صفحات الثقافة

محمود درويش يكتب “خطب الديكتاتور”


د.خالد الحروب

كأنها نبوءة الشاعر إذ يحدس النهايات ويسخر من جبروت الديكتاتور القائم على رغم بطشه وسده للأفق واغتياله للمستقبل. محمود درويش ينشر في سنوات 1986 و1987 في مجلة “اليوم السابع” التي كانت تصدر في باريس نصوصاً نثرية تحت عنوان “خطب الديكتاتور الموزونة” يسخر فيها من الحاكم العربي بتنويعاته. واليوم يعيد الزميل حسن خضر الحياة إلى هذه النصوص الفريدة وغير المشتهرة لدرويش ويقدم لنا وللثورات العربية خدمة جليلة عبر نشرها كاملة في العدد الأول من “الكرمل الجديد”، وهي التي تستأنف مسيرة “الكرمل” التي أسسها الشاعر الراحل وطبعها بنثرياته وذائقته المتعالية. ودرويش لم يعتبر تلك النصوص قصائد شعرية ولهذا لم يضمها إلى أي من دواوينه اللاحقة. وعلى رغم أن هذه النصوص نشرت قبل خمسة وعشرين عاماً، وكما يلاحظ خضر بحق، “فإنها تبدو معاصرة تماماً، كما أن بعض الحكام الذين ألمح إليهم في تلك النصوص ما يزالون على قيد الحياة”.

وتتضمن النصوص ثمانية خطابات “موزونة” للديكتاتور يصوغها درويش بنثريته السلسة والساخرة. وفي “خطاب الجلوس” يعلن الديكتاتور على الملأ ما يلي: “سأختار شعبي، سأختار أفراد شعبي، سأختاركم واحداً واحداً، من سلالة أمي ومن مذهبي، سأختاركم كي تكون جديرين بي… سأختار شعباً محبّاً، وصلباً، وعذباً، سأختار أصلحكم للبقاء،..”. وفي “خطاب الضجر” نقرأ عن ملل الحاكم والمحكومين من الحياة برمتها، ذلك أن رتابة التسلط وسيطرة الخنوع تقضي على أي احتمال للدهشة أو التغيير: “… أختصر الناس، أسجن ثلثاً، وأطرد ثلثاً، وأبقي من الثلث حاشية للسمر… وما من خبر! وأطبع وجهي من أجلكم فوق القمر، لكي تحلموا مثلما أتمنى لكم: تصبحون عليّ.. وما من خبر، ضجر.. ضجر، وحيد أنا أيها الشعب، شعبي العزيز.. ولكن قلبي عليك، وقلبك من فلّز أو حجر، أضحي لأجلك، يا شعب، إني سجينك منذ الصغر، ومنذ صباي المبكر أخطب فيكم، وأحكمكم واحداً واحداً، وفي كل يوم أعد لكم مؤتمر، فمن منكم يستطيع الجلوس ثلاثين عاماً على مقعد واحد دون أن يتخشب، ومن منكم يستطيع السهر ثلاثين عاماً ليمنع شعباً من الذكريات وحب السفر؟ وحيد أنا أيها الشعب: لا أستطيع الذهاب إلى البحر، والمشي فوق الرصيف، ولا النوم تحت الشجر. ثقيل هو الحكم.. لا تحسدوا حاكماً، أي صدر تحمل ما يتحمل صدري من الأوسمة؟ وأي فتى منكم يستطيع الوقوف ثلاثين عاماً على حافة الجمجمة؟”

في “خطاب السلام” يتمثل درويش الخطاب الساداتي والمباركي في تسويق السلام مع إسرائيل. الديكتاتور هنا يرسم في خطابه مساراً واحداً وحيداً للشعب لا يجوز ولا يمكن اختيار غيره. وفي هذا التسويق يبلغ الوصف الدرويشي ذرى من السخرية السوداوية: “… ويا أيها الشعب، يا سيد المعجزات، ويا باني الهرمين، أريدك أن ترتفع إلى مستوى العصر. صمتاً وصمتاً، لنسمع وقع خطانا على الأرض، ماذا دفعنا لكي نندفع.. ثلاث حروب وأرضاً أقل، وخمسين ألف شهيد وخبزاً أقل، وتأميم أفكار شعب يحب الحياة ورقصاً أقل، فهل نستطيع المضي أماماً؟ وهذا الأمام حطام؟ أليس السلام هو الحل؟ عاش السلام… ومن أجل هذا السلام أعيد الجنود من الثكنات إلى العاصمة، واجعلهم شرطة للدفاع عن الأمن ضد الرعاع، وضد الجياع، وضد اتساع المعارضة الآثمة، فليس السلام مع الآخرين هناك سلاماً مع الغاضبين هنا، هنا لن تقوم لأي فئات يسارية قائمة، سأفرم لحم اليسار، وأحجب ضوء النهار عن الزمرة الناقمة، وفي السجن متسع للجميع، من الشيخ حتى الرضيع، من رجل الدين حتى النقابي. والخادمة، فليس السلام مع الآخرين هناك سلاماً مع الرافضين هنا، هنا طاعة وانسجام، ليحيا السلام”.

في “خطاب الأمير” نقرأ سيطرة الحاكم المطلقة والمطبقة على شعبه: “أحبوا الأمير، وخافوا الأمير، ولا تقنطوا من دهاء الأمير، فليست لنا غاية في المسير، ولا هدف غير أن تستقر الأمور، على ما استقرت عليه: أمير على عرشه، وشعب على نعشه، أنا خنجر من حرير، أحب الرعية إن أخلصت، وإن أرخصت دمها في سبيل الأمير، فعمر الرعية في الحب عمر طويل، وعمر الرعية إن كرهتني قصير… أنا السيف والورد والمصلحة، وليس على ما أقول شهيد، وليس على ما أريد قيود”.

يدفع درويش بالكوميديا السوداء للحاكم العربي أشواطاً بعيدة. فهنا الحاكم لا يريد أن يموت. يريد أن يتحدى نواميس الكون وأن يواصل حكمه للشعب المطحون حتى بعد موته: “أعدوا لي القبر قصراً، قصراً يدل الخلود عليّ ويرفع لأسمي جبالاً من المرمر الصعب، يدفع أحلامكم صلوات.. إليّ، فما كان يعبد هذا البلد فقد مات هذا البلد، ومن كان يعبد هذا الجسد فمن حقه أن يصدق أني حي، وحي هو العرش حتى الأبد… بلغت الثمانين، لكنني ما عرفت السأم، وقد أتزوج في كل يوم فتاة… بلغت الثمانين لكنني سأعيش ثمانين أخرى، وتسعين أخرى، وأرفع سيفي قلم، وأحمل توابيتكم عندما تهلكون وأبكي عليكم، وأرثيكم يوم تهوي البيوت على ساكنيها، ويسكنها العنكبوت، فمن واجبي أن أعيش ومن حقكم أن تموتوا، لأنجب جيلًا يواصل أحلامكم، فما من أحد رأى ما رأيت، وما من بلد رأى ما رأى بلدي من فتوة هذا الجسد، فمن كان يعبد هذا البلد فقد مات، أما الذي كان يعبدني فمن حقه أن يصدقني حين أصدر أمري إلى الموت: دعني وشعبي الود معاً للأبد!”. في الأسبوع القادم نتوقف عند بقية خطابات الديكتاتور، “خطاب الفكرة”، “خطاب النساء”، و”خطاب الخطاب”.

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى