أحمد باشاصفحات الثقافة

محمد المفتي: لوحات هزمت الواقع السوري/ أحمد باشا

مع ازدياد الخراب، لحظة تلو الأخرى، تتعالى أصوات عديدة، نستطيع أن نميز منها ” الرعب، الهلع، الموت البطيئ”، لكن الصور المنفلتة من الذكرة، تحاول أن تجمع بعضها البعض، أن تحكي عن جمالها قبل موتها بقليل. إنه ليس بالنشيد الجنائزي، بل إنها مجموعة صور تأبى النزوح من الذاكرة. بين زمنين، تحاول أن تجد لنفسها علاقة جديدة مع اللون، أحد الألوان يصارع الآخر، ليفرض زمنه. اللون الأول هو لون دمشقي، باهر، قادم من الذاكرة. أما الثاني يتصف بالخفوت، بالرهبة، لا يُخفي اشتقاقه من الخراب الذي يحل بعاصمة الأمويين، يوماً بعد الآخر. ألوان تتصارع، وضوء يحلم باكتساح العتمة داخل اللوحة، بل أكثر من ذلك، تجده يحاول جاهداً، أن يبحث عن ثغرة ما بين إطارات اللوحة، محاولاً الهروب منها إلى الواقع، ليفرض زمناً جديداً، زمن الحلم، أو زمن الثورة السورية.

هكذا، ينتصر الضوء دائماً في لوحات الفنان السوري محمد المفتي، اللوحات التي تحكي عن الثورة السورية، أو بالأحرى، إنها مجموعة مشاهد وصور سينمائية، نزحت من الواقع السوري. في إحدى لوحات المفتي تجد أن جدران البيوت الدمشقية، وحواريها، ليست منفصلة أبداً، عن السجون المقفرة “كما في لوحة في أخرى للمفتي”. إذاً، اللوحة هي مشهد أخر، من حكاية لاتنتهي، لذلك، ينبغي على الرائي، أن يجمع بين فصولها، أي أعمال المفتي، ليدرك حقيقتها كاملة (30شهر من الثورة). كل ذلك، أملاً بأن يسترق المشاهد من خلف قضبان سجنه، النظر قليلاً، ليشاهد تفاصيل لوحة حالمة، أكثرمايجمع بينها وبين الراهن السوري، هو الاحتفاء بأسباب الحياة.

يشتغل المفتي في لوحاته على المفردات البصرية للشارع السوري، فيزج بعضاً منها ضمن اللوحة، فتبدو اللوحة قطعة هيستيرية، منفصمة عن الواقع. كأن تتوسط اللوحة نعوات لأشخاص مجهولين، أو تحتل عبارة “أوقفوا القتل” جداراً ما، أقل مايقال عن هذا الجدار، إنه شديد القسوة. عناصر أخرى تحمل قتامة الاستبداد وأثره على البنى النفسية المجتمعية، عمل المفتي على جمعها في معرضه الأخير”مشاهد من ثورة، مستمرة” في بيروت مؤخراً.

قبل إقامته في بيروت، اشتغل المفتي في مرسمه الصغير بدمشق، فأنجز أعمالاً تتقاطع مع مايحدث خارج مرسمه. فالخراب الحاصل في المكان داخل أعماله، يترك أثره على الجسد البشري. للسبب نفسه، كانت لوحاته تشغل مساحات كبيرة من صفحات التواصل الاجتماعي، يتبادلها السوريون، يضعونها كصورة شخصية، مضمرين قولاً واضحاً: “كم نشبه هذا الخراب!”. والحال لا يختلف كثيراً اليوم، فغزت لوحات المفتي صفحات الموقع الأزرق بعيد واحدة من أكبر المجازر التي عرفها التاريخ الحديث. والآن، تزامناً مع الترقب للضربة الأميركية المحتملة على نظام ، تبدو رقصة المولوية تواصلاً مع الأعلى، حيث السوريون ينظرون إلى الأرواح التي رفعت فوق سماء دمشق سماءً جديدة (كما في أحد أعمال المفتي) .

الذاكرة عند محمد هي التي تشكل العالم، وإن كان العكس صحيحاً في اشتغاله على العناصر البصرية، فإن العودة إلى دمشق(عنوان إحدى لوحاته) يسحقها المجهول تماماً، ليترائى الأفق بصورة ضبابية، وكأن العيون العائدة، ذاهبة نحو الغرق ، لا محالة. في لوحة العودة تقع سورية خلف الأفق، في المجهول تماماً. في سورية أيضاً، تنتظرك وجوه مهزومة، كائنات هشة، اتعبتها الحرب، فاستندت على الجدران القاسية، لتموت ببطئ شديد. إلا أن اليقين الوحيد، أن الضوء الذي تسلل خلسة، قادماً من الحلم، فتح أبواب السجون مصراعيها، فكُسِرت العتمة، إلى الأبد.

أورينت نت

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى