صفحات الثقافةممدوح عزام

محاكمة الشاهد/ ممدوح عزام

 

 

من المفارقات اللافتة في تاريخ الرواية السورية أن تُدان مرّتين؛ ففي العقود الأخيرة من القرن العشرين، ارتفعت الأصوات التي تلوم الرواية، أو توبّخها، بسبب غياب الهمّ الوطني أو القومي عن مشاغلها، أو يُكال المديح لتلك الروايات التي عالجت هذه الهموم، وانخرطت في المعركة “الوجودية” التي كان البلد يعيشها.

وقد لخّصت قيادة الشيوعيين الموضوع آنئذ في ثلاث كلمات وصائية هي: “الوطن في خطر”، وقد راح الساسة، والنقّاد في أحزاب اليسار، خصوصاً، يشجّعون الشعر المنبري الخطابي، والقصّة السياسية المباشرة، والرواية النضالية ذات الرنين الشعاراتي الصاخب، إلى أن قدّم الناقد السوري الراحل جلال فاروق الشريف صياغة “نقدية” ممتلئة بالمهام في كتاب صدر نهاية السبعينيات من القرن العشرين، سمّاه “إن الأدب كان مسؤولا”.

الطريف في الأمر هو أن السياسي نفسه لم يكن يشتغل في حقل السياسة، بحيث يمكن القول إن ارتفاع منسوب الأيديولوجيا في الروايات السورية، إذا ما أُقرّ هذا الرأي “النقدي”، ناجم عن غياب السياسة في المجال العام.

إنه نوع من “حمل الكتف” عن انزواء السياسيين في العقود الماضية، أو هو بديل عن خروج السياسة إلى الظل والصمت في الحياة العامة، حين تنهض الرواية بدور “الشاهد” القادر على قول الحقيقة، من دون أن تُقسم أمام أي محكمة، سوى محكمة الضمير الأخلاقي، والصدق الفنّي، إذ تستفيد من خصائصها الفنّية في مكر القول والتورية والترميز والقدرة على التخلّص من الرقابة، حين تنسب الآراء المطروحة في النص إلى الشخصيات الروائية، لا إلى الروائي نفسه.

قد تكون هذه الوضعية واحدة من الأسباب وراء “تهمة” الأدلجة التي توجّه للرواية السورية بين آونة وأخرى. وحتى اليوم، لم يوضّح أولئك الذين يعيبون على الرواية السورية أيديولوجيتها، ما هي الأيديولوجية المعيبة.

غير أن الخطاب المتّهِم يعني بها نوعاً بغيضاً من الأفكار الجاهزة، خطاباً مباشراً لا يعتني بفن الرواية وحرية الشخصيات. ولك أن تستنتج، عقب ذلك، أن الرواية السورية ضحلة وحزبية وذات شخصيات مصطنعة وخالية من المتعة الفنّية المطلوبة في أي رواية.

واللافت أن هذه التهمة، ما تزال حتى اليوم، تقتصر على التصريحات الصحافية، والتعليقات الشفوية، من دون أن تقدّم في لائحة الاتهام أية أدلّة أو قرائن، تاريخية، أو عينية، تثبت ارتكاب هذه “التهمة”.

المفارق هنا، هو أن ترتد الحملة، ويعلو الصوت المندّد اليوم، بما كان في الأمس دعوة أو مهمّة “وطنية” وإنسانية وأخلاقية. لماذا؟ هل يعكس هذا رغبة ضمنية في ردع الرواية عن التدخّل في السياسة؟ أم يشير إلى نزعات جمالية تزعم عدم أهلية الرواية للكلام في الشأن العام؟ أم هو “أيديولوجيا” مضادّة غاضبة من احتمال عرض الحقائق المرعبة التي ارتُكبت في البلاد؟

تستخف مثل هذه التصريحات بميراث إبداعي يربو عمره على السبعين عاماً، كما تستخف بقدرة الرواية على أن تكون جزءاً من وعي جمالي وفني، لا يتجاهل الواقع، ولا ينأى عن التدخّل في الشأن العام الذي يشكّل المحيط الذي تعيش فيه شخصيات الرواية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى