صبحي حديديصفحات الثقافة

محمود درويش قصيدة الحبّ والنداء الملحميّ


صبحي حديدي

في سنة 1999 صدرت مجموعة محمود درويش ‘سرير الغريبة’، المكرّسة بأكملها لموضوعة قصيدة الحبّ، والمنتمية بقوّة إلى مرحلة التفات درويش إلى شؤون نفسه كشاعر وإنسان، وإلى شؤون الفلسطيني بعد أن غادر مرحلة ‘البطولة’، أياً كانت مضامينها الفعلية أو المجازية، الملموسة أو الرمزية، الواقعية أو المتخيَّلة، المحلية أو العربية أو الكونية… وانتقل، ببساطة، إلى مرحلة اليوميّ والعاديّ، في ظلّ الاحتلال والمؤسسة الوطنية، سواء بسواء.

ولقد كان طبيعياً أن تثير تلك المجموعة سلسلة من الأسئلة، الطارئة أو القديمة المتجددة، في ضوء مغزى استقرار درويش على قصيدة الحبّ، في ذلك الطور من تجربته الشعرية المحتدمة بالتجدّد الدائب.فهل كان من حقّ دريش (وهو ‘شاعر المقاومة’ و’شاعر القضية’ و’ضمير فلسطين’ و’مجنون التراب’ و’عاشق الأرض’ كما تقول العناوين الكبرى التي دأب النقد العربي على تمثيله فيها واختزاله إليها، وحدها، حصراً في معظم الأحيان)، أن يصدر مجموعة شعرية مكرّسة، بأسرها، لقصيدة الحبّ؟ هكذا… قصيدة عشق طليقة، منسرحة، متخففة إلا من أثقال القلب، لا تنتصب فيها بندقية بين ريتا وعيونه(1)، ولا يكون فيها عاشقاً لحبيبة واحدة وحيدة هي الأرض؟ وهل يطيق رويش قول الكلمة الطبيعية: ‘أحبّكِ’، دون أن يردف بعدها مباشرة:

على الماء وجهكِ،

ظلّ المساء

يخاصم ظلّي

وتمنعني من محاذاة هذا المساء

نوافذ أهلي.

متى يذبل الورد في الذاكرة؟

متى يفرح الغرباء؟

لكي أصف اللحظة العائمة

على الماء ــ

أسطورة أو سماء..(2)

إجابة أولى طبيعية يمكن أن تقول: نعم! باردة جازمة مطلقة، دونما وقبل الحاجة إلى تأتأة أو أدلجة أو تفلسف حول حقوق وواجبات هذه الـ’نعم’. فمن البديهي أن يعشق درويش كما يعشق أبناء آدم وحوّاء، وأن يكتب قصيدة حبّ خالصة لامرأة من بنات آدم وحوّاء، وأن تكون حبيبته هذه من لحم ودمّ وليست مجازاً عن فلسطين أو الأرض أو القضية. بيد أن هذه الـ’نعم’ الطبيعية ليست بسيطة أو قابلة لنوع من التبسيط الذي يقترن عادة بتثبيت بداهة جليّة، يسهل التسليم بها لأنها في الأساس مشبَعة بمنطقها الطبيعي الخاصّ الذي لا يحتاج إلى مرجعية منطقية.

المسألة، في الواقع، أكثر تعقيداً من هذا التمرين الأوّلي في إحكام البداهة حول حقوق شاعر يحظى بالكثير من الإجماع على البداهة. ذلك لأنّها لا تدور حول الموقف من هذا ‘الغرض’ الشعري مقابل ذاك، أو حول واجب الشاعر هنا وحقّه هناك، بل حول الغرض بوصفه انتقاصاً من ‘واجب’ الشاعر إذا صحّت العبارة، وحول ‘حقّ’ الجماهير في المطالبة بالأغراض الأثيرة لديها، وربما واجبها (!) في الدفاع عن موقع فريد منحته لدرويش، وشغله ويشغله في الوجدان العربي العريض. إنه صوت فلسطين (فردوس العرب الضائع)، وعاشق أرضها (المقدّسة، وطنياً ودينياً)، والمقاوِم الفلسطيني (بوصفه نقيض المهزوم العربي)، والرمز المتحرّك أنّى كان وأنّى يكون (في يافا، في القاهرة، في بيروت، في باريس، أو في رام الله). وإنه قيثارة فلسطين التي تداوي حتى حين تجرح، وتشجي حتى حين تدمي، وتشحذ قوّة الروح حتى حين تقف على اندحار الروح، وتبدو واضحة حتى حين تَغْمُض، ومتفائلة حتى حين تتشاءم، ورامزة إلى الجماعة حتى حين تصرّح عن الفرد…

بيد أنّ درويش هو الشاعر في ذلك كلّه: المعلّم، الماهر، المحبوب، المنتظَر، المعشوق… وهو، في الآن ذاته، الشاعر الممنوع من أن يكون شاعراً أوّلاً، الشاعر tout court كما يعبّر الفرنسيون، الذي قد يحلو له أن يغادر أدوار ‘شاعر المقاومة’ و’شاعر القضية’ و’ضمير فلسطين’ و’مجنون التراب’ و’عاشق الأرض’ لهذا السبب الذاتي أو لذاك السبب الموضوعي، أو’لحصيلة معقدة من الأسباب التي ليست بالذاتية ولا بالموضوعية، أو دونما أسباب على الإطلاق. إنه شاعر كبير معلّم، ولكنه كان ملزَماً بأن يكون أكثر بكثير من شاعر كبير معلّم. إنه، من جانب أوّل، الشاعر الذي رأى ونبّه وجمع ووحّد (حين كان آخرون في صمت، أو خدر، أو فُرقة)؛ وهو، من جانب ثانٍ، الشاعر الذي كتب قصيدة تحفظ كرامة الشعر (في مقابل نكوص معظم الشعر، واعتلال علاقته بالناس). إنه،’ببساطة، ذاك الذي كان ممنوعاً من الإنفكاك عن نفوذه المعنوي (الأدبي والسياسي والجمالي)، وممنوعاً من الإعتذار عن ممارسة هذا النفوذ أيضاً!

ومرّة أخرى نتذكّر أنّ نفوذ هذا الموقع الفريد هو من طينة ذلك النفوذ الخاص الذي تمتّع به كبار الشعراء في الأطوار السحيقة من ازدهار الشعر، حين كان الشاعر أشبه بنبيّ الأمّة، والناطق المعبّر عن كيانها، وعرّافها الذي يستبصر أقدارها الماضية والحاضرة، وتلك’الكامنة في مجهول لا يرى معلومه سواه، في السموّ والإنتصار كما في الإنكسار والهزيمة. وفي ثقافات الأمم تكررت على الدوام تلك البرهة الاستثنائية التي تُلقى فيها على عاتق شاعر واحد مهمّة رؤيوية كبرى مثل التقاط الوجدان الجَمْعي للأمّة، وتحويل الشعر إلى قوّة وطنية وثقافية، روحية ومادية، جمالية ومعرفية.

ولقد توفّرت لدرويش أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أنّ التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب كان في صالح مشروعه الشعري، كما حدث في أحيان أخرى أنّ ضغط الشروط الموضوعية ألزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصفّ الثاني، والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصفّ الأوْل. ولكنه في الحالتين أثبت حساسية فائقة (وعناداً استحقّ التصفيق الحارّ، والتضامن!) تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خصوصاً في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرّت كثيراً معادلاتٌ أشدّ هدوءاً للعلاقة التبادلية بين تطوير جمالياته الشعرية وتطوّر نفوذه الأخلاقي والثقافي في الوجدان العربي.

ومنذ الأشهر الأولى بعد خروجه من الأرض المحتلة إلى العالم العربي، حين أخذت سلطته الأدبية تتعاظم وتترسخ، تنبّه درويش إلى إشكالية موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمّة، وأدرك أن سبيله الأفضل للسير في هذه العلاقة الوعرة مع جمهوره ليس أيّ خيار آخر سوى الإنشقاق عن أعراف العلاقة ذاتها كلما توجّب الأمر، بل ومغادرة أرضها كلما ضاقت وضيّقت فضاء مشروعه الشعري. وكان ذلك يقتضي، أوّلاً، تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن للشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، وأن لا تنقلب العلاقة إلى تعاقد سكوني نصف إيديولوجي/ نصف شعبوي، بين الشاعر الذي تمّت ترقيته إلى مصاف الرائد الرائي، والوجدان الجمعي الذي أسلم للشاعر قسطاً كبيراً من الحقّ في تكييف الميول وردود الأفعال.

ولم تكن تلك ‘الحرب’ الصامتة سهلة أبداً!

وكما هو معروف، حدث مراراً أن الجمهور كان يطالب درويش بقراءة قصيدة ‘بطاقة هوية'(3)، التي كتبها داخل الأرض المحتلة وظلت طيلة عقد كامل أشبه بالتعويذة السحرية التي تشعل الحماس والفخار الوطني. ولكنه بدل الاستجابة إلى هذا الإلحاح (الذي يظلّ شرعياً في الواقع)، كان درويش يتعمد قراءة قصائده الجديدة، التي كانت تبدو للوهلة الأولى مستجدة على صورة الشاعر النبيّ، وصادمة بمعنى غرابتها عن صورته في أذهان جمهوره. وكانت في معظم الأحيان تلوح صعبة على الذائقة الراهنة، لأنّ قارىء درويش كان مدمناً على النصّ الدرويشي الذي بين يديه، مؤمناً به ومستمتعاً وسعيداً، إلى درجة الخشية من الانتقال إلى سواه من النصوص الجديدة. والمفارقة أنّ درويش (إلى جانب موهبته الرفيعة، وطاقته الهائلة على التجدّد، وذكاء إدراكه لطبيعة دوره في المشهد الشعري العربي، وحيوية ممارسته لهذا الدور، وعناده الشخصي، وإصراره على تطوير برنامجه الجمالي…)، حظي بمساعدة كريمة من القارىء ذاته، لسبب مدهش هو أنّ ذلك القارىء كان في الآن ذاته رفيع الاستجابة، متأهبّاً على حذر، لا يتردد طويلاً قبل أن ينخرط في الطور الجديد من مسار درويش الشعري.

ولقد تبدّى هذا الوضع في القصائد الملحمية الطويلة بصفة خاصة، حيث كانت هذه تكتسب بُعداً أيقونياً يسري على القصيدة التي بين يديّ القارىء، والقصيدة (ذاتها) وهي تمهّد لخيارات شعرية قادمة، تبشّر بها قصيدة جديدة. فعلى سبيل المثال، اكتسبت قصيدة ‘سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا’ (1972) وظيفتها الأيقونية في شخص سرحان بشارة سرحان قاتل روبرت كنيدي، واستقرّت هكذا في الذائقة. وحين كتب درويش قصيدة ‘أحمد الزعتر’ (1977)، ظلّت هذه تتماهى في وعي القارىء مع ‘سرحان…’، قبل أن تكتسب وظيفتها بدورها، وتتحوّل إلى أيقونة بالنسبة إلى ‘مديح الظل العالي’ (1983)، وهذه بالنسبة إلى ‘قصيدة بيروت’ (1983)، وهكذا… وصولاً إلى ‘أحد عشر كوكباً على آخر المشهد الأندلسي’ (1992)، التي استكملت فصلاً جديداً ودراماتيكياً في مسار الشاعر النبي لأنها ـ ببساطة صاعقة ـ تنبأت بالمنعطف الأخطر ربما في التاريخ الفلسطيني المعاصر، أي اتفاقية أوسلو.

القصائد الأخرى، حيث لا تضغط البرهة الوطنية على البرهة الجمالية في مشروع الشاعر، توفّرت على الدوام، وأكثر بكثير من القصائد الأيقونية: ‘مزامير’ و’تقاسيم على الماء’ (1972)، معظم قصائد مجموعة ‘محاولة رقم 7′(1973)، ‘تلك صورتها وهذا انتحار العاشق'(1975)، ‘كان ما سوف يكون’، ‘قصيدة الأرض'(1977)، ‘سنة أخرى… فقط’ (1983)… بعد ذلك أخذت المجموعات المستقلّة تلعب الأدوار التي كانت تلعبها القصائد المستقلّة في تطوير البرنامج الجمالي، عبر نقلات نوعيّة أسلوبية وموضوعاتية بين مجموعة وأخرى هذه المرّة، وليس عبر تغليب البرنامج الجمالي بين قصيدة أيقونية وسواها من القصائد. هكذا كان حال مجموعات ‘هي أغنية، هي أغنية'(1986)، ‘ورد أقلّ'(1986)، ‘أرى ما أريد'(1990)، ‘أحد عشر كوكباً’، و’لماذا تركت الحصان وحيداً’ (1995). وهذه الأخيرة دشّنت طوراً جديداً تماماً في مشروع درويش الشعري، لأنه هذه المرّة كرّس مجموعة بأسرها لموضوع محوري واحد هو كتابة السيرة، ولأنه أعطى فسحة سخيّة تماماً (لعلّها غير مسبوقة في شعره) لصعود الـ ‘أنا’، ‘أنا’ الفرد الشاعر في فسيفساء علاقتها بالذات والتاريخ والمكان والزمان، ووقوفها على قدم المساواة مع ــ أو تفوّقها أحياناً على ــ التمثيل الإنساني والوطني للذات الجَمْعية.

كان من حقّه أن يفعل.

وكان قد آن له أن يفعل!

II

روى الأصفهاني، صاحب ‘الأغاني’، الحكاية التالية: ‘قلت لرجل من بني عامر: أتعرف المجنون وتروي من شعره شيئاً؟ قال: أوقَدْ فرغنا من شعر العقلاء حتى نروي أشعار المجانين! إنهم لكثير! فقلت: ليس هؤلاء أعني، إنما أعني مجنون بني عامر الشاعر الذي قتله العشق. فقال: هيهات! بنو عامر أغلظ أكباداً من ذلك، إنما يكون هذا في هذه اليمانية الضعاف قلوبها، السخيفة عقولها… فأمّا نزار فلا’!

الفلسطينيون ليسوا أغلظ أكباداً بالطبع، ودرويش’لم يكن كذلك حتماً. لكن قصائد الحبّ في ‘سرير الغريبة'(4) ليست من النوع الذي يتبادر سريعاً إلى الذهن عند الحديث عن قصيدة ‘غزل’ أو ‘نسيب’ أو ‘تشبيب’ أو ‘حبّ’، ولا صلة تجمعها بتراث شعري عربيّ اختصر قدامة بن جعفر صفاته هكذا: ‘ما كثرت فيه الأدلة على التهالك في الصبابة، وتظاهرت فيه الشواهد على إفراط الوجد واللوعة، وما كان فيه من التصابي والرقّة أكثر مما يكون من الخشن والجلادة، ومن الخشوع والذلّة أكثر مما يكون فيه من الإباء والعزّ، وأن يكون جماع الأمر فيه ما ضادّ التحافظ والعزيمة، ووافق الإنحلال والرخاوة’. ليس في قصائد ‘سرير الغريبة’ صبابة أو وجد أو لوعة أو خشوع أو انحلال أو رخاوة، ولكن ليس فيها عكس هذه الصفات أيضاً: خشونة أو جلادة أو إباء أو عزّ أو تحافظ أو عزيمة. ولعلّ من الإنصاف القول إنّ معظم قصائد الحبّ التي كتبها درويش كانت مختلفة دائماً، ليس فقط لأنّ جمالياته ظلّت تواصل حال الاختلاف والتبدّل (وهذا هو السبب الفنّي والجوهري)؛ بل أيضاً لأنّ موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمّة ظلّ يمارس ضغوطات هائلة على أيّ وجميع القصائد التي لم تنضوِ مباشرة في الموضوعات الوطنية (وهذا هو السبب السوسيولوجي).

وباستثناء حفنة من قصائد الحب في مجموعة ‘عاشق من فلسطين’ (1966)، حيث الحبيبة ‘فلسطينية العينين والوشمِ/ فلسطينية الإسمِ/ فلسطينية الأحلام والهمّ/ فلسطينية المنديل والقدمين والجسمِ/ فلسطينية الكلمات والصمتِ/ فلسطينية الصوتِ/ فلسطينية الميلاد والموتِ’، فإنّ القصائد سارت عكس أعراف الغزل العربي، فكان السبق فيها لوطأة التاريخ قبل وطأة الوجدان، وكان فيها من النفي والغربة والغرباء أكثر مما فيها من الاستيطان والفَيءِ واللقاء. وليس بغير دلالة خاصّة أنّ درويش افتتح مجموعته الثانية ‘أوراق الزيتون’ (1964)، وهي الأولى في ترتيب أعماله الشعرية الكاملة لأنه حذف مجموعة ‘عصافير بلا أجنحة’ الصادرة في عكا سنة 1960، باعتذار من القارىء يقول: ‘بايعتُ أحزاني../ وصافحت التشرّد والسغب/ غضب يدي../ غضب فمي../ ودماء أوردتي عصير من غضب!/ يا قارئي!/ لا ترجُ منّي الهمس!/ لا ترجُ الطرب’. كذلك فإنّ أولى قصائد درويش في موضوعة ‘الغزل’، وهي التي يبدو فيها متأثّراً بالشاعر الراحل نزار قبّاني، قصيدة بعنوان ‘الموعد الأوّل’، تصف موعداً غرامياً لم يكتمل! ومبكّراً منذ هذه المجموعة، وتحديداً في القصيدة التي تحمل اسم ‘أجمل حبّ’ وتبدأ بالسطور الشهيرة: ‘كما ينبت العشب بين مفاصل صخره/ وُجدنا غريبين يوماً…’؛ تطلّ موضوعة الغريب والغريبة، وسوف تهيمن على تسعة أعشار قصائد الحبّ في نتاج درويش اللاحق.

آنذاك كانت قصيدة الحبّ تتطوّر ضمن المنطق الداخلي العريض لتطوّر مشروع’درويش الشعري، وكانت تساهم في صناعة الخصائص العريضة التي ستميّز شعره عن أقرانه (سميح القاسم، توفيق زيّاد، سالم جبران) صانعي ‘شعر المقاومة’: غزارة إنتاجه (أصدر في الداخل الفلسطيني خمس مجموعات شعرية بين 1960 و1971)، والأفق الإنساني الأرحب لموضوعات قصائده، وحُسْن توظيفه للأسطورة والرموز الحضارية، وبراعته في أسطَرة الحدث اليومي والإرتقاء به إلى مستوى ملحمي في الآن ذاته، ورهافة ترميزه للمرأة بالأرض، ومزجه بين الرومانسية الغنائية والتبشير الثوري، وسلاسة خياراته الموسيقية والإيقاعية، وحرارة قاموسه اللغوي، وميله إجمالاً إلى الصورة الحسية بدل الذهنية.

آنذاك أيضاً كانت قصيدة الحبّ أكثر من مجرّد ‘غرض’ شعري، لأنها في الواقع حملت عبء تمثيل الجانب الذاتيّ شبه الوحيد من المحتوى الإنساني لفعل المقاومة. وأمّا بعد خروج درويش من الأرض المحتلة فقد واصلت قصيدة الحبّ أداء هذا الدور التمثيلي، ولكنها من جانب ثانٍ وفّرت للشاعر هامشاً ثميناً لممارسة نوع آخر من المقاومة: المقاومة الجمالية في حروب الشدّ والجذب بينه وبين قارئه، بحيث تحوّلت قصيدة الحب إلى أوالية دفاع عن البرنامج الجمالي بين قصيدة أيقونية وأخرى. وليس بغير دلالة هامّة، هنا أيضاً، أنّ اسم أوّل مجموعة شعرية كتبها درويش خارج الأرض المحتلة كان ‘أحبّك، أو لا أحبّك’ (1972)، وأنّ هذه العبارة تفتتح قصيدة ‘مزامير’، وهي أوّل (وظلّت، عملياً: آخِر!) قصيدة جرّب فيها درويش المراوحة بين التفعيلة وقصيدة النثر، وأنّ القصيدة الأيقونية ‘سرحان يشرب القهوة في الكفاتيريا’ هي التي تختتم المجموعة.

هذه الأوالية الدفاعية تشمل عشرات قصائد الحبّ التي كتبها درويش بعدئذ: ‘كأنّي أحبك’، ‘النهر غريب وأنت حبيبي’، ‘بين حلمي وبين اسمه كان موتي بطيئاً’، ‘موت آخر.. وأحبك’ (من مجموعة ‘محاولة رقم 7’)؛ مروراً بالقصيدة الطويلة ‘تلك صورتها وهذا انتحار العاشق’ (1975)؛ وانتهاء بقصيدة ‘هيلين، يا له من مطر’ في مجموعة ‘لماذا تركتَ الحصان وحيداً’، التي خرجت عن عادات درويش الشعرية في أنّ قصائدها كُرّست لموضوعة واحدة هي كتابة السيرة. و’سرير الغريبة’ كانت المناسبة الثانية لخروج درويش عن عاداته، في أنّ قصائدها تناولت موضوعة واحدة هي قصيدة الحب.

لماذا هذا ‘الغرض’ الشعري بالذات؟ لماذا في تلك المرحلة الزمنية؟ وما الذي يجعل قصيدة الحبّ كما اقترحها درويش في هذه المجموعة حالة فريدة غير مسبوقة في تراث الغزل العربي القديم والحديث؟ قارىء قصائد المجموعة ليس بحاجة إلى مرجعية تأويلية تهديه سواء السبيل في الوصول إجابات شافية على هذه الأسئلة، والأرجح أنه لن يتعب كثيراً قبل أنّ تزوّده القصائد بإجابات كافية؛ بل إنّ القارىء في سياق عثوره على إجابات متعددة للسؤال الواحد سوف يكتشف أنه إنما يستولد أسئلة أخرى من وحي تلك الإجابات، الأمر الذي يعيدنا إلى مفارقة العلاقة الحيوية بين درويش وجمهوره.

من جانبي أميل إلى القول إنّ درويش لا يبدو كمَنْ قد قرّر كتابة قصيدة عشق طليقة منسرحة متخففة إلا من أثقال القلب، ولن نعثر في ‘سرير الغريبة’ على مصارع العشاق وأطوار العشق كما ألفناها، وما من غزل أو نسيب أو صبابة أو جوى. وإذْ يبدو الشاعر بعيداً’عن تعريف قدامة بن جعفر لقصيدة الغزل (وهو التعريف الذي يجيد تشخيص معظم تقاليد الغزل العربي، قديمها وحديثها في الواقع)، فإنه في الآن ذاته قريب تماماً من مفهوم فريد في الحبّ اقترحه تراث عربي آخر تناول فلسفة العشق والعشّاق، على لسان ابن حزم الأندلسي هذه المرّة. صاحب ‘طوق الحمامة’ يقول في معرض ماهية الحبّ: ‘وقد علمنا أنّ سرّ التمازج والتباين في المخلوقات، إنما هو الاتّصال والانفصال، والشكل دأباً يستدعي شكله، والمِيْل إلى مثله ساكن، وللمجانسة عملٌ محسوس وتأثير مُشاهَدٌ، والتنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه موجود فيما بيننا، فكيف بالنفس وعالمها العالم الصافي الخفيف، وجوهرها الجوهر الصعّاد المعتدل، وسِنخها المهيّأ لقبول الاتفاق والميل والتوق والانحراف والشهوة والنفار’.

ومنذ السطور الأولى يعلن درويش: ‘لنذهب كما نحن/ سيّدة حرّة/ وصديقاً وفيّاً/’لنذهب معاً في طريقين مختلفين/ لنذهب كما نحن متّحدَيْن/ ومنفصلَيْن’. ‘كان ينقصنا حاضر’ يقول العاشق للعاشقة، ويردف: ‘عمّا قليل يكون لنا حاضر آخر/ إنْ نظرتِ وراءك لن تبصري/ غير منفى وراءك’. مواعيد العشق مشروعات منافٍ قادمة، والعاشقان يشهدان خاتمة الحرب بين أثينا وجاراتها، وحفلة السلم بين روما وقرطاج، وعمّا قليل يعودان إلى غَدٍ واقع خلفهما، إلى بابل التي جاءا منها، فيسأل العاشق:”هل أنا أنتِ أخرى/ وأنتِ أنا آخر’؟ ثم يقول:

فعمّا قليل ستنتقل الطير من زمن نحو آخر،

هل كان هذا الطريق هباءً

على شكل معنى، وسار بنا

سفراً عابراً بين أسطورتين

فلا بدّ منه، ولا بدّ منّا

غريباً يرى نفسه في مرايا غريبته؟

منذ السطور الأولى، إذاً، تهيمن موضوعة الغريب/الغريبة على برهة العشق، ويلقي التاريخ ظلال علاقاته على صلة الحاضر بنقصان الحاضر، وعلى دائرة من ‘التنافر في الأضداد والموافقة في الأنداد والنزاع فيما تشابه’. ومنذ السطور الأولى يتضح أن قصيدة درويش لن تقارب موضوعة الحبّ إلا من موقع ملحمي يتيح للتاريخ أن يمارس حضوره الطاغي، الضاغط على برهة العشق في سياق ضغطه على برهة الهوية. هنا حفنة من الإشارات المتفرقة، المنتزعة من قصائد المجموعة، والتي تسير علي منوال ملحمي يندر أن نعثر عليه في قصائد الحبّ المعتادة:

ـ لا حلول ثقافية لهموم وجودية

ـ لا حلول جماعية لهواجس شخصية

ـ عمّا قليل سيمتصكَ البحر، فامشِ الهوينى إلى موتك الاختياري

ـ هل تذهبين معي، أم تسيرين وحدك، في اسمكِ منفىً يكلّل منفىً بلألائهِ؟

ـ وهنا لي حياتي على قدر خبزي، وأسئلتي عن مصيرٍ يعذْبه حاضرٌ عابرٌ، وغدٌ فوضويٌ جميلُ

ـ ليلٌ ينثُّ غموضاً مضيئاً على لغتي، كلما اتضح ازددتُ خوفاً من الغد في قبضة اليد

ـ لا اسم لنا يا غريبة، عند وقوع الغريب على نفسه في الغريبة

ـ مَن يقول لي الان: دعكَ من الأمس، واحلم بكامل لاوعيك الحرّ

ـ وجلست وحرّيتي صامتَيْن نحدّق في ليلنا. مَن أنا؟ مَن أنا بعد ليلك، ليل الشتاء الأخير؟

ـ مساءً، على نمش الضوء ما بين نهديك، يقترب الأمس والغدُ منّي

ـ كنّا غريبين في بلدين بعيدين قبل قليل، فماذا أكون غداةَ غد عندما أصبحُ اثنين؟ ماذا صنعتَ بحرّيتي؟ كلما ازداد خوفي منكَ اندفعتُ إليك، ولا فضل لي يا حبيبي الغريب سوى ولعي

ـ قُلْ إننا/ طائران غريبان في أرض مصرَ وفي الشام. قُلْ إننا طائران غريبان في ريشنا

ـ فاذهب كما تذهب الذكريات إلى بئرها الأبدية، لن تجد السومريةَ حاملةً جرّةً للصدى في انتظارك

ـ واذهب إلى أيّ شرقٍ وغربٍ يزيدك منفىً، ويبعدني خطوةً عن سريري وإحدى سماوات نفسي الحزينةِ، إنّ النهاية أخت البداية

ـ وماذا سنفعلُ؟ ماذا/ سنفعل/ من/ دون/ منفى؟

كيف لا تكون ساحة الحبّ هي حلبة التصارع بين الحرّية’والضرورة؟ وكيف لا يكون لقاء العشاّق صراعاً من أجل تجزئة الكلّ الراهن، بهدف استعادة الكلّ الضائع؟ وكيف يمكن لقصيدة حبّ تحمل كلّ هذه الهموم أن تظلّ قصيدة حبّ مألوفة؟ وكيف لها أن تهرب، أو حتى تتهرّب، من نداء شبه قسري هو المقاربة الملحمية للوجدان الفلسطيني؟ والحال إنّ تجسيد هذه الأسئلة بالذات في هيئة عشرات الحلول الفنّية لكتابة قصيدة الحبّ الملحمية، هو الاقتراح الأكبر في ‘سرير الغريبة’، وهو المحطّة الأحدث في المقاربة الملحمية ـ الغنائية التي أخذت تتطوّر وتتنامى وتتغاير منذ مطلع السبعينيات، واتضح أنها جوهر مشروع شعري مديد لم يكفّ درويش عن مباغتتنا بتنويعاته الثرية المدهشة، في الموضوعة والشكل وجماليات الأسلوب.

موضوعة ثانية في قصائد ‘سرير الغريبة’ هي تغريب حالة الحبّ ذاتها، وإعادة تقديمها في أنماط وسياقات وأطوار تتولّى بدورها تغريب مدركاتنا الخام عن أنساق في العشق كنّا نظنّ أننا نعرفها ولا نحتاج بالتالي إلى التنقيب في مكوّناتها، أو على الأقلّ لا نحتاج إلى تنقيب يتطلّب إحالات إلى ما هو خارج موقف العشق ذاته: التاريخ، الحياة، تفاصيل اليومي والعادي والمجّاني. ‘هنالك حبّ يسير على قدميه الحريرتَيْن/ سعيداً بغربته في الشوارع’، يقول درويش. ‘حبّ صغير فقير يبلّله مطر عابر/ فيفيض على العابرين’. ‘حبّ فقير يحدّق في النهر/ مستسلماً للتداعي’. ‘حبّ فقير ومن طرف واحد/ هادىءٌ هادىءٌ’. ‘حبّ فقير، ومن طرفين/ يقلّل من عدد اليائسين’. ‘حبّ يمرّ بنا،/ دون أن ننتبه،/ فلا هو يدري ولا نحن ندري’. ‘حبّ فقير، يطيل/ التأمّل في العابرين، ويختار/ أصغرهم قمراً’. وإذْ يواصل درويش كتابة قصيدة حبّ ملحمية، فإنه يقول التالي في وصف الحب:

.. لا أحدٌ يستطيع

الرجوعَ إلى أحدٍ. تصنع الأبديةُ

أشغالها اليدوية من عمرنا وتُعَمّرُ…

فليكنِ الحبُّ ضرباً من الغيب، وليكنِ

الغيبُ ضرباً من الحبّ. إنّي عجبتُ

لمن يعرف الحبّ كيف يحبّ!

وعاشق درويش يسأل جميل بثينة: ‘هل تشرح الحبّ لي، يا جميل/ لأحفظه فكرةً فكرةً’، فيردّ جميل: ‘أَعْرَفُ الناس بالحبّ أكثرهم حيرةً/ فاحترقْ، لا لتعرف نفسكَ، لكن/ لتشعل ليل بثينة…’. كذلك يتعلّم أنّ العاشق مخلوق على صورة العاشقة، وأنّ كتابة شعر العشق ضرب من ضروب العشق: ‘أيَّ زمانٍ تريدين، أيّ زمان/ لأصبح شاعره، هكذا: كلما/ مضت امرأة في المساء إلى سرّها/ وجدتْ شاعراً سائراً في هواجسها/ كلما غاص في نفسه شاعرٌ/ وجد امرأة تتعرّى أمام قصيدته…’. ومن مجنون ليلى يستعير عاشق درويش قناعاً يجعله آخَر ذاته، فيهتف: ‘أنا قيس ليلي، أنا/ وأنا… لا أحد’. ومن التراث الإيروتيكي الهندي يتلقّى العاشق درساً في آداب انتظار الحبيب: ‘بصبر الحصان المُعدّ لمنحدرات الجبال/ انتظرها/ بذوق الأمير الرفيع البديع/ انتظرها/ بسبع وسائد محشوّة بالسحاب الخفيف/ انتظرها’. هو حوار أوّلاً، وتقاطع أزمنة ومفاهيم وهواجس وجدانية ووجودية ثانياً، وهو ثالثاً محاولات تعلّم واقتداء وتناقل… فالعاشقون رفاق كما قالت العرب!

موضوعة ثالثة هي الحوار المتكافىء الذي تديره قصائد ‘سرير الغريبة’ بين الذكر والأنثى. وثمة سبع قصائد تسير على لسان ضمير المتكلّم المؤنّث، ضمير العاشقة وليس العاشق، فتعكس بذلك رؤية الأنثى لا رؤية الذكَر. هذه واحدة من أكثر موضوعات المجموعة نُبلاً وتعدّدية وديمقراطية، لأنّ درويش لا يكتفي بالمحتوى الملحمي التاريخي (وهو أيضاً محتوى وجودي وفلسفي) لإشكالية اللقاء والتضاد بين العاشق الغريب/العاشقة الغريبة، بل يذهب بهذا المحتوى الجدلي إلى مستوى ‘التغريب’ تحديداً: تغريب المألوف بحيث يمتلك فرصته في التعبير عن غرابته، وتطوير هذه الغرابة الجديدة بحيث تطلق كلّ ما في الغريب الوافد من ثراء يميّزه عن المألوف المقيم. وفي قصيدة بعنوان ‘لا أقلّ، ولا أكثر’ تقول الأنثى:

أنا امرأة. لا أقلّ ولا أكثرَ (…)

أنا مَن أنا، مثلما

أنتَ مَنْ أنتَ تسكن فيّ

وأسكنُ فيكَ إليكَ ولَكْ

أحبّ الوضوح الضروري في لغزنا المشتركْ

أنا لكَ حين أفيضُ عن الليل

لكنني لست أرضاً

ولا سفراً

أنا امرأة، لا أقلّ ولا أكثرَ

وجه آخر للتعدّدية في هذه القصائد السبع تمثّله المواقف المفتوحة التي قد تتخذها الأنثى (كأن تغزل الصوف لكي تلبسه لا لكي تكمل قصة هوميروس، أو تحنّ إلى سوسن آخر غير ذاك الذي خلف جبال مؤاب، أو تتخيّل أن عاشقها قال لها إنها نخلة حامل، أو تطلب منه أن يحكّ ظهرها ويفكّ على مهل جدائل شعرها، أو تقتبس يانيس ريتسوس فترى ‘في عروق الرخام حليب الكلام الإباحي يجري ويصرخ بالشعراء اكتبوني’، أو تهتف ببساطة: يا ليتني لم أحبّك…)؛ أو تلك المواقف التي قد يتخذها الذكر (كأن يكون قيس الحنين، وأن يقول لها ما قال آدم في سرّه، وأن يعرب عن رغبته في الرجوع إلى ليل منفاه أو تين بيته، أو يذهب إلى أيّ شرق وغرب يزيده منفى، أو يرفض الموت حبّاً…). والمواقف التعددية بين العاشق والعاشقة تتضمّن تفاصيل تأخذ هيئة مادّة المعنى في القصائد، وقد تبدأ من الترنيمة والتنويمة وأغنية الزفاف، وقد لا تنتهي عند التدبير المنزلي والانتظار والجفاف. ودرويش حريص (وحاذق تماماً!) في التشديد على وظيفية هذه التفاصيل، لأنه يبرزها في عناوين القصائد، ويعيد التذكير بها حين يضعها في شبكات من التكرار والتركيب والإحالة المتغايرة، حتى ليبدو أحياناً أنها تستأثر بحركة المعنى في القصيدة بأسرها.

وحوارات العاشق والعاشقة لا تستمدّ مادّتها من مصارع العشق بل من مصارع التاريخ، ومصارع الآدمي في التاريخ على وجه الدقّة. والحال أنّ درويش لا يستطيع الاستغناء عن هذه الاستراتيجية إذا شاء للتمثيل الملحمي أن يتدخّل في أيّ حوار بين عاشقين، ولكنه لا يركن إلى ستراتيجية واحدة أو يموّه اللجوء إلى الستراتيجية ذاتها تحت هذه أو تلك من حلول الإحالة إلى التاريخ (المكان، الأسطورة، الاقتباس). إنه يفرد لكلّ حوار إحالة، ويطلق كلّ إحالة في حقل فسيح من ملاقاة التاريخ. ولا يتوهمنّ أحدٌ أن فلسطين غائبة عن مشهدية ‘سرير الغريبة’ بدلالة غيابها عن حقول التسمية، بل هي حاضرة على النحو الإحالي الذكيّ الذي أراده درويش هذه المرّة: ثمة جلعاد وسدوم ومؤاب وأريحا، وثمة نشيد الأنشاد ومريم والمسيح والأناجيل، إلى جانب سومر وبابل ومصر والشام والأندلس وسمرقند!

III

وثمة، في الجانب الثاني الهامّ من المعادلة الشعرية التي تقوم عليها مجموعة ‘سرير الغريبة’، سلسلة الأواليات التي يعتمدها درويش في الدفاع عن برنامجه الجمالي، والذهاب أبعد في تطوير مشروعه الشعري؛ بينها المسائل التالية:

ـ تركيب المجموعة ومنطق توزيع قصائدها؛

ـ استخدام شكل الـ ‘سونيت’ Sonnet في ستّ قصائد، وما الذي يعنيه هذا الخيار المفاجىء، ولماذا لجأ إليه درويش على هذا النطاق الواسع(5)؛

ـ استخدام درويش لتفعيلة واحدة على امتداد المجموعة، الأمر الذي يقرّب الفجوة بين خيار التفعيلة وخيار النثر في الكتابة الشعرية، ويطرح للمرّة الأولى صيغة وسيطة أقرب إلى ‘التفعيلة المنثورة’ أو ‘النثر التفعيلي’ إذا صحّ القول؛

ـ وأخيراً، الديناميات التنويعية في تحقيق القافية.

و’سرير الغريبة’، مثل المجموعة التي سبقتها ‘لماذا تركتَ الحصان وحيداً’، تحتوي على قصائد كُتبت لكي تظهر دفعة واحدة، في كتاب ذي غرض محدّد اختاره الشاعر مسبقاً. إنها قصائد كتبها درويش على مدار العامَيْن 1996 ـ 1997 وفي نيّته غرض صريح هو قصيدة الحبّ، فلم ينشر أيّاً منها، وحاورها (طويلاً، كما يبدو) على خلفية خدمتها لذلك الغرض المحدّد بالذات وليس على خلفية تمثيلها لأيّ عدد متغاير من الأغراض الأخرى المتغايرة. والأرجح أنه لم يقرّر دفعها إلى المطبعة إلاّ حين استنفد درجة كافية من مسبّبات الحوار مع القصائد، حول الموضوع المشترك في هذه القصائد، وحول غرض المجموعة الشعرية.

ثمة، بالتالي، نظام محدّد حكم قرار درويش بإدراج هذا العدد من القصائد في المجموعة، إذْ ليس سرّاً أنه ‘غربل’ عدداً من القصائد المكتوبة في الغرض ذاته وللمجموعة ذاتها، فاستبعدها لأسباب متباينة قد تلتقي عند تفصيل مشترك واحد هو خدمة ذلك النظام الذي شاء درويش أن يجعله منطق اجتماع وانتظام القصائد. وهذه، في الواقع، مسألة نقدية هامّة لا تستطيع الدراسة الأدبية الجادّة غضّ النظر عنها أو التقليل من أهميتها عن طريق صرفها في باب الاعتبارات الشكلية (الأمر الذي قد يكون مشروعاً تماماً في حالة مجموعة مؤلّفة من قصائد متفرقة، إذ لا طائل هنا وراء البحث عن ‘نظام’ ما لترتيب المجموعة). والأمر يرتدي أهمية إضافية في حالة شاعر معلّم مثل درويش إجمالاً، وبصدد هذه المجموعة بصفة خاصّة، حيث يبدو الشاعر وقد بلغ ذروة دراماتيكية من استدعاء مهاراته الفنيّة الرفيعة، وتطبيقها في غرض شعري واحد هو قصيدة الحبّ، لا يخلو من ‘وعورة’ استقبال خاصّة من جانب قارىء درويش العريض، أو على الأقلّ ذلك القارىء الذي تربّى على ‘رأي عام’ يصف درويش بـ ‘عاشق الأرض’ و’مجنون التراب’.

ولأنّ انسراح الذات، وتوفّر مساحة أكثر رحابة لتدفّق الوجدان، وانثيال التعبير العاطفي في أنساق طليقة عفوية أكثر تسامحاً إزاء ضوابط العقل، هي في رأس الخصائص السيكولوجية التي تطغى على الشاعر في برهة كتابة قصيدة الحبّ؛ فإنّ اعتبارات ‘ضبط’ هذه الخصائص هي وِجْهة أولى لتلمّس أسباب استقرار درويش على ‘نظام’ ما يحكم تركيب وترتيب قصائد هذه المجموعة. وإذا كانت هذه الوجهة تخصّ الشاعر، وبرهة الكتابة تحديداً، فإنها في الآن ذاته تخصّ القارىء وبرهة القراءة تحديداً. والنظام هنا يسعى إلى التفاوض مع القارىء حول حدود انسراح القراءة بالقياس إلى انسراح الذات (ذات الشاعر مثل ذات القارىء)، وحول المساحة التي لا يتوجّب أن تسمح بانفلات الوجدان (وجدان القارىء مثل وجدان الشاعر، هنا أيضاً) بمعدّلات قد تحوّل التدفّق إلى طوفان، وحول بلوغ ميزان من نوعٍ ما بين انثيال العاطفة وانضباط العقل. وفي سيرورة هذا التفاوض لا يكفّ درويش عن تذكير قارئه (وتذكير نفسه أوّلاً، في الواقع) بأنّ العاشق الناطق في هذه القصائد غير منفكّ عن معضلات أخرى كبرى، ليست ذات صلة بشؤون الذات والوجدان والعاطفة، أو هي لا تتصلّ بها إلا لكي تفسد حصّة ما من انسراح تلك الشؤون. وهو يقول، بوضوح يصبّ مباشرة في منطق التفاوض مع القارىء والقراءة: ‘أمثالنا لا يموتون حبّاً،/ ولو مرّة، في الغناء الحديث الخفيف/ ولا يقفون، وحيدين، فوق الرصيف/ لأنّ القطارات أكثر من عدد المفردات/ وفي وسعنا دائماً أن نعيد النظر’. أو يذهب أبعد حين يشدّد على أنّ الأمس سيتبع العاشقين ‘كما يتبع النهوند الوتر’، وأنّ أناشيد العاشق سوف تنقطع عند النشيد ما قبل الأخير، وستفضي عندئذ إلى ما هو أكثر شدّة من الموت حبّاً:

على الجسر، قُرب حياتكِ، عشتُ

كما عاش عازف جيتارة قرب نجمته.

غنِّ لي مائةً من أناشيد حبّكَ تَدْخُلْ

حياتي! فغنّى عن الحبّ تسعاً

وتسعين أغنيةً، وانتحر.

وِجْهة أخرى لقراءة النظام الذي يحكم تركيب وترتيب القصائد هي تقسيم المجموعة إلى ‘أبواب’، الأمر الذي كان درويش قد لجأ إليه مباشرة في ‘لماذا تركتَ الحصان وحيداً’، حيث تتوزّع محطّات العمر على أبواب هي موضوعات العمر بمعنى ما: الطفولة، الصبا، التهجير، اللجوء، الشباب، الحبّ، الشعر، السجن، الماضي في مرآة الحاضر… و’سرير الغريبة’، وفق هذه الوجهة في البحث عن نظام، تنقسم إلى تسعة أقسام:

أ ـ الفاتحة الأشبه بـ ‘برولوغ’، حيث يدير درويش حواراً بين عاشق/ غريب وعاشقة/ غريبة، حول الاتحاد في الانقسام والعكس، بين الأنثى وبين الذكر، حول الحاضر والمنفى والماضي، حول الطُرق إلى المعنى والحرّية والجسد، السلام والحرب بين أثينا وجاراتها، بين روما وقرطاج، بين ‘أنا أنتِ أخرى’ و’أنتَ أنا آخر’… وهذه الفاتحة تتأمّل وتستشرف، تمهّد وتؤهّب، وتفتح بوّابة القراءة على طراز ملحمي من خطاب العشق (سوف يتكرّر مراراً في القصائد التالية)، حيث يهيمن التاريخ، وحيث يعود العاشقان إلى غَدٍ يقع خلفهما، وحيث لا يكفي أن يكونا معاً: ‘كان ينقصنا حاضرٌ’ كما يقول عنوان القصيدة الفاتحة هذه.

ب ـ الأقسام 2، 3، 4، 5، 6، 7، ويتألّف كلٌّ منها من ثلاث قصائد، مسبوقة بقصيدة مكتوبة في شكل الـ ‘سونيت’، يطلق عليها درويش اسم ‘سوناتا’، وتلعب دوراً وظيفياً استهلالياً فاصلاً أو واصلاً بين قسم وآخر، كما تؤدّي سلسلة من الوظائف الفنّية والدلالية (الأمر الذي سوف أتوقف عنده بمزيد من التفصيل لاحقاً). هذه الأقسام الستة هي الكتلة الأساسية للمجموعة، وفي قصائدها الـ 24 يطوّر درويش موضوعات شتّى بالغة التنوّع والثراء، بينها موضوعه الأثير عن أطوار العاشق/ الغريب والعاشقة/ الغريبة، وتعريفاته للحبّ، وحياكته للشبكات التاريخية والثقافية والجغرافية والأسطورية والشعائرية التي تشدّ خطاب العشق (وهنا تحتشد أسماء معرّفة مركّبة الموقع والوظائف، مثل روما وقرطاج وأثينا وساحة التروكاديرو وحدائق قيصر؛ سومر وبابل وبلاد الرافدين والعراق وبغداد؛ سدوم وجلعاد وأريحا ومؤاب؛ الأندلس والشام ومصر وسمرقند؛ الفرات ودجلة والنيل؛ يوسف وآدم ونبوخذ نصّر؛ هوميروس وامرؤ القيس وبول تسيلان وبول إيلوار ويانيس ريتسوس…).

وإذا كانت قصائد السونيتات الستّ تحافظ على حجمها الكلاسيكي (14 سطراً، موزّعة على مقاطع متغايرة)، فإنّ القصائد الـ 18 الأخرى تتنوّع كثيراً في أطوالها (بين 27 و100 سطر)؛ وتتباين في أشكالها (قصيدة ‘تدبير منزلي’ تتألّف من أربعة مقاطع، وقصيدة ‘ربّما، لأنّ الشتاء تأخّر’ تقوم على 20 خماسية)؛’وتتقاسم وظيفة الصوت الناطق في القصيدة، بين مذكّر ومؤنّث، بين النبرة التأمّلية أو المنفردة أو الحوارية، بين المتكلّم والمخاطب في المفرد أو الجمع، وبين أزمنة الأفعال في الماضي أو المضارع أو المستقبل.

ج ـ القسم الثامن في المجموعة يتألّف من ثلاث قصائد: ‘أنا، وجميل بثينة’، ‘قناع لمجنون ليلى’، و’درس من كاما سوطرا’. ومن الجلي أنّ هذا القسم يتولّى عبء الخروج عن سياقات الأقسام السبعة السابقة، التي تتحرّك في الفضاء الملحمي لخطاب العاشق، وتنهض بُنيتها العليا على ‘وقوع الغريب على نفسه في الغريب’ كما يقول عنوان إحدى القصائد، ليس في رخاء من لقاء العاشق بالعاشقة، بل تحت وطأة التاريخ، وفي ظلّ جدليات النفي والغربة والغرباء أكثر من الإستيطان والفَيءِ واللقاء. إنه القسم الذي يخرج عن السياقات السابقة لكي يدير حواراً مع جميل بثينة حول الوثاق المحكم بين صورة الحبّ وصورة بثينة، ومع مجنون ليلى حول تيه هويّة العاشق في الترحال نحو العشق كما في كتابة العشق، ومع التراث الإيروتيكي الهندي حول آداب تنظيم الزمان والمكان والذات قبيل طقس لقاء الحبيب. وفي هذا القسم ثمة ‘انفلاتات’ إيروتيكية هنا وهناك، تبدو وكأنها فرّت من رقابة درويش الصارمة، ولكنها تكشف عن رهافة رفيعة في التصوير الإستعاري لمشهدية حسّية مضمَرة:

تزوّجتُها. وهززنا السماء فسالتْ

حليباً على خبزنا. كلّما جئتها فتّحتْ

جسدي زهرةً زهرةً، وأراقَ غدي

خمرَه قطرةً قطرةً في أباريقها.

د ـ القسم التاسع هو القصيدة الختامية ‘طوق الحمامة الدمشقي’، والتي تتألّف من 22 مقطوعة قصيرة. هنا ذروة فريدة لاتحاد خطاب العاشق بترنيمة العشق، عشق المكان والأنثى في المكان، وهذا بيان شعري ولغوي وموسيقي بليغ حول ما يعنيه درويش حين يَعِدُ بكتابة ‘شعر أفضل’. وهذا ليس رسماً بالكلمات فحسب، كما حلم’الشاعر الراحل نزار قباني، بل هو تفجير لكلّ ما في باطن الكلمات من طاقة في الأداء الكورالي، في الرقص الإيقاعي، في تشكيل وإعادة تشكيل القاموس، وفي استيلاد الكلمة لسحرها الدفين بارتباط وشيج مع سحر شقيقتها التي تسبقها أو تليها. وفي بيان كهذا تتحقّق تلك الكيمياء النادرة التي تسلّح القَوْل بالقدرة على تشريد اللغة، وتسلّح اللغة بالقدرة على استضافة القَوْل. وهنا فقط يصبح الشعر أضيق من اللغة وأوسع منها في آن: أضيق لأنه لا يملك سوى اختيار ‘بردى’ في سياق التسمية، وأوسع لأنّ هذه التسمية سرعان ما تغادر أرض الاسم المعرّف لتحلّق بعيداً وعالياً، بمنأى عن الاسم، وفوق أيّ تعريف:

في دمشقَ

ينامُ غزالٌ

إلى جانب امرأةٍ

في سرير الندى

فتخلع فستانها

وتغطّي بهِ بردى!

IV

يذهب الناقد الأمريكي بول أوبنهايمر إلى حدّ المحاججة بأنّ ابتكار شكل الـ ‘سونيت’ هو الحدث الذي يدشّن ابتداء الفكر الحديث والأدب الحديث، مشدداً على حقيقة أن السونيت كانت أوّل شكل شعري غنائي يُكتب لا لكي يُؤدّى أو يُلحّن، بل لكي يُقرأ قراءة صامتة، وبذلك فإنها أوّل شكل غنائي يخاطب ‘الوعي الذاتي’، أو يتناول ‘الذات في حالة الصراع'(5). ولا يجانب أوبنهايمر الصواب كثيراً في هذا التفصيل تحديداً، خاصّة إذا وُضع رأيه هذا في سياق الخصائص الفكرية للمرحلة التاريخية التي شهدت ولادة وترعرع السونيت (إيطاليا مطلع القرن الثالث عشر) حين كان اضمحلال الإمبراطورية الرومانية يفسح المجال أمام نقاشَيْن حاسمَيْن: التنازل عن نموذج الإله البطل لصالح الإنسان العاديّ، والتنازل عن السلوك البطولي التطهيري القَدَري لصالح السلوك الفردي الوجداني العاطفي، والإنتقال من النشيد التراجيدي إلى قصيدة الحبّ. وليس مصادفة أنّ الشكل يتألّف من 14 بيتاً، تنقسم إلى مقطع ثُماني Octave يطرح وضعية توتّر ذات ‘شحنة’ عاطفية دافقة، ومقطع سُداسي Sestet يهدّيء الشحنة ويخفّف التوتّر. ذلك لأنّ أفلاطون كان قد وضع تخطيطاً حسابياً مماثلاً لـ ‘هندسة’ العلاقة بين النفس والكَوْن، وكان أوائل مبتكري شكل السونيت قد حاولوا محاكاة تلك الهندسة عن طريق استقراء ‘الأنغام غير المسموعة’ من موسيقى الروح الإنسانية، لكي نقتبس عبارة الشاعر الرومانتيكي الإنكليزي جون كيتس (1795ـ1821).

وتجمع المصادر الأدبية على أنّ جياكومو دي لنتينو (1188ـ1240) كان أوّل من ابتكر الشكل، وكان من المدهش أنه لم يعتمد في اكتشافه على أيّ من الأشكال الغنائية التي كانت سائدة وطاغية آنذاك (أشعار التروبادور والبروفنسيال)، بل طوّر شكلاً للأغنية كان شائعاً عند الفلاّحين في صقلية. أكثر من ذلك، تشير أفضل الأبحاث في تاريخ السونيت إلى أنّ هذه الأغنية الصقلية استُعيرت في الأساس من شعر الغزل العربي الأندلسي الذي تناقله العرب المقيمون في صقلية. بعد لنتنينو تولّى دانتي أليجييري (1265ـ1231) وفرنسيسكو بترارك (1304ـ1374) أمر تطوير الشكل الإيطالي من السونيت. وسرعان ما انتقل الشكل إلى أوروبا انتقال النار في الهشيم، فعكف على تطويره كبار الشعراء في فرنسا وألمانيا وإسبانيا، وشهد في إنكلترا ازدهاراً كبيراً على يد إدموند سبنسر (1552ـ1599) ووليام شكسبير (1564ـ1616) وجون ملتون (1608ـ1674). ويمكن القول، باختصار، إنه ما من شاعر أساسي قاوم إغراءات هذا الشكل الفاتن، رغم أنّ تجريبه كان في الآن ذاته ينطوي على مجازفة العجز عن تحدّي قوّة الشكل من جانب، والفشل في امتلاك المفاتيح الكفيلة بكشف أسرار الشكل (وبالتالي إطلاق مفاتنه) من جانب آخر. وإلى جانب الشعراء المذكورين أعلاه، كان بين أعظم نماذج السونيتات تلك التي كتبها غوته، شليغل، فون بلاتن، ريلكه، تراكل، وشرودر في اللغة الألمانية؛ وغوتييه، نرفال، بودلير، فرلين، مالارميه، رامبو، وفاليري في الفرنسية؛ ولوبي دي فيغا، أنتونيو فيريرا، وغارسيا لوركا في الإسبانية؛ فضلاً عن مئات الشعراء هنا وهناك في الثقافات الإنسانية.

لماذا اختار درويش شكل السونيت على نطاق واسع في ‘سرير الغريبة’؟ لماذا في تلك الفترة الزمنية؟ من جانبي أعتبر فلسفة ولادة الشكل كما عرضتها في السطور أعلاه (التنازل عن نموذج الإله البطل لصالح الإنسان العاديّ، بصفة خاصّة)، والتحدّيات التي يطرحها الشكل على شاعر كبير أعلن العزم على كتابة ‘شعر أفضل’، والخيار الموسيقي العامّ الذي يحكم المجموعة بأسرها (التركيب الخافت والجَهّر الخفيض)، وموضوعة قصيدة الحبّ (التي كان شكل السونيت عمادها على الدوام)… كلّ هذه أسباب ترجيحية كافية لتفسير خيار درويش. لماذا آنذاك؟ ربما لأنّ ذلك الطور من مشروع درويش الشعري نهض على نوع من ‘التخصّص’ الموضوعاتي (سيرة، قصيدة حبّ، …)، استدعى بالتالي هذه أو تلك من الأشكال الشعرية التي تقترن عادة بهذا أو ذاك من أساليب تطوير موضوعات التخصّص. ولعلّه أراد استرداد بعض البضاعة الثمينة التي استلفها الأوروبيون من أجداده الأندلسيين، خصوصاً وأنّ جاذبية هذه البضاعة لم تصمد على مرّ القرون فحسب، بل اغتنت وازدادت وتزداد فتنة. سبّب مرجّح أخير هو أنّ الرجل رأى، أخيراً، أنّ الأوان كان قد آنَ لكي يسخّر أفضل ما راكمته تجربته من مراس رفيع في كتابة الشعر الرفيع، ولكي يضع موهبته على محكّ اختبارات قاسية… هكذا، في وضح النهار!

ولكنّ درويش لم يكن الشاعر الذي يضع شكل السونيت نصب عينيه، فيجرّبه بالتزام ميكانيكي أو بحيادية بريئة، دون ‘ابتكار’ في تقسيم المقاطع هنا، أو’عبث’ بتصميم هندسة القافية هناك. وإذا كان قد التزم بعدد السطور الشعرية في السونيتات الستّ، فإنه لم يتردد في خرق قواعد الشكل على هواه، بل وفعل ما هو أدهى حين حطّم بعض القواعد ‘المقدّسة’، كما حين غضّ النظر عن إنهاء السطر الشعري بقافية منضوية في التصميم المختار لهندسة القوافي، أو أبقى القافية المطلوبة في ثنايا السطر وليس في آخره، أو كسر وتيرة انقسام الجزء السداسي إلى مقطعين ثلاثيَيْن واقترح صيغة 4، 4، 4، 2…

ولكنه، أيضاً، لم يكن الشاعر الذي يطلق العنان للتجريب في شكل السونيت إلي حدّ الإستهانة بمواصفات الحدّ الأدنى، التي ليست في نهاية الأمر سوى شروط الدخول في لعبة التحدّي. فالسونيت الأولى تعتمد نظام 4 ـ 4 ـ 3 ـ 3، وتسير هندسة التقفية فيها كما يلي: ــ/ أ/ أ/ ب/ ب/ ج/ ج/ ب/ ب/ ــ/ ــ/ ــ/ ب. وهي في القصيدة تمثّل الكلمات التالية في أواخر السطور: ‘فليكُن/ لنا/ هنا/ واليمامُ/ الكلامُ/ القصيدة/ البعيدة/ الرخامُ/ الزحامُ/ أثوابهنّ/ القافية/ شعرٌ/ قاله/ الكلامُ’، وهذا يعني أن درويش أسقط القافية في خمسة سطور، وكاد أن يبعثر روحيّة الهندسة بأسرها، لولا أنه تدخّل في متن السطر الواحد لزخرفة هندسة أخرى خفيّة، يصنعها تواتر الأصوات الواحدة أو التقفية الثنائية التي لا تدخل بالضرورة في مخطط أواخر السطور.

في السونيت الثالثة يلتزم درويش بتنظيم صحيح الأطراف للأجزاء (4 ـ 4 ـ 3 ـ 3)، وبمخطط سليم لهندسة القافية: أ/ أ/ أ/ ب/ ج/ ج/ ج/ ب/ د/ د/ ب/ هـ/ هـ/ ب، يمثّل المفردات التالية في أواخر السطور: ‘معا/ مقطعا/ ولا تُسرعا/ مُتعبهْ/ قليلا/ جميلا/ الوصولا/ عَتَبة/ الخافية/ القافية/ التجربة/ بابلي/ داخلي/ الطيّبة’. غير أنّ هذا المخطط، هنا أيضاً، ليس بين الأنواع الشائعة، وهو صعب التنفيذ بسبب انقطاع القافية (أ) وتباعد الصلة بين القافية (ب)، الأمر الذي يتطلّب من الشاعر إحكام الروابط الموسقية على امتداد المقاطع التي لا ترتبط بقافية متجانسة، واختيار وحدات دلالية وصوتية تتيح للقارىء فرصة مغادرة المناخ الموسيقي مؤقّتاً، دون كسر انسياب الإيقاع. ولعلّ هذا هو السبب في أنّ درويش يطلق، في المقطع الثالث من هذه السونيت، تصريحات تدعو القارىء إلى التأمّل دون أن تدفع به إلى مغادرة فنّ الشعر:

حريرُكما ساخنٌ. وعلى الناي أن يتأنّى قليلا

ويصقل سوناتةً، عندما تقعان عليّ غموضاً جميلا

كمعنى على أُهبة العري، لا يستطيع الوصولا

ولا الإنتظار الطويل أمام الكلام، فيختارني عتبةْ

أحبّ من الشعر عفوية النثر والصورة الخافية

بلا قمر للبلاغة: حين تسيرين حافيةً تتركُ القافيةْ

جِماعَ الكلام، وينكسر الوزن في ذروة التجربةْ

غير أن اللجوء إلي شكل السونيت ليس مجرّد تمرين في التكنيك الشعري، أو استعراض لمدى سيطرة الشاعر على أدواته وخبراته، بل هو في الجوهر (وتحديداً عندما ينمّ عن نجاح صريح، كما في أمثلة درويش) تمرين في ضبط الوجدان، وموازنة الشخصي والعاّم، الذاتي والموضوعي، الشكل والمحتوى، والقلب والعقل. ولا ريب أنّ مؤرّخي الأدب سوف يحارون طويلاً في تفسير الأسباب التي تجعل قصائد السونيت كفيلة بتفجير أصفى ما في نفوس الشعراء من قوّة: روحية وعقلية، ذهنية وحسّية، غنائية وملحمية، فنّية وفكرية. ومن العجيب أنّ هذا الشكل الوجيز المتراصّ ظلّ قادراً على الإتيان بالعجائب، في كلّ اللغات الإنسانية، وحيثما توفّر شاعر قابض على أدوات فنّ الشعر، قادر على ضبط انزياحات الوجدان دون وأدها، سخيّ في التماس حقوق امتداد العالم الخارجي إلى عوالمه الداخلية، رهيف في التقاط البارقة الجمالية الخاطفة بين مفردة تسبح في فضاء المبني والمعنى وأخرى تجثم مثل حجر ثقيل على صدر القصيدة.

وهذا يقودنا إلى مسألة العلاقة بين الشعر والنثر، والعبارة المفاجئة الغامضة التي يرددها درويش: ‘أحبّ من الشعر عفوية النثر’. إذْ ما الذي يمكن أن تعنيه عبارة ‘عفوية النثر’ عند شاعر مثل درويش، يؤمن بثراء البُنية الإيقاعية للعروض العربي، ويحسن تلمّس ذلك الثراء، ويعرف أفضل الطُرُق لتجسيده وكشف الغطاء عن مكنوناته؟ ومن حيث المبدأ لا يعني النثر عند درويش ذلك ‘النثر’ الخاصّ بالمسيو جوردان في مسرحية موليير الشهيرة، حين اكتشف البرجوازي المتحذلق أنّه كان على الدوام يستخدم نوعاً من ‘الشعر’ يُدعى النثر، دون أن يدري! إنه، أيضاً، ليس النثر الذي لا يفضي إلى نوع أدبي آخر سوى الشعر في النماذج المتقدمة أو الممتازة من قصيدة النثر العربية، وإلاّ لاختار درويش ذلك الوسيط بالذات في كتابة قصيدة أو أكثر.

نثر درويش، حيث العفوية محبّبة لديه كما يقول، هو اللغة الشعرية وقد امتلكت سيولة داخلية كثيفة بقدر ما هي طليّة القوام، يوميّة بقدر ما هي قادرة على الإرتقاء باليوميّ إلى مصافّ ليست في أبجدية اليوميّ المعطاة، وكيميائية التحويل لأنها تفعل في اللغة ما تعجز عن القيام به أيّ أشكال أخرى من الإستخدام اللغوي. عفويّة عن سابق وعي تارة، ولكنها لا تنساق خلف التجاورات المألوفة في مرادفات القاموس. وعفويّة عن سابق اعتباط غامض طوراً، لأنها هنا إنما تنبجس بفعل ذلك اللغز الأبدي الذي يجعل الشاعر غريب الوجه واليد واللسان عن لغة التصريح في الصحيفة والإعلان، حين يعرف الشاعر أنّ لغته هي هذه وليست هذه في آن معاً. وفي قصيدة بعنوان ‘لَيُلُكِ من لَيْلَكٍ’ نقف على هذه التمثيلات العفوية اللاقاموسية لمفردة واحدة هي ‘الليل’:

ـ يجلس الليل حيث تكونين

ـ ليلُك ظلُّكِ ــ قطعة أرض خرافية للمساواة ما بين أحلامنا

ـ ما أنا بالمسافر أو بالمقيمِ على ليلكِ الليلكي

ـ كلما عسعس الليل فيك حدستُ بمنزلة القلب بين منزلتين

ـ كلُّكِ لَيلُكِ… ليلٌ يشعّ كحبر الكواكب

ـ ليلٌ على ذمّة الليل

ـ ليلٌ ينثّ غموضاً مضيئاً على لغتي

ـ’ليلٌ يحدّق في نفسه آمناً مطمئناً إلى لا نهاياته

ـ لا تحفّ به غير مرآتهِ

ـ ليلٌ ترعرع في شِعره الجاهليّ على نزوات امرىء القيس والآخرين

ـ ووسّع للحالمين طريق الحليب إلى قمر جائع في أقاصي الكلام…

وعفوية النثر هي أن ‘ينثر’ درويش عماراته الإيقاعية، كأن يختار تفاعيل البحر المتقارب وحدها لكي تكون الوحدة الدنيا والوحدة العليا في سائر قصائد المجموعة، القصار منها والطوال، الرباعيات والخماسيات والسونيتات، من أوّل سطر في القصيدة الإستهلالية وحتى آخر سطر في ‘طوق الحمامة الدمشقي’. وثمّة هنا اقتراح فنّي لردم الهوّة بين شعر عربي ما يزال يعتمد التفاعيل (في سياق تنويعٍ أخذ يضيق رويداً رويداً حتى كاد أن ينحصر في البحور المفردة ذات التفاعيل الموحّدة لأنها أسهل تناولاً، خصوصاً عند الشعراء ذوي الخبرة العروضية المحدودة)، وبين شعر عربي لا يعتمد سوى النثر في صراع مرير من أجل اعتصار الشعر من باطن وسيط خطابي مُباح (في سياق من التماثل أخذت تنويعاته الفنيّة تضيق رويداً رويداً). وتفاعيل المتقارب، الليّنة الخافتة الجَرس، يمكن أن تكون فضاءً وسيطاً بين وزن معتدل ليس بالوزن وحده، ونثر موقّع ليس بالنثر وحده. ولعلها، بهذا المعنى، في منطقة مشتركة بين ‘التفعيلة المنثورة’ و’النثر التفعيلي’.

وقد يكون البحث عن العفوية في هذه ‘التفعيلة المنثورة’ هو الذي قاد درويش إلى عدد من الأشغال الجديدة بصدد القافية، على نحو يوطّد عنصر العفوية من جانب، دون أن يأتي تماماً على ما تلعبه القافية من أدوار حيوية في الصياغة التشكيلية للموسيقى والمعنى. وإذا كان يطوّر المزيد من بحثه عن صِيَغ التقفية الداخلية حيث تنكسر رتابة تثبيت القافية ككتلة ذات موقع معلوم سلفاً في جسم القصيدة، فإنّه في ‘سرير الغريبة’ يقترح الصِيَغَ التالية:

أ ـ التقفية المتباعدة”كما في قصيدة ‘أغنية زفاف’ حيث تفصل ثمانية سطور شعرية بين قافية وقافية)؛

ب ـ التقفية المقطعية (كما في قصيدة ‘تدبير منزلي’ حيث تربط القافية بين المقاطع الأربعة المستقلة، وبين أوّل المقطع وآخره:

1 ـ كم أنا/ .. ونَم يا حبيبي نَوْم الهنا.

2 ـ كم أنا/ … ولا صورة امرأة من نساء أثينا تدير تدابيرها/ العاطفية مثلي هنا.

3 ـ كم أنا/ … مَن كان فينا الضحيّة فليحْلُم/ الآن أكثر من غيره بيننا.

4 ـ كم أنا/ … كم أنا! مَن أنا!

ج ـ التقفية المتناوبة، كما في قصيدة ‘ربما، لأنّ الشتاء تأخّر’، حيث تتكرّر قافية تربط المقطع 1 مع 3 و6 و8 و01 و12 و14 و16 و20، ولكنها لا تربط بين المقاطع 2 و5 و7 و9 و11 و13 و15 و18 مثلاً:

المقطع10:

بي مثلُ ما بكِ من وَحَم الليل

يصرخ شخصٌ: ‘أنا امرأتي

في المنام. وتصرخ أنثى: ‘أنا رجلي’

أيّنا أنتَ. أنتِ؟ نضيق

نضيق، ويتّسع المُنْحدر…/

المقطع 11

أضمُّكِ حتى أعود إلى عدمي

زائراً زائلاً. لا حياة ولا

موتَ في ما أحسّ به

طائراً عابراً ما وراء الطبيعةِ

حين أضمُّكِ…/

المقطع12:

ماذا سنفعل بالحبّ؟ قلتِ

ونحن ندسّ ملابسنا في الحقائبِ

نأخذه معنا، أمْ نعلّقه في الخزانة؟

قلتُ: ليذهبْ إلى حيث شاءَ

فقد شبّ عن طوقه، وانتشر.

د ـ التقفية الخفيّة، حيث تتردّد القافية على نحو ما في النسيج الصوتي للمقطع دون أن تتجسّد تماماً في المفردات نفسها، كما هو حال أحرف الكاف والهاء والقاف في المثال التالي:

لكِ التوأمان: لكِ النثر والشعر يتّحدان، وأنتِ

تطيرين من زمنٍ نحو آخرَ، سالمة كاملةْ

على هودجٍ من كواكب قتلاكِ، حرّاسكِ الطيّبين

وهمْ يحملون سماواتكِ السبع قافلة قافلةْ.

رُعاة خيولكِ بين نخيلِ يديكِ ونهرَيْكِ يقتربون

من الماء ‘أولى الإلهات أكثرهنّ امتلاءاً

بنا’. خالق عاشق يتأمّل أفعاله فيجنّ

بها ويحنّ إليها”أأفعلُ ثانيةً ما فعلتُ

وكُتّابُ برقكِ يحترقون بحبر السماء، وأحفادهمْ

ينشرون السنونو على موكب السومرية…

صاعدةً كانت السومريّة أم نازلة.

هـ ـ التقفية المفتوحة، حيث يتيح التحريك المفتوح لأواخر الكلمات، والقَطْع المباغت للسطر الشعري عند قافية ممكنة، فرصة متكافئة للقارىء في إضمار أو إشهار القافية، كما في ضمّ أو تسكين مفردة ‘المشاة’ بالقياس إلى كسر أو تسكين مفردة ‘الحياة’، بالقياس إلى’مفردة ‘ذكرياتي’:

ونصغي إلى ما يقول المشاةُ [المشاةْ]

على الجسر:

‘لي عملٌ آخرٌ غير هذا،

‘ولي مقعد في السفينةِ

‘لي حصّة في الحياةْ [الحياةِ]

‘وأمّا أنا،

فعليّ اللحاق بمترو الضواحي

‘تأخّرت عن ذكرياتي، وعن موعد الساكسفون،

وليلي قليلُ.

و ـ استخدام مفردة واحدة لتؤدّي الوظائف الإيقاعية في التكرار وتلعب دور القافية أيضاً (كما هو حال مفردة ‘انتظرها’ في قصيدة ‘درس من كاما سوطرا”

بكأس الشراب المرصّع باللازوردِ

انتظرها،

على بركة الماء حول المساء وزهر الكولونيا

انتظرها،

بصبر الحصان المُعدّ لمنحدرات الجبالِ

انتظرها،

بذَوْق الأمير الرفيع البديع

انتظرها،

بسبع وسائد محشوّة بالسحاب الخفيف

انتظرها، …

* * *

في لقاء مع الجمهور الفرنسي، جرى في باريس، أيار (مايو) 1997، أثناء فعاليات ‘الربيع الفلسطيني’، قال درويش: ‘كان على السلام أن يريح الهويّة الفلسطينية، وأن يريح أسئلة الثقافة الفلسطينية، وأن ينقلنا من وضعنا الأسطوري إلى وضعنا الواقعي، وأن يدلّنا على أنّ الواقع أغنى من النصّ. وبدأنا فعلاً بطرح أسئلة تتصل بكيفية تحوّلنا من نصّ أسطوري فيه الجلاّد والضحيّة، إلى أناس عاديين، نبني حياتنا العادية، نعبّر عن ضعفنا الإنساني العادي، يلتفت كلّ منّا إلى صوته الشخصي، نشكو المرض والكسل والضجر. لا نريد أن نكون أبطالاً ولا نريد أن نكون ضحايا. بعبارة أخرى، بدأنا في البحث عن الحياة العادية، ولكن يبدو أنّ البحث عن حياة عادية في ظروف غير عادية هو بحث عن بطولة أخرى’.

وتابع درويش، ردّاً على سؤال حول علاقة الشعر بالمنفى: ‘على مستوى اللغة الشعرية، فإنّ الشعر بشكل عام هو رحلة بين الثقافات واللغات والأزمنة. لا يستطيع الشعر أن يكون ‘وطنياً’ بالمعنى الضيّق للكلمة، ولكن بسبب وجود تعاقد موضوعي بين الشعر والجماعة، وباعتبار أنّ الشاعر إبن نتاجه وظرفه التاريخي، فإنّ له دوراً في بلورة الهوية الثقافية لشعبه. لا أعرف إذا كان في وسعي أن أنظّف نفسي من الجماليات الثقافية للمنفى. ولا أعرف إذا كان في وسع الفلسطينيين الذين ولدوا وترعرعوا خارج وطنهم (أي في المنفى) أن يجدوا ذاكرتهم الفردية خارج شرط المنفى. ولا أعرف إذا كان في وسعنا ــ عندما تتحقق العودة ــ أن نواصل وضع المنفى كمفهوم مطلق مضادّ لمفهوم الوطن. ولكن كلّ هذه الأسئلة مؤجلة… هذه أسئلة مترفة تحتاج إلى شرط موضوعي لطرحها، وهو أن يكون للفلسطينيين حقّ في وطن يلعنونه أو يكرهونه. أنا لا أستطيع أن أمدح المنفى ما دمت ممنوعاً من هجاء الوطن، ولكن يبدو لي أن فلسطين المُتَخيّلة أكثر إطاعة لمخيّلتي الشعرية من فلسطين الواقعية. وهذه مشكلة شخصية ووطنية، لا تسمح للإسرائيليين بأن يواصلوا وضعي في المنفى. ولهذا يجب أن أكتب شعراً أفضل’!

ونبرة السخرية’المرّة في العبارة الأخيرة (‘يجب أن أكتب شعراً أفضل’) انطوت في الآن ذاته على تلويح خفيّ حول الحقائق الشعرية الجديدة التي أخذت تكتنف مشروع درويش الشعري في أعقاب اتفاق أوسلو والتفات الفلسطيني إلى صوته الشخصي، الأمر الذي تبلور في التفات درويش إلى سيرته الشخصية في مجموعة ‘لماذا تركتَ الحصان وحيداً’، ثمّ تبلور بوضوح أكثر في قصائد ‘سرير الغريبة’ حيث التفت درويش إلى شؤون قلبه العاشق. وليس الأمر أنه كتب ‘شعراً أفضل’، بل الأهمّ والأكثر دلالة أنه سخّر أرقى ما راكمته تجربته الطويلة من مراس رفيع في كتابة الشعر الرفيع، واستدعى أفضل ما طوّرته عقود ذلك المراس من خبرات فنيّة عالية، فائقة، فريدة، ومنفردة. إنه، بعبارة أخرى، استعرض أمضى الأسلحة الشعرية في اختبار القوّة ذاك: مع الآخر، إزاء علاقات ‘فلسطين المُتَخيّلة’/ ‘فلسطين الواقعية’، إزاء جدل التاريخ والراهن، إزاء ‘البطولة الأخرى’ في الذات والجماعة.(6)

هوامش

(1) إشارة إلى قصيدة محمود درويش الشهيرة ‘ريتا والبندقية’، من مجموعته ‘آخر الليل’، 1967، والتي يقول في مطلعها: ‘بين ريتا وعيوني بندقية’

(2) من قصيدة ‘تقاسيم على الماء’، مجموعة ‘أحبّكِ أو لا أحبّكِ’ ـ 1972.

(3) في مجموعته ‘أوراق الزيتون’، 1964، وهي مشهورة أكثر بالاسم التالي: ‘سجّلْ أنا عربي’.

(4) دار رياض الريس للكتب والنشر، بيروت 1999 ـ 150 ص.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى