مراجعات كتب

محاولة لفهم احداث المنطقة وتفاصيلها: الربيع العربي تاريخا ومفهوما في كتاب جديد

 

 

 

إعداد: ميسون أبو الحب

تثير منطقة الشرق الاوسط والاوضاع المضطربة فيها شهية العديد من الباحثين والكتاب والاكاديميين والمحللين الذين يحاولون منح احداثها صبغة معينة او معنى محددا يسهل فهمها بالنسبة للقراء الاجانب ممن يراقبون المنطقة عن بعد.

أحدث كتاب من هذا النوع صدر أخيرا للكاتب روبرت ف. وورث ويحمل عنوانا معقدا تعقيد منطقة الشرق الاوسط وهو “غضب جامح محل نظام” ويتطرق الى حالة الغليان التي شهدتها دول المنطقة من ميدان التحرير الى تنظيم داعش. ويروي الكاتب في الواقع قصة ما يدعى بالربيع العربي التي بدأ اول فصولها في عام 2011 قبل جر المنطقة الى الاوتوقراطية والى حروب اهلية هنا وهناك.

واضع الكتاب مراسل سابق لصحيفة نيويورك تايمز وقد استخدم اسلوبا صحفيا مألوفا في سرد قصة الربيع العربي من خلال عرض قصص اشخاص وأفراد عديدين ومختلفين عاصروا المرحلة وتأثرت حياتهم بها. ويعتبر نقاد ان الاسلوب الصحفي وإن كان مألوفا إلا ان الكاتب استخدمه بطريقة ذكية تدعو الى الاعجاب.

اختار وورث هؤلاء الاشخاص والافراد بطريقة رائعة فجميعهم عاشوا تجربة الثورة وحالة القلق التي اعقبتها. ورغم خطورة تحويل احداث ضخمة مثل حدث الربيع العربي الى حجم صور يعرضها أفراد لا يجمع اي شئ بينهم عدا كونهم ممن تأثروا بهذا الحدث غير ان الكاتب نجح في اعطاء صورة من الاعلى لهذه الحقبة التاريخية ونجح في عرض الحدث من خلال ملامح لها علاقة بعلم النفس البشري.

من المعروف ان الاحداث التي شهدتها منطقة الشرق الاوسط في عام 2011 دفعت خبراء وأكاديميين وصانعي سياسة الى محاولة تفسيرها غير ان التفسير الابسط كما يبدو هو الافضل ويتلخص في ان شعوب العالم العربي ما عادت تحتمل الظروف التي كانت تعيش فيها على مدى عقود والتي اتسمت بسياسات اقتصادية خاطئة وبحكومات طاغية وبانظمة اجتماعية بائسة لا تتواءم مع ما يشهده العالم من انفتاح وعولمة ولذا هبط الناس الى الشارع للمطالبة بالتغيير. وربما يكون اهم ما يلاحظه الكاتب هو ان كل الذين ثاروا واعترضوا واحتجوا ودعوا الى التغيير كانوا متفقين على ما يريدون غير انهم لم يتفقوا على البديل وكان الكثيرون منهم يعتقدون ان ابواب الجنة ستفتح على مصراعيها ما ان يسقط النظام.

قصة الثورات قديمة وتقوم على اجزاء اولها اسقاط النظام وهو ابسط الانجازات  حتى لو كان صعبا جدا أما الجزء الاكثر تعقيدا فهو ايجاد ما يمكن أن يحل محل الجزء المهشم، ولذا انتشرت فوضى في مناطق مثل سوريا وليبيا واليمن ثم ما لبثت الفوضى ان خلقت  مخاوف ادت بدورها الى اعمال عنف ثم ادت اعمال العنف نفسها الى تأجيج الرغبة في الانتقام ثم الى تأجيج غضب ثم الى اثارة غضب أكبر. هذه الدول الثلاث وكما يشير الكاتب تعاني حاليا من مشاكل تحرقها وقد تستمر في احراقها لعقود مقبلة فيما اختارت دول اخرى طرقا أخرى وفرت لها امنا اكبر مثل مصر التي فضلت العودة الى الاوتوقراطية رغم المآخذ عليها كي تتجنب الانزلاق الى حالة حرب اهلية رغم ان هذا الخطر ما يزال قائما بسبب سيناء وليبيا. أما تونس فحاولت من جانبها ارتداء قفطان يشبه قفطان الديمقراطية رغم ان الكاتب يشير الى ان الطريق ما يزال طويلا كي نعرف بشكل حقيقي نتائج هذا الانجاز

يعتمد وورث في سرد احداث الشرق الاوسط ابتداءا من عام 2011 على قصص اشخاص عديدين عاصروا فجر الثورة الكاذب ثم حالة الظلام التي اعقبته ومنهم من هو معروف مثل محمد البلتاجي الذي كان لفترة ما امل الاسلاميين المعتدلين في مصر ثم راشد الغنوشي والباجي قائد السبسي وهما الزعيمان التونسيان اللذان حافظا على شئ من الثورة، حسب وورث، هذا اضافة الى آخرين مغمورين مثل محقق ليبي وشيخ عشيرة يمني وشخص كويتي انضم الى تنظيم داعش ثم ما لبث أن فر منه.

وترى صحيفة نيويورك تايمز ان افضل فصل في الكتاب هو ذلك الذي يروي قصة امرأتين سوريتين كانتا صديقتين منذ الطفولة احداهما من الطائفة العلوية والاخرى سنية. ومع بدء الازمة حاولت الصديقتان التمسك احداهما بالاخرى والحفاظ على هذه العلاقة العميقة والطويلة غير ان الزمن الملفوف بالغضب وبالخوف سرعان ما ابتلعهما لتنتهيا عدوتين لدودتين تحاول كل منهما اعادة كتابة قصة الصداقة القديمة لتفسير حالة البغض الجديدة.

من المعروف في جميع الاحوال ان حالة التمزق التي تنتج عن سقوط نظام قائم تؤدي الى تحويل المجتمع الى كيانات وجماعات ذات هويات مختلفة ومتخالفة وهذه حقيقة اساسية قد لا يفهمها اولئك الذين يتابعون اوضاع المنطقة من مسافات بعيدة إذ يعتقد الكثيرون ان صراعات الشرق الاوسط سببها كراهيات قديمة او حدود لم ترسم بشكل صحيح في زمن ما غير ان كتاب وورث يبدد هذه الاوهام الخاطئة.

في الشرق الاوسط وكما هو الحال في مناطق تقع فيها حروب اهلية تولد الوحشية من حالة الفوضى. ونلاحظ في كتاب وورث ان الشخصيات التي اعتمد عليها في سرد قصة المنطقة دائمة الخوف على حياتها وحياة اسرها. هؤلاء اشخاص يسمعون اشاعات عن اشرار يقتلون اي شخص يختلف عنهم أن أنهم يقتلون الاخرين، والاخرون هم من السنة او الشيعة في العراق او من السنة او العلويين في سوريا او من سرت او طرابلس في ليبيا. وما يحدث هو ان خوف الآخرين من الاخرين يدفع اصحاب الهوية المشتركة الى التجمع احدهم مع الاخر من اجل الحصول على نوع من الامن والأمان ثم ما يلبثون ان يأتوا بأعمال يضعونها في خانة الدفاع عن النفس. وعادة ما تؤدي اعمال قتل الى اعمال قتل انتقامية هي ظروف يرى الانتهازي الشرير فيها فرصة لتحقيق سطوة لا يمكن الحفاظ عليها إلا من خلال ممارسة اعمال قتل اكثر. والان، كم عدد الافراد الذين يستطيعون الوقوف في وجه مثل هذه المجازر وسلسلة التفاعلات الكاملة؟

وأخيرا، ترى صحيفة نيويورك تايمز ان كل عمل يعتمد الخلق والخيال هو عمل فلسفي عظيم ما دام يتطرق الى المبادئ الاساسية في العالم ولكن، قليلة هي الكتب التي لا تعتمد الخيال بل الواقع كما هو معاش والقادرة على تحقيق هذا الهدف. وكتاب وورث من هذا الصنف الاخير.

ايلاف

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى