأطراف الراغبة في العمل تحت رئاسة الأسد كي تمهّد لإجراء انتخابات برلمانية ورئاسية بإشرافه، أي بتجاوزٍ متَوافقٍ عليه لـ «تسوية جنيف» ومفهومها اللذين يفرضان البحث المسبق في مصير الأسد. في أي حال، هذه ليست سوى تمنيات موسكو وطهران، إذ تتظاهران بتسهيلات وتنازلات وهمية، وتصوّران التسوية كما لو أنها جاهزة لا لشيء إلا لأنهما تتعهدانها. وهذه «التمنيات» هي التي بنى عليها دي ميستورا خطته لبناء حل سياسي يرضي النظام وموسكو وطهران.

غير أن الحسابات السياسية في كواليس فيينا قد تفاجئ الروس، كما فاجأتهم الحسابات العسكرية الخطأ للمعارك البرّية، حين شنّوا عشرات الضربات الجوّية لدعم تقدّم قوات النظام وإيران، وعندما فحصوا أحوالها وأعدادها ولمسوا إخفاقاتها، فضّلوا التريث لئلا تُحسَب هزائمها عليهم. وجدوا أنفسهم في الحال التي واجهها الاميركيون، أي عملياً من دون قوات على الأرض لاستثمار المساعدة الجوّية. لذلك يحاول النظام الآن تعويض هذا النقص بجلب موظفي الدولة ممن هم تحت الـ 42 عاماً إلى التجنيد والاحتياط، فهؤلاء لا يزالون يعوّلون على الرواتب التي يدفعها لهم، وقد تتوقف إنْ هم تهربوا من الخدمة. لا شك في أن هذا الواقع ينعكس على المشروع الأساسي الذي كان يطمح إلى استخدام قوات النظام وإيران لمحاربة «داعش» وإخراجه من شمال شرقي سورية. وهذا وحده كافٍ لتفسير عودة الكرملين سريعاً إلى تنشيط ورشة الحل السياسي.

الحياة

 

 

 

 

 

 

 

مرحلتان انتقاليتان لسورية/ وليد شقير

صحيح أن البند الثامن من البنود التسعة لبيان اجتماع فيينا الجمعة الماضي نصّ على أن «سورية هي التي تملك وتقود العملية السياسية والشعب السوري هو من يحدّد مستقبل سورية»، إلا أن ممثلي الدول الـ17 التي حضرت الاجتماع، إضافة الى الاتحاد الأوروبي والأمم المتحدة، يدركون أن المرحلة الانتقالية التي نصّ عليها بيانهم تتطلب إدارة دولية لها.

فما معنى اجتماع هذا الحشد الدولي لو أن العملية السياسية ممكنة بين السوريين أنفسهم ولولا أن الصراعات الدولية والإقليمية جعلت من بلاد الشام ملعباً للصراعات المتعددة الخلفيات والنتائج؟

والنتيجة الرئيسة لاجتماع فيينا الأول هي تسليم الدول المشاركة بأن تحقيق الهدفين المتلازمين، اي محاربة الإرهاب والقضاء على «داعش»، وإرساء أسس الحل السياسي بإقامة نظام جديد يرتكز على تحقيق بعض مطالب المعارضة، يتطلب إدارة خارجية لعملية الانتقال الى تنفيذ الهدفين.

ثبت بعد التدخل الأميركي بالقصف الجوي إثر ظهور «داعش» قبل سنة ونصف السنة، وبعد الاندفاع الروسي الى التدخل الجوي الكثيف وصولاً الى إقامة قواعد جوية وتوسيع التواجد على الأراضي السورية، أن هذين التدخلين لم ولن يحققا أياً من أهداف مواجهة الإرهاب.

قبل اجتماع فيينا كانت واشنطن وموسكو «تديران» الاحتراب السوري الداخلي، والحرب بالإنابة التي تخوضها القوى الإقليمية على المسرح السوري. وبعد اجتماع فيينا، يمكن القول إنهما سلمتا بوجوب قيام إدارة دولية لهدفَي محاربة الإرهاب، وإرساء الحل السياسي، بعدما ساهم الاستخفاف الأميركي بأرواح السوريين على مدى 4 سنوات ونيف، وجموح الطموحات الروسية في النفوذ الإقليمي بإفشال المحاولات السابقة لإدارة الحل السوري، التي كان سعى إليها الموفد الدولي كوفي أنان عام 2012، ثم خلفه الأخضر الإبراهيمي عامي 2013 و2014. فالمبادئ المطروحة للحل السياسي في فيينا، لا تختلف في الجوهر عما سبق أن طرحاه. لكن العامل الإضافي هو ظهور «داعش» وتوسعه، وعجز النظام السوري عن حسم الوضع الميداني لمصلحته على رغم المساعدة الإيرانية الضخمة والروسية الهائلة، اللتين لم تلغيا حقيقة أن الجيش السوري أصيب بالإنهاك، ومؤسسات النظام اتجهت الى التفكك والانهيار، هذا فضلاً عن تعاظم عامل آخر ضاغط هو فيض اللاجئين الى أوروبا.

يحتاج تشكيل الإدارة الدولية للمرحلة الانتقالية في سورية إضافة إلى التنازلات المتبادلة، الى إجماع دولي، تشكل الـ17 الحاضرة في فيينا نواة له، حتى يتبلور في صدور قرار جديد من مجلس الأمن يستند إلى مبادئ بيان جنيف – 1 عام 2012 الذي نصّ على قيام «هيئة الحكم الانتقالية الكاملة الصلاحية» والتي حال الفيتو الروسي والصيني دون تحقيق أقلّ منها، مثل وصول المساعدات الإنسانية إلى المحاصرين من السوريين، وإطلاق السجناء… الخ.

وإذا كانت حجة واشنطن في السنوات الماضية، لتبرير تلكؤها في السعي إلى وقف الحرب السورية، إما بتعديل ميزان القوى ميدانياً، أو بالإقبال على تسوية سياسية مع موسكو وطهران، نتيجة حؤول تحالفهما دون حصول إجماع دولي على هذا الحل، فإن حجة القيادة الروسية في تبرير تأخّر الحلّ السياسي، بالتدخلات الخارجية في سورية التي أدّت الى نمو الإرهاب سقطت هي الأخرى. فالإرهاب لم يخسر، بل ربح أكثر من تدخّل الآلة العسكرية الروسية، إذ لا تتوقف الإحصائيات الغربية عن التأكيد أن غارات الجيش الروسي تطاول ما نسبته 85 في المئة من المعارضة المعتدلة بدل «داعش»، بل إن مقاتلي الأخير حين نجحوا في الأسابيع الماضية في الاستيلاء على مناطق شمال سورية عادوا فانسحبوا منها وسلموها إلى جيش بشار الأسد.

ولوج المرحلة الانتقالية في سورية يحتاج إلى قرار مجلس الأمن بإرسال قوات دولية تكون الأداة الفاعلة لإدارة عملية الانتقال السياسي. فكيف يمكن تصوّر وجود معارضين في حكومة ائتلافية، أو حكومة وحدة وطنية في كنف قوات نظام الأسد والقوات الإيرانية الموجودة في دمشق ومحيطها، من دون أن يتعرّضوا لإرهاب النظام وحلفائه؟ وكيف يمكن تصوّر إجراء انتخابات نيابية ورئاسية يشارك فيها المقيمون والنازحون من دون حماية قوّات محايدة دوليّة؟ وكيف يمكن قوّات من هذا النوع أن تكون فاعلة بوجود إيراني مباشر مع الميليشيات الحليفة؟

المرحلة الانتقالية في سورية تحتاج إلى مرحلة انتقالية في علاقات الدول التي ستديرها.

الحياة

 

 

 

 

طريق فيينا المعقّدة محفوفة بحرب رهانات مبارزة كشف الأوراق في المفاوضات الطويلة/ روزانا بومنصف

مع ان مراقبين كثراً لن يبنوا آمالاً كبيرة على اجتماع فيينا الذي انعقد الأسبوع الماضي وضم اطرافاً إقليميين ودوليين للمرة الأولى للبحث في محاولة انهاء الحرب السورية خصوصاً ان البيان الذي صدر كان بالنسبة الى البعض تراجعاً عن بيان جنيف 1 الذي تم التوصل اليه في حزيران 2012 في انتظار اجتماعات لاحقة ستشكل بالنسبة اليهم الاتجاهات الحقيقية لجدية المفاوضات، ينقل متصلون بمرجع رسمي كبير بناء على معلومات ومعطيات توافرت له عن اجتماع فيينا بان هذا الأخير الذي ضم الأطراف الخارجيين الذين يمكن ان يكون لهم كلمة في الوضع السوري يكتسب اهمية وجدية ينبغي اخذهما في الاعتبار على غير ما حصل بالنسبة الى اجتماعات جنيف 1 وجنيف 2. فالاجتماع لم يحمل في حد ذاته حلولاً ومن المبكر التعويل على ذلك في هذه المرحلة وفي اجتماع لا يزال أولياً على رغم الأهمية التي اكتسبها من واقع وجود طرفين إقليميين على ارتباط وثيق بالأزمة السورية وهما إيران والمملكة السعودية على طاولة المفاوضات. وهي المرة الأولى التي يقبل بإيران على غير ما كان عليه الموقف منها سابقاً قبل التوقيع معها على الاتفاق النووي. فهذه خطوة اولى وفق ما ينقل عن هذا المرجع مفادها أمران: الأول ان اجتماع فيينا يشكل حتماً مدخلاً أولياً الى بحث جدي في شأن الحرب السورية. والأمر الآخر ان هذا الاجتماع يجب الا يؤدي الى افتراض ان الطريق الى ايجاد الحل لن تكون طويلة لا بل على العكس فهي ستكون طويلة جداً ولا يزال هذا الاجتماع بمثابة اول الغيث بمعنى ان الرهان على وضع نهاية للحرب السورية الداخلية كما للحرب الخارجية أو بالواسطة على الأرض السورية لن يكون في محله. وهذا أمر سيئ جداً بالنسبة الى لبنان قياساً على ربط يصر على اقامته بعض الأفرقاء بين ايجاد حلول للوضع السوري وبت مصير الرئيس بشار الأسد وبين الاستحقاقات اللبنانية وفي مقدمها انتخابات رئاسة الجمهورية.

فعلى رغم الايجابية التي يراها المرجع المعني لاجتماع فيينا الذي سيعقبه من حيث المبدأ اجتماع آخر على الأرجح الأسبوع المقبل، فان هناك رهانات من ضمن الأفرقاء الأساسيين الكبار الموجودين على طاولة المفاوضات. فمن جهة بات واضحاً ان التدخل الروسي لم يحصل من أجل أهداف روسية بحتة على رغم انه لا يمكن وجود مصلحة مباشرة لروسيا في سوريا باتت غالبية عناصرها معروفة اكان في ما يتعلق بالوجود الروسي المباشر على المتوسط أو مقارعة أميركا في الشرق الأوسط وانهاء احادية سيطرتها في المنطقة، الا انه بات واضحاً بالقدر نفسه ان الروس لم يتدخلوا عسكرياً وعلى نحو مباشر الا لخشيتهم من انهيار وشيك لرأس النظام السوري بما يفقدهم اوراقهم لدى التفاوض حول مستقبل سوريا ومصيرها فكان ضرورياً إعادة بعض الاعتبار اليه من أجل أن يكون قادراً على الحضور والمشاركة على طاولة المفاوضات كما من أجل اعادة الاعتبار لموقع روسيا وأوراقها التفاوضية. الا ان هذا لا يمنع وجود رهانات أميركية وفق ما ينقل عن المرجع المعني. وهذه الرهانات قد تساهم في اطالة امد المفاوضات اذا كان ذلك يساهم في كشف اوراق الآخرين أو اضعافها. ومع ان لقاءات خارجية اتاحت في وقت من الأوقات تلمس وجود توافق أميركي روسي في مكان ما حول سوريا، الا ان ذلك لا يمنع وجود رهان أميركي مبني على عاملين اساسيين: احدهما ان روسيا لا تملك القدرة على تحمل اطالة امد تورطها في الحرب السورية تبعاً لاستمرار العقوبات الاقتصادية الغربية عليها وعدم قدرة اقتصادها على مواجهة تورط مكلف قد يستغرق بضعة اشهر. وثمة من يعتقد ان فترة ستة اشهر من هذا التورط قد تساهم في تغيير بعض المواقف الروسية وتليينها على رغم الاعتقاد ان المسارعة الى بدء المفاوضات حول سوريا انما هو من أجل استثمار التدخل الروسي وهو في ذروته وقبل ان يصطدم بما قد يضعف هذا الاستثمار لاحقاً. والعامل الآخر هو الرهان على ان استمرار الضربات العسكرية الروسية على المعارضة السورية من غير تنظيم الدولة الاسلامية سيؤدي الى حصول تململ لدى الجماعات السنية في روسيا نفسها بعدما اصطفت روسيا الى جانب النظام وحلفائه الشيعة كإيران مثلاً والتنظيمات التابعة لها. وهناك رصد دقيق لهذا الموضوع. ولعل محاولة روسيا ابعاد شبح احتمال حصول اعتداء على طائرة الركاب الروسية التي هوت في سيناء من تنظيم داعش انما يهدف الى طمأنة الروس من ان التدخل الروسي في سوريا ليس مكلفاً لروسيا وسقوط الطائرة ليس احد ظواهر هذه الكلفة المرتفعة لهذا التدخل.

في المقابل فان إرسال الولايات المتحدة خمسين عنصراً الى سوريا إضافة الى إرسال اسلحة الى المعارضين السوريين يفيد وفقاً لما ينقل عن المرجع المعني باستمرار تعزيز الأوراق في سوريا وعدم إتاحة المجال لروسيا ان تسجل تقدماً وهو ما اضطر واشنطن إلى اتخاذ خطوة الانخراط عبر عناصر على الأرض كانت الادارة الأميركية رفضت امكان حصولها ولا تزال تدافع عنها على انها لا تشكل انخراطاً في الحرب السورية علماً ان انخراط روسيا في هذا الاطار مختلف عن انخراط الولايات المتحدة من حيث حساسية أميركا خصوصاً لجهة نوعية الأهداف التي تحددها على عكس روسيا.

النهار

 

 

 

 

عن كلام كيري بين مؤتمري “فيينا 1” و “فيينا 2″/ محمد مشموشي

في كلمة وزير الخارجية الأميركي جون كيري أمام مؤسسة كارنيغي للسلام، في احتفال الأخيرة بإطلاق برنامجها الذي يحمل عنوان «آفاق العالم العربي»، عدد من النقاط التي يقتضي التوقف ملياً عندها، وحتى التساؤل في شأنها، في ظل ما تشهده المنطقة حالياً، وما يصفه سياسيون ومحللون ومراقبون كثر، بمن فيهم الولايات المتحدة نفسها، بأنه «لا سياسة»، وحتى «لا استراتيجية»، أميركية محددة تجاهها. في كلمة كيري ما بين اجتماعي «فيينا 1» و «فيينا 2» حول سورية، والتي تشي لغتها ومفرداتها بأنها ارتجالية، أي لا ترقى إلى وثيقة رسمية ملزمة، كلام أكثر دقة وتحديداً من أي كلام أميركي سابق، ليس في ما يتعلق بسورية فقط بل أيضاً في ما يتصل بالاتفاق النووي بين واشنطن وطهران وماهية العلاقات بينهما في هذه الفترة، فضلاً عن نظرة واشنطن إلى المنطقة عموماً: إلى من تعتبرهم أصدقاءها وحلفاءها التاريخيين، ثم إلى دور روسيا في سورية تحديداً، بعد تدخلها العسكري بدعوى محاربة الإرهاب والمساعدة في إنهاء الحرب.

ماذا في كلمة كيري مما يستدعي الاهتمام، وربما التساؤل الآن وفي المستقبل خصوصاً، في ما لو بدا مجدداً أن الكلام السياسي شيء والفعل على أرض الواقع شيء آخر؟!

عن الاتفاق النووي، قال كيري: «كما تذكرون، كان هناك في أثناء المفاوضات من يتحدثون عن اتفاق ذي معنى بالنسبة للعلاقات بين واشنطن وطهران. هل يمكن لاختراق في الشأن النووي أن يفتح الباب لتعاون أوسع؟ البعض رحب باحتمال كهذا، فيما شعر البعض الآخر، لنقل الحقيقة، بأنه سيصدم بإزائه. وهنا، أريد أن أكون واضحاً. لقد عنينا تماماً ما قلناه: الصفقة مع إيران تعني بنودها. نووية فقط، ولا شيء سوى بنود نووية. وهو الأمر الصحيح الذي فعلناه، سواء أدى إلى حقول تعاون أخرى أو لم يؤد. والآن، ليست لدينا أوهام حول السياسات المقبلة لإيران، لأن مقاربتنا لها تتم وفق الوقائع المرئية، وما نراه بوضوح أن إيران تواصل اللعب بالخلافات الطائفية في المنطقة، كما تواصل احتجاز مدنيين أميركيين من دون مبرر(…) وسياسات إيران هذه، أحد الأسباب التي تجعلنا نعمل عن قرب وبدعم متبادل مع شركائنا في المنطقة».

هذا المقطع من الكلمة التي غلب عليها عنوان «البناؤون والهدامون» في المنطقة، يتناقض إلى حد كبير مع مقطع آخر عن التزام بلاده مبدأ الوقوف بقوة ضد «الهدامين» والانتصار لـ «البنائين»، فضلاً عن تعهدها منع تهديد الاستقرار في المنطقة، لأن تجربة 11 أيلول (سبتمبر) «علمتنا أن الأخطار الإقليمية سريعاً ما تصبح أخطاراً دولية… ولأننا نعي تماماً أن الأحداث في الشرق الأوسط يمكن أن تؤثر على كل قارة على حدة، لأن لدى الناس في كل قارة ارتباطاً بالتقاليد الروحية والأخلاقية التي تعود بجذورها إلى تلك الأرض القديمة في التاريخ». ولا حاجة للقول إن اللعب على الخلافات الطائفية، ووصف سياسات إيران، لا يضعانها في قائمة «الهدامين» فقط، إنما أيضاً في خانة العداء الدائم والمطلق لكل ما يسعى إليه أو يفكر فيه «البناؤون» هؤلاء.

لكن، ماذا عن الوضع الضاغط حالياً في سورية؟

عن هذه النقطة، قال: «من أجل هزيمة «داعش»، علينا أن ننهي الحرب في سورية. وهذا عملياً هدف أميركا». لكنه لم يقف عند هذا الحد، فأضاف: «للتفكير في ذلك، ينبغي التفكير في كيف بدأ النزاع. مطلع 2011، مع بداية الربيع العربي، قامت انتفاضة شعبية ضد بشار الأسد، الذي حكم هو ووالده لأكثر من أربعة عقود. أرسل الأسد شبيحته (thugs) لضرب الشبان الذين كانوا يحتجون في الشوارع وهم يطالبون بفرصة عمل ويتطلعون إلى المستقبل. هذا كل ما أرادوه، إلا أن الشبيحة تعاملوا معهم بالضرب. وعندما غضب أولياؤهم على خلفية ذلك وخرجوا، جوبهوا بالرصاص والقنابل. هكذا بدأ كل شيء. وبدلاً من التغيير السلمي، عمد الأسد إلى جعل الحرب حتمية وطلب مساعدة «حزب الله» وإيران وروسيا. وهذا ما فاقم التوتر بين الجماعات السنية والشيعية، ومهد تالياً الطريق لبروز «داعش» (…) جميعكم تعرفون الآن الأرقام: مواطن سوري من كل عشرين قتل أو جرح. واحد بين كل خمسة نازح. واحد من اثنين مهجر. معدل الأعمار في سورية انخفض بنسبة 20 سنة».

لكن كيف، وماذا تفعل الإدارة الأميركية لإنهاء الحرب، إن عبر اجتماعات فيينا أو على الأرض؟

يقول كيري: «علينا أن نطرد «داعش» الذي سيطر لفترة على معظم الحدود التركية/ السورية، لكن في النهاية لا شيء يساعد على ذلك سوى مرحلة انتقالية تزيح الأسد وتفسح في المجال لتوحيد البلاد في مواجهة التطرف. لذلك، علينا إزالة «النظرية» التي شجعها الأسد و «داعش» معاً منذ البداية، وهي أن لا خيار لدى السوريين إلّاهما: تكون مع الإرهابيين أو مع الأسد. لا، ليس هذا هو الخيار. هذه «النظرية» هي التي تجعل من يخشى الإرهابيين يقف مع الديكتاتور، ومن يخشى الديكتاتور يقف مع الإرهابيين، وهي بالتالي ما حول سورية في النهاية إلى جهنم».

النقطتان اللتان خلص إليهما في ختام كلمته، واللتان قد تعنيان الكثير إذا ما كانتا تعبران فعلاً عن استراتيجية أميركية ثابتة للمستقبل، هما:

أولاً، لأولئك المتشائمين الذين يقولون إن الديموقراطية ليست ممكنة في الشرق الأوسط وشمال افريقيا، أجيبهم بكلمة واحدة: تونس. هنا، لا نجد الجنة الآن، لكننا نجد بالتأكيد ماذا يعني أن يكون هناك «بناؤون» في الشرق الأوسط.

ثانياً: لا تقبلوا وجهة نظر البعض الذين يقولون إن الشرق الأوسط يجب في النهاية أن يقسم على أساس خطوط طائفية، خصوصاً بين السنة والشيعة. لا شيء يغذي بروباغندا «داعش» وغيره من التنظيمات الإرهابية أكثر من هذه الخرافة… هذه النظرة التبسيطية والسينيكية، ليست غير حقيقية وغير واقعية تاريخياً فقط، بل غير حقيقية وغير واقعية اليوم أيضاً. يبقى السؤال: هذا ما قاله كيري قبل أيام، وبين «فيينا 1» و «فيينا 2» مع وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف وآخرين، لكن ما الذي يفعله كيري، ورئيسه أوباما، عملياً على الأرض لتجسيد كل، أو حتى بعض، ما قاله؟

الحياة

 

 

 

مشروع الدخول إلى التسوية في سوريا يتكامل؟

من كان يستحيل جمعهم، سيلتقون ثانية في فيينا يوم السبت في الرابع عشر من تشرين الثاني الحالي.

هذا الموعد جاء تتويجاً لمشاورات مكوكية أجراها مبعوث الأمم المتحدة الخاص إلى سوريا ستيفان دي ميستورا، وشملت خاصة دمشق وموسكو وواشنطن وبعض شخصيات المعارضة السورية، على أن يتوّجها الثلاثاء المقبل بعرض يقدمه أمام أعضاء مجلس الأمن الدولي، ويضمنه أفكاراً تصب في خانة جعل «فيينا 2» محطة مفصلية نحو وضع خريطة طريق للحل السوري، في ضوء المبادئ التسعة التي أرساها «فيينا 1».

واللافت للانتباه أنه في موازاة العمليات الميدانية المستعرة نيرانها على أكثر من جبهة، فوق الأرض السورية، ظل دي ميستورا متمسكاً بإطلاق مبادرات حسن نية في الاتجاهين، بينها محاولة فرض وقف جديد لإطلاق النار في حي الوعر في حمص، في ضوء التقرير الذي رفعته إليه مديرة مكتبه في دمشق السيدة خولة مطر التي زارت قبل أيام قليلة الحي المحاصر منذ نحو سنتين.

ووفق مصادر الأمم المتحدة، فإن الحكومة السورية تجاوبت مع الطرح الدولي، كما فعلت سابقاً في المنطقة المحاصرة التي تصلها مساعدات إنسانية، وبات المسلحون فيها «لا يشكلون حالة خطيرة» على مدينة حمص، على حد تعبير مصادر الأمم المتحدة.

كما أن دي ميستورا أثار خلال زيارته الأخيرة إلى دمشق، مع وزير الخارجية السوري وليد المعلم، مسألة إلقاء البراميل المتفجرة على منطقة دوما في ضاحية دمشق، وذلك بالتزامن مع انعقاد «فيينا 1»، وقال المبعوث الدولي للمسؤولين السوريين إنه بعد دخول الروس عسكرياً على خط الأزمة السورية، صارت هناك ترسانة أسلحة أكثر دقة، «فهل يمكنكم الاستغناء عن هذه البراميل المتفجرة؟».

وكما تبلغ دي ميستورا من النظام السوري، فإن الجانب الروسي اعتبر أن تظهير البراميل بالتزامن مع «فيينا 1»، «هو مجرد عمل دعائي لأهداف سياسية».

تقاطعت مواقف الروس والسوريين عند حد القول إن هناك ماكينة إعلامية تحاول الإيحاء بأن الضربات الجوية الروسية أيضا تستهدف مجموعات مدنية سورية، بينما الحقيقة هي أن المجموعات المسلحة تستخدم أسلحة محرّمة وفتاكة، وهذا الأمر أثبته تقرير دولي تحدث صراحة عن توصل التحقيقات إلى أن تنظيم «داعش» استخدم غاز الخردل، خلال معاركه مع مجموعات مسلحة في بلدة مارع في ريف حلب في آب الماضي.

وأبلغت الحكومة السورية دي ميستورا أن المجموعات الإرهابية تستخدم أسلحة وذخائر مصدرها المخازن التركية مثل «مدفع جهنم» (سقطت قذائفه المحمومة على بعض مناطق سيطرة النظام في مدينة حلب، ما أدى إلى سقوط أعداد كبيرة من المدنيين).

بطبيعة الحال، عبّر السوريون عن ترحيبهم بمضمون بيان «فيينا 1»، ولو أنهم لم يكتموا ملاحظاتهم على بعض البنود، وهو الأمر الذي أشار إليه صراحة الوزير المعلم خلال استقباله دي ميستورا، حيث جدد استغرابه لعدم تضمين البيان نقاطا تلزم دولا إقليمية معينة بالتوقف عن دعم المجموعات الإرهابية، تنفيذا لمضمون قرارات دولية ذات صلة «بمكافحة الإرهاب» وتمويل المجموعات الإرهابية، «وعندها يصبح الحديث عن أي وقف لإطلاق النار مجديا».

ما هو المطلوب من «فيينا 2»؟

أظهرت محادثات دي ميستورا في الأيام الأخيرة، أنه يعول كثيرا على الروس من أجل تذليل الكثير من العقد الحساسة في المرحلة المقبلة، خصوصا أن ثمة انطباعاً مفاده أن الأميركيين بدأوا ينظرون، أكثر من أي وقت مضى منذ خمس سنوات حتى الآن، الى مخاطر استمرار الأزمة السورية وتفاقمها.

على أن دي ميستورا لم يستشعر أن أياً من الأطراف الإقليمية والدولية الأساسية قد عدّل موقفه من الأزمة السورية «بصورة جذرية». بدا واضحا في «فيينا 1» أن همّ كل طرف محاولة تكريس مطالبه، وقد عبّر كل واحد من هؤلاء عن ذلك بطريقته الخاصة، لكن البيان الختامي ببنوده التسعة، «شكل رسالة مشتركة ندر أن وضعت كل هذه العواصم تواقيعها عليها، وبذلك يكون «فيينا واحد» أول محاولة جدية لوضع الأزمة السورية على سكة الحل السياسي».

في المقابل، ثمة ملاحظة رصدتها بعض دوائر الأمم المتحدة في نيويورك، مفادها أنه غداة بدء التحضير لمؤتمر «فيينا 2»، أخذت جهود بعض القوى الإقليمية تثمر تنسيقاً ميدانياً غير مسبوق بين «النصرة» و «داعش» وباقي المجموعات المسلحة على الأرض السورية، خصوصا في الشمال القريب من الحدود التركية. هذه النقطة أثارها السوريون والروس مع دي ميستورا، وطلبوا منه أن يركّز جهوده، بالتنسيق مع الأميركيين، في اتجاه الضغط على كل من السعودية وتركيا وقطر لوقف دعمهم العسكري المتزايد، الذي يصب في خانة تعزيز قدرة «داعش» و»النصرة» ونفوذهما على الأرض.

على طاولة «فيينا 2»، ستوضع مسودة جديدة للائحة الشخصيات السورية المرشحة للجلوس الى طاولة الحوار مع النظام، وهي لائحة طرحها الروس أمام السعوديين، على هامش «فيينا 1» وطلبوا إدخال تعديلات عليها، موضحين أنها لائحة أولية قابلة للتعديل والتوسيع المحدود. ومن أبرز الأسماء التي تضمنتها لائحة الـ36 أسماء: معاذ الخطيب، أحمد الجربا، عارف دليله، خالد خوجة، هادي البحرة، صفوان عكاش، سمير العيطة، ميشال كيلو، صالح مسلم محمد، سليم الشامي، رونا تركماني، رندا قسيس، محمد حبش، محمد طيفور، محمود مرعي، جمال سليمان، لؤي حسين، قدري جميل، وليد البني ومنير هاميش المقرب جدا من المعارض السوري المعروف هيثم مناع. وتضم اللائحة أيضا أسماء رجال أعمال وممثلي تجمعات سورية معارضة في البيئات المسيحية والكردية.

الخطوة الثانية بعد «فيينا 2» هي جلوس الحكومة السورية والمعارضة الى طاولة واحدة. في هذا السياق، سمع زوار موسكو كلاماً مفاده أن زيادة النفوذ الروسي في سوريا «تزيد قدرتنا على إلزام النظام بالحل السياسي واتخاذ خطوات سياسية ملموسة وجذرية».

ليس في قاموس الديبلوماسية الروسية، حسب أكثر من مصدر متابع، أي توجه لوضع سقف مسبق لما يسميها خصوم النظام «المرحلة الانتقالية». موسكو لن تتخلى عن الرئيس بشار الأسد، وهي ردت على من اشترطوا عليها رحيل الأسد: «أنتم تريدون الفوضى لا الحل في سوريا.. للشعب السوري وحده أن يقرر مصيره وقيادته ومستقبله». هذه المعادلة ستصبح مفردة تستخدمها موسكو في كل ساحات الاشتباك بينها وبين باقي مكوّنات النظام العالمي.

ثمة قناعة لدى دي ميستورا بأن حياكة التفاصيل ستكون عملية معقدة، وكل بند يحتاج الى مفاوضات مضنية، لكن المهم أن الأزمة وضعت على السكة والمظلة باتت متوافرة، وسيكون المطلوب تحديد الخطوات العملية الواجب اتخاذها من أطراف النزاع والأطراف المؤثرة اقليميا ودوليا.

بعد «فيينا 2»، يعول الروس على زيارة الملك السعودي سلمان بن عبد العزيز الى موسكو قبل نهاية تشرين الثاني الحالي، وهم تلقوا تأكيدات أن الزيارة حاصلة «برغم كل ما يجري من تشويش عليها».

ماذا عن لبنان؟

«الحلول في لبنان مؤجلة ولن تبدأ بالتبلور قبل أن توضع المنطقة على سكة التسويات في العام 2016، وهذا يعني أنه لن يكون هناك قريبا رئيس جديد للجمهورية.. واذا استمر هذا الوضع، فإن لبنان سيكون في ربيع العام 2017 أمام تحدي إنجاز تسوية متكاملة تشمل الرئاسة الأولى والحكومة والمجلس النيابي».

هذا هو الانطباع الذي عاد به أكثر من مسؤول لبناني من الخارج، و «لكن الخطورة على لبنان، ليست اقتصادية وحسب، بل ثمة خطورة أمنية، اذا قرر السعوديون والايرانيون تبريد الساحات المشتعلة في الاقليم وخصوصا في اليمن وسوريا، فإن لبنان سيكون البلد الأكثر قابلية لترجمة التجاذب الاقليمي، سياسيا وأمنيا، وهذا الأمر يتطلب من أهل السياسة في لبنان التفكير في كيفية تحصين بلدهم سياسيا وأمنيا واقتصاديا وماليا.. ولعل البداية تكون بفتح أبواب مجلس النواب وإعادة تفعيل الحكومة» على حد تعبير مسؤول لبناني كبير.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى