صفحات الثقافةمازن أكثم سليمان

محمود السَّيِّد: سؤال الوجود الحضاري/ د. مازن اكثم سليمان

 

تشبه الثورات والحروب في جانبٍ منها اليد التي تنتزع بعنف مخيف صاعق تفجير جميع الأسئلة الكيانيّة التي كانت مرجأة أو مسكوتًا عنها أو غير مُفكَّر فيها! ويتعزَّز حضور هذه الأسئلة على المستوى الثقافي بوصفها انفتاحًا لجُملة تداعيات فكرية ومُحاكَمات قديمة وطروحات باتَ من الصعب الالتفاف عليها أكثر في ظل الطغيان التاريخيّ الرّاهن للحدَث الوقائعيّ وتعقيداته الهائلة.

يُوصَف الشاعر الرّاحل محمود السيد (1935-2010) بمُتصوِّف الشعر السوري الحديث، وهذه الصّفة لا تنبع فقط من سمات مشروعه الكتابيّ فحسب، إنّما يُمكن تلمُّسَها كذلك في طريقة حياته اللّيليّة التي صبغَتْ علاقته الوجودية مع دمشق.

ويبدو أنَّ حضور محمود السيد في هذه الآونة، واقتحامه لذاكرتنا الشعرية والوطنية مرتبط شاقوليًا بخصوصيته الشعرية الجمالية، ليس على مستوى المساحة الشعرية السورية فقط، ولكن على امتداد العالم العربي، ولا سيما بفعل ذلك الخيط الشفيف والعميق الذي يربط بين مشروعه الكتابيّ، وما ينطوي عليه الربيع العربي من أدبيات ومقولات وأحلام، تغري بمُحاوَرة سؤال الكينونة والحضارة كما ظهر عند السيد، ولا سيما في قصيدته الأشهر: “مُونادا دمشق”، والتي ظهرَتْ في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، ويمكن وصفها بأنّها قصيدة مفصلية في تاريخ الحداثة الشعرية العربية لأسباب متعدِّدة، منها أنّها قبلَ كُلّ شيء قد رسمَتْ لمحمود السيد خصوصيّته الفنّية والجَمالية النادرة.

إذا كان المُونادا يعني فلسفيًا الوَحدة أو الواحد المنطوي على البساطة وعدم إمكانيّة الانقسام، واكتسبَ هذا المصطلح في الفلسفة الحديثة دلالة الوَحدات النِّهائيّة التي تشكِّل وجودًا كُلّيًا، فإنَّ ما كان يعني محمود السيد في قصيدته المَلحمية “مُونادا دمشق” هو خلق وجود جمالي مُغاير لا مُعادل للوجود الوقائعي، وذلك عبر الاهتمام بالذات الشعرية الافتراضيّة التي تلفظ إلى حدود بعيدة المُسَبَّقات اليومية المعيشة باتجاه تخليق عالم يوتوبيّ يفتِّتُ تفتيتًا غير مُباشَر مركزيّة تلك المُسَبَّقات بوصفها ليستْ سوى حُجُبًا إيديولوجية تعيق بلوغ الكينونة الحضارية المُشتهاة وغير القابلة للتجزئة.

إنَّ قصيدة “مُونادا دمشق” إذ تبدو كأنّها انشطار قائم في لحظة المُطلَق المُتخفِّفة من الحاجة إلى النموّ الخطي الزمني التقليدي، تدفعُ المتأمِّلَ إلى القول إنّها كُلّها قد انفتَحَتْ في ذروة توتُّر غنائيّ ووجوديّ، ذلكَ أنَّ الشاعر يتّكئ في هذه الذروة على دمشق المكان والرمز الكياني والحضاري لتوليد عالم مجازي مُنزاح بجسارة عبر انبساطه على حامل جنسي، فالجنس في هذه القصيدة ليس سوى غنائية إعادة التكوين الملحمية لقصة الخلق لا الكونية بالمعنى الفيزيائي، ولا الإنسانية بالمعنى البيولوجي؛ إنّما الحضارية. فمحمود السيد يلجأ في قصيدته هذه إلى ممارسة فعل ظاهراتي واضح يضَعُ فيه كُلّ جانب تفصيلي أو وقائعي اجتماعي وسياسي ومعيشي بين أقواس، ليُظهِرَ فقط كُلّ ما يتشظّى عبر العلاقة العشقيّة التي تمثِّلُ حاملًا رمزيًا ودلاليًا للولادة الجمعية الكيانية الجديدة.

في “مُونادا دمشق” تنبسط كينونة الوجود الحضاري لدمشق (الوطن-الوجود الكلّي) عاريةً وحُرّة ومُنشِئةً قطيعةً شبه كاملة مع المُسَبَّقات والإيديولوجيات والقيود الماضويّة والتراكُمات التاريخيّة البالية، ليحضرَ تاريخ كُلّي مُطلَق وسابق لعصره -على العكس من المُناخ الإيديولوجيّ الذي كان سائدًا في ذلك الوقت- بما هو تاريخ مرتبط فقط باستنطاق لحظة الانبعاث الحضارية والخلق الحيوي الكياني المُتجاوز للسلطات ذات الخطابات المُتخلِّفة، وذلك بعيدًا بلا شك عن طغيان الموروثات الهُوِيّاتيّة وتشعُّبات سجون الجغرافيا.

لعلَّ قصيدة “مُونادا دمشق” بما هي نصٌّ فريد ومفتاحي في مرحلتها، تمثِّلُ الآن أحد العوالم الوجودية الشعرية التي تفتح لنا الباب على مصراعيه لحوارات ثرّة عن مفاهيم ما زالت تنتظر إعادة التعيين كالوطن والمواطنة والهُوِيّة والحب والجنس والكينونة. إنّها نصٌّ يُقيم في الحُرّية ويتوالد بالحُرّيّة نفسَها، ذلك أنَّهُ يأتي في كُلِّ مساراته على أجنحة مجازيّة مُستقبليّة لا تقبل المُساوَمة أبدًا على حلم الوجود الحضاري الذي يُمكِنُ تأويله في حقبة الربيع العربي وتداعياته الرّاهنة بوصفه حلمًا سوريًا أو عربيًا بالتَّجذُّر الخلّاق في العصر عبر بناء دول وطنية عادلة وحديثة.

أنهي هذه القراءة بما يختتم به محمود السيد نفسه قصيدته، حيث قال: “باسمكِ نخلَعُ كُلَّ ما لم يكُنْ مذ الولادة،/ وندخلُ، هكذا/ مع البنفسج والقبَّرات موجتكِ المُستلقية/ كراعٍ على شاطئ الرّوح/ باسمكِ نتجرَّأُ على الوجد والدَّم، وتقولينَ/ يا صباحَ الطَّهارة:/ أنَّ الجسدَ سُلّم،/ والدَّم جناح،/ ودمشق سقف الحُبّ..”.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى