صفحات الثقافة

محارق سورية


احمد بزون

كنا لا نفاجأ، من قَبْل، أن يعتقل النظام السوري كتّاباً وفنانين، فالمعركة كانت حينها مع كل من يفكر في التغيير، تحت أي لافتة مشى، وبأي لغة كتب.

كنا لا نفاجأ أن تمتلئ السجون بمعارضي السلطة، الذين لم يكونوا حينها يرفعون غير أقلامهم، وأحياناً أصواتهم…

أما اليوم، وقد باتت أعداد الشهداء من هؤلاء تزداد يوماً بعد يوم، حتى يكاد لا يخلو يوم من ذكر اسم فنان أو كاتب في لائحة الاغتيال أو التعذيب أو الاعتقال. وقد طالعتنا آخر الأخبار عن مقتل الكاتب محمد نمر مدني، صاحب مئة كتاب، تحت التعذيب في سجون السلطة.

ما زالت السلطة تعيش تاريخها القديم، يظن القيمون عليها أن ممارسة القمع ومنع الحريات وقتل المدنيين العزل ما زال يجدي. لم ينتبهوا أن للمعركة شكلاً جديداً، وأن الشوارع امتلأت بمجموعات من المسلحين المعارضين في كل اتجاه، وصار السلاح هو أداة الحسم. لم ينتبه رجال المخابرات أن أدوات التغيير اختلفت، وأن المعركة لم تعد مع الذين يكتبون بالحبر أكثر مما هي مع الذين يكتبون مستقبلهم بالرصاص.

قد لا يكون ما يجري في سوريا اليوم ثورة، على طريقة الثورات التي أحدثت نهضة في العالم، وقد لا تشجعنا ممارساتها على الأرض لتأييد مطلق لها، غير أن جرائم السلطة، التي سبقت الأحداث، والتي ساهمت في إشعال الشارع لا يستطيع مثقف أن يدافع عنها.

كيف يقتل الكاتب مدني، المتخصص بتاريخ الأديان والطوائف ومؤلف موسوعة الأديان والمذاهب، الذي كتب ضد الصهيونية وادّعاءاتها حتى كلّ زنده؟ بأي منطق يعذب كاتب هادئ حتى الموت؟ سوى أن غريزة القتل متأصلة في نظام مارس من العسف الكثير ضد أبناء بلده، كي يستووا تحت قياده.

كان مدني يفني عمره في مخاطبة العقول، وكان في المقالات التي يكتبها محاوراً ليس إلا، وهو من بداية الأحداث كان يحذر من حرب أهلية قبل أن تحصل… لكن كيف يمكن لسلطة تعتبر نفسها أبدية أن تحاور، ولرأس يعتبر نفسه بحجم الوطن كله أن ينحني أمام إرادة شعب.

التعذيب الذي لاقاه جسد محمد نمر مدني، والجروح التي فتكت بأجساد المثقفين الآخرين الذين طاولتهم قسوة السلطة وممارساتها الهمجية، لن يغفرها المثقفون العرب.

العديد من المثقفين السوريين ليسوا مع فوضى السلاح والقرار، ولا هم مع تطييف الحرب ضد السلطة، لكن الشرفاء منهم لم ينسوا ندوب القمع في أجسامهم.

خصص الكاتب الشهيد مدني ثلاثة كتب في نفي الادّعاءات الصهيونية حول «الهولوكست». كان يقوم بمهمة قومية طالما ادّعاها النظام، ومع ذلك لم تغفر له قوميته اعتراضه على النظام ولو في أبسط المستويات.

إن ما فعله النظام من مجازر بحق شعبه، وإن ساوته فيها بعض المليشيات المعارضة المتطرفة، لهو نوع جديد من محارق «العصر الحديث».

ربما كان مطلوباً من مدني أن يعتذر عن كتاباته حتى ينجو بروحه، ولم يفعل، غير أن السلطة بقتله وقتل أمثاله من المثقفين، تؤكد أن لا مكان لها في هذا العصر حتى لو اعتذرت عن جرائمها.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى