مراجعات كتب

محمد نور الدين في «تركيا القلقة»: توجه أردوغان الإسلامي سعى إلى ضبط دور الجيش وانقلاباته ومواجهة الانفصاليين/ سمير ناصيف

 

 

الكاتب اللبناني محمد نور الدين، واحدٌ من أبرز اختصاصيي الشؤون التركية في لبنان ومنطقة الشرق الأوسط، وله مؤلفات بارزة في المجال. وهو يتحدث عن هذا الموضوع في ندوات تلفزيونية ويحاضر في مؤسسات أكاديمية ومنابر عامة كلما حدثت تطورات هامة في تركيا.

كتابه الأخير بعنوان «تركيا القلقة: في الحداثة والكيان والعلاقة بين الجماعات» يتناول خصوصاً السياسة الخارجية لتركيا في ظل قيادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان ورئاسته للبلد ولـ «حزب العدالة والتنمية»، حزب الأكثرية الحاكمة هناك، وعلاقة السياستين الخارجية والداخلية في تركيا.

يشمل الكتاب عرضاً مفصلاً لدور حزب أردوغان كنموذج للحداثة والإسلام ولجمع الديمقراطية مع التوجه الإسلامي سياسياً بعد خمس عشرة سنة من الحكم، ويتناول المراحل المختلفة التي مر بها «حزب العدالة والتنمية» منذ تسلمه السلطة عام 2002 وحتى الساعة.

في الفصول الأولى، يتحدث نور الدين عن تركيا بعد الحرب العالمية الأولى والطريقة التي تم فيها رسم حدودها بعد سقوط الدولة العثمانية وبعد صعود القائد العلماني التوجه مصطفى كمال اتاتورك إلى السلطة وفرضِهِ سياسات جديدة على البلد منذ عام 1923 وحتى التحولات الجذرية في هذه السياسات في مطلع الألفية الثانية عندما أصبحت السلطة بيد «حزب العدالة والتنمية».

يعتبر المؤلف ان أردوغان اعتمد سياسة خارجية في المنطقة والعالم مختلفة عن سياسة اتاتورك «العلمانية» بالإضافة إلى تطويره الكثير من التوجهات التي ارتكزت عليها الأنظمة التركية السابقة.

وفي رأيه في خلاصة الكتاب، ان العلمانيين بقيادة اتاتورك ومن تبعه من معتنقي سياساته لم يطبقوا علمانية حقيقية، كما ان الإسلاميين بقيادة أردوغان و»حزب العدالة والتنمية» لم يريدوا أصلاً أي نوع من العلمانية الاقصائية في تركيا. وما تم التوصل إليه في الفترة الأردوغانية الحالية هي دولة حديثة دينية التوجه يقودها رئيس أصبح المقرر الرئيسي لشتى الأمور، وقد فعل ذلك تدريجيا. وبالتالي، اقترب في نموذج حكمه (إلى حدٍ ما) من نموذج الدولة العثمانية. كما انه نجح (تدريجيا أيضاً) في ضبط وتقليص دور السلطة العسكرية التي هيمنت على السلطة السياسية في تركيا منذ منتصف القرن الماضي وخصوصا منذ عام 1970.

يشير نور الدين إلى ان دوافع تدخل أردوغان في سياسات الدول المجاورة لتركيا تعود إلى عاملين أساسيين له ولنظامه، أولهما منع نشوء دولة كردية في جنوبي وشرقي البلاد قد تتوحد في إقليم واحد مع أكراد العراق وسوريا وتهدد المصالح النفطية والسياسية للسلطة المركزية التركية وثانيا، منع هيمنة الدول التي استعمرت منطقة الشرق الأوسط وقسّمتهُ حسب مصالحها (خصوصا بعد الحرب العالمية الأولى) من إعادة تقسيمه حالياً بشكل يهدد مصالح تركيا، أي عبر انشاء كيانات طائفية واثنية (على شاكلة الكيان الكردي المستقل) في سوريا والعراق ولبنان تصبً في النهاية في مصلحة الكيان الصهيوني في إسرائيل والدول الاستعمارية سابقاً الساعية لتحقيق مصالحها أولاً.

في الصفحة (58) يوُرد نور الدين قولا لأردوغان انه لو نجح انقلاب 15 تموز (يوليو) 2016 في تركيا لأعادَ الاستعمار الأجنبي البلد إلى «اتفاقية سيفر» التي وُقّعت عام 1920 ولأعاد معها المصاعب التي وقعت على كاهل تركيا آنذاك. وبالتالي، يربط هذا الأمر بتدخل تركيا في الشؤون السورية لمنع حدوث مثل هذه التطورات.

في الفصل الثالث (ص 105 ـ 107) يشير الكاتب إلى ان «اتفاقية سيفر» (1920) منحت الأكراد حق الحكم الذاتي في شرقي نهر الفرات وحتى حدود سوريا مع تركيا وإلى جنوب الحدود الجنوبية لأرمينيا. ولم تتم المصادقة على هذه الاتفاقية بسبب خشية بعض الدول الاستعمارية على مصالحها النفطية في تلك المنطقة.

وبعد تأسيس الجمهورية التركية عام 1923 يقول نور الدين، أعيد توزيع الأكراد على دول في المنطقة في معاهدة لوزان (تموز/يوليو 1923) التي لم تشر إلى الأقليات الاثنية، بل إلى الأقليات الدينية مما أغضب الأكراد من سياسات اتاتورك.

أما عن نشوء «حزب العمال الكردستاني»، خصم أردوغان الرئيسي، فيقول الكاتب ان هذا الحزب نشأ في عام 1978 بعد انخراط الشباب الأكراد اليساري التوجه فيه لصعوبة انتسابهم إلى أحزاب أخرى، وان مؤسسه ورئيسه عبد الله اوجلان (المعتقل حاليا في تركيا) لجأ وحزبه إلى سوريا حتى عام 1998 ما ولد أزمات في العلاقة السورية ـ التركية إلى أن أخرجه الرئيس السوري السابق حافظ الأسد من سوريا عام 1998 واعتُقلَ لاحقا في كينيا بعد تعاون استخباراتي إسرائيلي ـ أمريكي ـ تركي ـ كيني.

وبعد تصاعد شعبية الأحزاب الكردية التركية وتوصلها إلى نيل المقاعد في البرلمان التركي، قبل فترة تسليم أردوغان وبعدها، تنوعت سياسات «حزب العدالة والتنمية» إزاء هذه الأحزاب الكردية التوجه فانفتح أردوغان تجاهها (إلى حد ما) في عام 2005، ولكنه تراجع عندما نالت هذه الأحزاب المؤيدة للقضية الكردية نسبة أكثر من عشرة في المئة في الانتخابات الرئاسية عام 2011، وبعد ذلك حصل «حزب الشعوب الديمقراطي» الكردي التوجه والانتساب نسبة اتاحت له تمثيلاً أكبر في البرلمان (80 نائباً ثم 60 نائباً) فاصبح أردوغان أكثر حذراً من نفوذه، وأجرى إصلاحات دستورية تناسب تمسكه وتمسك حزبه بشؤون البلد (انتخابات رئاسية من الشعب مباشرة، وصعوبة اسقاط الرئيس من السلطة ديمقراطياً أو عبر تدخل الجيش) كما أزاح الرئيس التركي بعض كبار حلفائه من القياديين في «حزب العدالة والتنمية» وواضعي برنامجه السياسي أو قلص أدوارهم، واعتبر ان تدخله في سوريا يساهم في قدرته على مواجهة أي جهات دولية أو إقليمية ترغب بفرض نفسها على السلطة التركية عن طريق دعم الأكراد وتقويتهم سياسيا وعسكريا لمساعدتهم في تحقيق الانفصال عن تركيا أو التدخل في شؤونها الداخلية.

وحسب الفصل الثاني بعنوان «وضع المسيحيين في تركيا»، يعتبر المؤلف ان سياسة «التتريك» التي خطها اتاتورك والسياسيون الذين اعتمدوا منهجه السياسي كانت تشمل أيضا تطهير تركيا من نفوذ المسيحيين واليهود والارمن واليونانيين في المجالين الاقتصادي والسياسي، فيما كان توجه أردوغان مختلفاً عن هذه العلمنة المتشددة والاقصائية الدوافع، إذ كان أقرب إلى توجه الدولة العثمانية التي كانت تعترف بأدوار الملل الدينية وحقوقها إلى درجة أكبر في ظل «تنظيماتها» حتى مطلع القرن الماضي. فقد فرض نظام اتاتورك (حسب المؤلف) ضرائب باهظة على التجار المسيحيين واعتقل من لا يدفع منهم، فيما يتواجد حالياً عددٌ وافر من التجار والصناعيين غير المسلمين يعملون بنجاح في تركيا تحت قيادة «حزب العدالة والتنمية» وتصاعد دورهم خصوصا في الفترة التي حاول فيها أردوغان إدخال بلاده في المجموعة الأوروبية والاتحاد الأوروبي.

ويفسر الكاتب انفتاح تركيا على اليهود والأقليات الدينية في فترة قيادة طانسو تشيلر في عام 1995، وبعدها، بأنها كانت لاقناع أمريكا والكونغرس بعدم الاعتراف بإبادة تركيا الأرمن في مطلع القرن الماضي. وفي الذكرى المئوية لهذه الإبادة (أي في عام 2015) فتحت تركيا بقيادة «حزب العدالة والتنمية» الباب لانتخاب نواب مسيحيين وأرمن في البرلمان التركي (ص 88). غير ان الأزمة بين الأتراك واليونانيين في جزيرة قبرص، التي انطلقت في منتصف خمسينيات القرن الماضي وتفاقمت في عام 1974 بعد انقلاب نفذه القبارصة اليونانيون وحصل على اثره الغزو التركي للجزء الشمالي من الجزيرة، دفعت إلى هجرة عدد كبير من غير المسلمين وخصوصا من أصول يونانية من تركيا. وحسب الكاتب، ما زالت سياسة التمييز ضد الأقليات مستمرة إلى حد ما في تركيا لدى بعض الأحزاب المتشددة قومياً ولدى بعض فئات الشعب التي لم تتجاوز تطرفها الإثني. وهذا يدفع الجميع لأخذ مواقفها في الاعتبار بما في ذلك أردوغان وحزبه.

علمنة اتاتورك، حسب ما يشير إليه الكاتب في الفصل الأخير من كتابه، لم تكن بالفعل تدعو لفصل الدين عن الدولة بقدر ما كانت تفرض إشرافاً للدولة على الشؤون الدينية، وعدم تركها للطوائف ومجالس المذاهب. وينتمي معظم المسلمين السنّة في تركيا (حسب قوله) إلى المذهب الحنفي، وهو أكثر المذاهب انفتاحاً بين المذاهب السنيّة المسلمة، وقد عمل اتاتورك ومن بعده أردوغان، بنظر نور الدين على تعزيز هذا المذهب ولكن كلاً منهما على طريقته.

وفي انتقاد الكاتب لبعض سياسات أردوغان الداخلية يقول في الصفحة (231) من الكتاب انه بعد الفوز في كل انتخابات اشتراعية كان أردوغان يُعزز سلطته على حساب الجهات التركية الأخرى. وبلغت ذروة هذا التوجه بتعديل الدستور في نيسان (ابريل) 2017 لمنح الرئيس صلاحيات إضافية بعد تقدمه بنسبة ضئيلة في استفتاء شعبي آنذاك مما يتيح له البقاء رئيسا حتى عام 2032.

ويرى نور الدين ان «حزب العدالة والتنمية» بقيادة أردوغان لم يعزز الديمقراطية بشكلها الموجود في الدولة الأوروبية والغربية، ولكنه لم يستخدم الإسلام لنشر التعصب، كما في بعض البلدان والمجموعات التي تعتبر نفسها إسلامية، بيد أنه نجح في استخدام التوجه الإسلامي لحزبه ولنظامه لإبعاد الجيش عن السلطة السياسية ونجح في ذلك، بعد أن بالغَ الجيش بالقيام بانقلابٍ تلو الآخر لتنفيذ مصالح خارجية، في كثير من الأحيان.

محمد نور الدين: «تركيا القلقة: في الحداثة والكيان والعلاقات بين الجماعات»

دار رياض الريّس للنشر، بيروت 2017

255 صفحة.

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى