صفحات سوريةمحمد سيد رصاص

محطات رئيسة قادت إلى انفجار المنطقة/ محمد سيد رصاص

 

 

عندما انفجرت قبرص بين مكوّنيها اليوناني والتركي، ومن خلفهما أثينا وأنقرة، في تموز (يوليو) 1974 توقع العميد ريمون إده أن «هناك قبرصة ستحصل للبنان والمنطقة». لم يؤد الانفجار اللبناني بعد تسعة أشهر من الانفجار القبرصي إلى انفجار منطقة الشرق الأوسط، بل ظل الحريق اللبناني معزولاً عن الإقليم، وكان أقرب إلى الموقد أو منقل الشواء التي كان يأتي العديد من اللاعبين الإقليميين والدوليين لطهو طبخاتهم أو لشيّ مشاويهم فيه بواسطة حطب لبناني وقبل أيلول (سبتمبر) 1982 بحطب فلسطيني أيضاً. لما انهار البناء السوفياتي العالمي، والإقليمي في الشرق والوسط الأوروبيين، وخرجت موسكو مهزومة من الحرب الباردة أمام واشنطن في النصف الثاني من عام 1989، حصل الإطفاء للحريق اللبناني عبر اتفاق الطائف بإرادة ثلاثية: واشنطن- دمشق- الرياض، وجرى الإطفاء الأخير لآخر جمرة لبنانية مثلها الجنرال ميشال عون في بعبدا، بعد شهرين من اكتمال هذا الاتفاق الثلاثي إثر غزو العراق للكويت.

لم يقد شرق أوسط ما بعد حرب 1991 إلى حرائق جديدة، بل إلى تسكين للمنطقة، وكانت تسوية مؤتمر مدريد معدة، لو حصلت، من أجل ترتيب شرق أوسط جديد، عبر تسوية الصراع العربي الإسرائيلي، يكون امتداداً سياسياً – أمنياً لحلف شمال الأطلسي، كما كان مصمماً عبر «خطة دفاع الشرق الأوسط» و»حلف بغداد» عامي 1951 و1955.

كان احتلال بغداد في 9 نيسان (أبريل) 2003 بداية لاشتعال حرائق المنطقة، ومن ثم اشتعال الإقليم برمته. وبعد 12 عاماً، أصبحت واشنطن في مرحلة ما بعد بغداد 9 نيسان 2003 قوة إقليمية شرق أوسطية من الناحية الفيزيائية عبر مئات آلاف الجنود الأميركيين في بلاد الرافدين، وقد أعلن وزير خارجيتها كولن باول قبيل قليل من غزو العراق أن الهدف الأميركي هو «إعادة صياغة المنطقة». وأصبحت طهران بعد إزاحة صدام حسين ومن خلال امتداداتها العراقية المحلية، التي كانت أقوى من الامتدادات الأميركية، اللاعب الأقوى في بلاد الرافدين، ثم أصبحت عملياً بعد الانسحاب العسكري الأميركي في اليوم الأخير من 2011 اللاعب الوحيد هناك تقريباً. وكما قال الجنرال رحيم صفوي القائد السابق لـ»الحرس الثوري الإيراني»، باتت إيران هي «الدولة الإقليمية العظمى» بعد انهيار» البوابة الشرقية للوطن العربي»، كما كان صدام حسين يطلق على العراق في زمن حرب الثماني سنوات مع إيران.

وكان أول حريق شبّ بفعل تداعيات الزلزال العراقي، هو الحريق الحوثي الذي اشتعل في حزيران (يونيو) 2004 في صعدة ضد صنعاء علي عبدالله صالح وقاد إلى ست حروب. أما الحريق الثاني فاشتعل في بيروت خريف 2004 وربيع 2005 عندما اتجهت واشنطن إلى تدفيع دمشق، الرافضة لغزو العراق، فاتورة لبنانية باهظة كسر من خلالها التوافق الأميركي – السوري الذي يعود إلى أيام الدخول العسكري السوري للبنان عام 1976. الحريق الثالث كان في حرب صيف 2006 في لبنان التي كانت حرباً بالوكالة بين واشنطن وطهران بعد أن اتجهت الأخيرة، متحصنة بمكاسبها العراقية، إلى كسر تحالفها مع واشنطن عبر استئناف برنامجها لتخصيب اليورانيوم منذ 8 آب (أغسطس) 2005.

وقاد ابتعاد طهران عن واشنطن في عموم الإقليم إلى اختلال التوازن بين معسكري «14 آذار» و»8 آذار» في لبنان وبالتالي إلى اقتراب لبنان، مع تكاتف دمشق وطهران ضد واشنطن في بلاد الأرز، من حافة الانفجار، كما جرى في كانون الثاني (يناير) 2007 في منطقة الجامعة العربية وجوارها، ثم كاد لبنان ينفجر في 7 أيار (مايو) 2008 لولا الإطفائيات التي جرت بعد أسبوعين من ذلك في الدوحة وقادت إلى ملء الفراغ الرئاسي.

في مرحلة ما بعد 7 أيار (مايو) 2008 عاش لبنان وما زال في وضع الحريق الكامن ولكن الذي لا يراد له، دولياً وإقليمياً، أن يشتعل. وبين 17 كانون الأول (ديسمبر) 2010 و18 آذار (مارس) 2011، انفجرت خمسة مجتمعات عربية عبر اشتعال خمسة حرائق ما زالت مشتعلة بدرجات متفاوتة: تونس ومصر واليمن وليبيا وسورية. وبفعل الحريق السوري عاود العراق الاشتعال، وقد كان حريق «داعش البغدادي» عامي 2014 و2015 أقوى من حريق «قاعدة الزرقاوي» في فترة 2004 – 2006.

في حريق المنطقة الراهن ومواضعه المشتعلة، يلاحظ أن منتصرَي بغداد 9 نيسان 2003 هما الفاعلان الأكبران، ثم يأتي لاعبون آخرون. وقادت موصل 10 حزيران (يونيو) 2014 وسقوطها بيد «داعش» إلى تقارب إيراني- أميركي من جديد في بلاد الرافدين شبيه بما كان في 2003-2005، لكن طهران أصبحت عراقياً أضعف قياساً بفترة ما قبل الموصل. لذلك اضطرت للتخلي عن المالكي والتضحية به في آب (أغسطس) 2014. وعندما تشجعت طهران للرد على ضربة الموصل بضربة تعويضية في صنعاء عبر الحوثيين في 21 أيلول (سبتمبر) 2014، مستغلة التناقض السعودي مع التنظيم الإخواني (حزب التجمع اليمني للإصلاح) وهو الداعم الرئيسي للرئيس عبدربه منصور هادي، كان هذا إيذاناً بحريق يمني بدرجة اشتعال كبيرة قبل أن يتحول منذ 26 آذار إلى حريق بأبعاد دولية- إقليمية كبيرة.

عندما نتفحص آليات اشتعال الحرائق في منطقة الشرق الأوسط، نجد الآتي: يأتي هذا بفعل تداعيات نهوض قوة إقليمية في وجه قوة دولية مهيمنة على المنطقة أو بالتعاون معها أو بالتوازي. حصل هذا من طهران مع واشنطن في 2003-2005 ومن ثم ضدها. حصل هذا من جانب عبدالناصر ضد لندن، ومعها باريس، عامي 1955 و1956، عندها حصل استقطاب إقليمي: وقفت بغداد وأنقرة مع لندن، وتحالفت الأخيرة مع باريس وتل أبيب لتوجيه ضربة قاضية إلى الزعيم المصري.

كانت واشنطن وموسكو لهما مصلحة مشتركة في غروب شمس لندن وباريس عن السماء العليا للعلاقات الدولية، لذلك كان انتصار عبدالناصر في حرب 1956 بفضل البيت الأبيض والكرملين. وقاد صعود قوة عبدالناصر، منذ ما بعد السويس، إلى مد مصري في عموم المنطقة شبيه بالمد الإيراني في مرحلة (ما بعد بغداد 9 نيسان 2003، وأيضاً عبر حراك مشترك مع واشنطن رأيناه من البيت الأبيض أثناء أيام حرب السويس، وقد كانت معالمه بادية منذ 23 تموز (يوليو) 1952 تجاه السلطة المصرية الجديدة ضد لندن.

أيضاً البيت الأبيض بدأ التوجس بعد قليل من السويس، وخاصة بعدما تمدد عبد الناصر إلى دمشق وعمَان (حتى نيسان 1957) وإلى بيروت التي اشتعل حريقها في أيار (مايو) 1958، بعـد قلل مــن الوحدة المصرية – السورية، وإلى بغداد في 14 تموز 1958 حين سقط حكمها عبر ائتلاف سياسي- عسكري لشيوعيين وعروبيين.

في اتفاق أيلول 1958 الذي قاد إلى إطفاء الحريق اللبناني على أيدي القاهرة وواشنطن، بفعل مخاوفهما من صعود المد الشيوعي في بغداد، ومن ثم انتخاب اللواء فؤاد شهاب رئيساً للجمهورية اللبنانية، كان هناك بداية لتوافق إقليمي بين القوة الدولية العظمى والقوة الإقليمية العظمى أثمر جعل بيروت عاصمة مصرفية للشرق الأوسط، ولكن مع أن يكون السفير المصري عبد الحميد غالب «مثل المندوب الفرنسي السامي»، وفق تعبير العميد ريمون إده. وأثمر انقلاب 8 شباط (فبراير) 1963 بجهد أميركي- مصري قلب سلطة عبد الكريم قاسم المدعوم من الشيوعيين في بغداد. وقادت يمن ما بعد 26 أيلول (سبتمبر) 1962 والحرب الأهلية فيها وما ولدته من «حرب باردة عربية» على الأرض اليمنية إلى انكسار التقاربات المصرية – الأميركية وإلى اقترابات جديدة للقاهرة من موسكو منذ زيارة نيطيتا خروتشوف لمصر في أيار 1964 بعد خصام سوفياتي – مصري بدأ في صيف 1958، وإلى تقارب واشنطن وتل أبيب منذ زيارة ليفي أشكول لواشنطن في شباط (فبراير) 1964، وهو ولّد سحباً متجمعة قادت إلى ضرب أميركي من خلال الوكيل الإسرائيلي للقوة الإقليمية العظمى عبر حرب حزيران (يونيو) 1967 التي كانت أيضاً هزيمة لموسكو على واشنطن التي كانت تتوجع في فيتنام.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى