صفحات العالم

محنة سوريا… ومبدأ أوباما!

د. عبدالله خليفة الشايجي

يتحول المشهد السوري الدامي إلى محنة بمجازره وحمامات دمه التي بدأت تأخذ مؤخراً منحى طائفياً خطيراً بارتكاب النظام السوري مجازر تقشعر لها الأبدان في قرى سنية وسط مناطق علوية كما حدث في الأسبوع الماضي في البيضا في العمق العلوي بإعدامات ميدانية لأكثر من خمسين شخصاً بعضهم أطفال ونساء، وما تلا ذلك بعده بيوم في بانياس في محافظة طرطوس على الساحل السوري من تمدد لموجات القتل الممنهج التي يزيدها تعقيداً تأكيد أمين عام “حزب الله” مشاركة مقاتليه إلى جانب قوات الأسد، وبتدخل إيراني. مقابل فتاوى تحث على الجهاد من رجال دين سنة في لبنان وخارجه، تهدد بتحويل المشهد السوري إلى مسرح يرقص على إيقاع فتنة طائفية خطيرة تتمدد من سوريا ولبنان إلى العراق وبقية المنطقة!

ووسط هذا كله يضاف خطر السلاح الكيمياوي الذي هدد أوباما بأن استخدامه يغير قواعد اللعبة، وأنه خط أحمر لا يسمح بتجاوزه، وقد نفذت إسرائيل عمليات عسكرية، لا تعلن عنها، تستهدف مواقع حساسة وقوافل إمداد سورية لـ”حزب الله” كما حدث في الأسبوع الماضي بعملية قصف منشأة الصفيرة الكيمياوية، التي أعلنت عنها واشنطن ولم تعترف بالغارة إسرائيل أو تؤكدها دمشق. ووسط المجازر والكيمياوي والخطوط الحمراء المخترقة، ومع تعالي المطالبات بالتدخل العسكري في سوريا، أو على الأقل إقامة مناطق آمنة وفرض مناطق حظر طيران، وتحويل ملف الانتهاكات والمجازر إلى محكمة جرائم الحرب، لا يمكن للمتابع والمندهش من برودة وعدم تعاطي أوباما شخصياً وإدارته مع تفاقم الخطر السوري داخلياً وإقليمياً، إلا التعجب والاندهاش. ولكن التعجب يُصبح مفهوماً إذا وُضع في سياق مبدأ أوباما وخطوطه الحمراء للتدخل وشن حروب خارجية.

ومنذ مجيء أوباما إلى البيت الأبيض قبل خمسة أعوام وطوال فترة ولايته الأولى ومطلع الثانية، وهو يحاول تقليص عسكرة الدور الأميركي في الشؤون الخارجية على رغم الإرث الصعب الذي ورثه من سلفه بوش الابن والتكلفة البشرية والمالية الباهظة، والانقسام الذي أحدثه ذلك في المجتمع الأميركي.

ومنذ البداية لم يُقدم أوباما نفسه وإدارته كرئيس أو إدارة حرب، كما فعل بوش. بل على العكس، مثل أوباما النقيض الواضح لبوش، الذي يرى أنه خاض حرباً “غبية” وغير ضرورية في العراق، وقد عارض أوباما تلك الحرب عندما كان سيناتوراً في ولاية إلينوي. وأصر أيضاً في حملته الانتخابية على إنهاء حرب العراق، وكذلك الانسحاب من هناك، وهو ما تحقق بنهاية عام 2011، ووعد بإنهاء الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان التي رآها حرباً ضرورية لفترة، ثم اكتشف أن تكلفة الحرب فيها لا تساوي المردود، فقرر بدء خفض عديد القوات الأميركية وإنهاء الوجود العسكري في عام 2014، بغض النظر عن النتائج ومآلات الحرب، مما يعني أن “طالبان” قد تحقق مكسباً نوعياً بمجرد انتظارها انسحاب قوات أميركا وقوات “الناتو” من البلاد. ولا يملك أوباما كثيراً من الخيارات في وجه عودة دور “طالبان” في مستقبل أفغانستان.

والحال أن أوباما يعمل من منطلق التغيير والنظرة الواقعية للعلاقات الدولية بعكس نظرة “المحافظين الجدد” المتطرفة التي تبنت نظرية الفوضى الخلاقة، بكل حساباتها الخاطئة ونتائجها الكارثية على المنطقة، وخاصة بعد اعتداءات 11 سبتمبر في نيويورك وواشنطن، وبدء الحرب على الإرهاب التي استمرت حتى ورثها أوباما. وفي ظل كل هذه المعطيات من الواضح أن سياسة أوباما هي نقيض سياسة بوش.

ومبدأ أوباما Obama Doctrine بات واضح المعالم: لا مجال لتدخل خارجي وإسقاط وتغيير أنظمة في الأجندة الأميركية. لا حروب كبيرة وطويلة وبفواتير مكلفة تزيد من إرهاق الميزانية العاجزة التي تشهد تقشفاً وصل معه الأمر بأوباما ووزير خارجيته وقياديين في إدارته لاتخاذ قرار غير مسبوق بالتبرع بنصف راتب شهر من رواتبهم لخزينة الدولة. وإبقاء حاملة طائرات واحدة في الخليج وجواره بدلًا من حاملتي طائرات. فمبدأ أوباما لا يرى حروباً في أجندة أميركا المستقبلية، وإذا كان لابد من الحرب فهي الخيار والملاذ الأخير وبضربات جوية وبمشاركة الحلفاء، ولا مكان في مبدأ أوباما طبعاً لحرب برية وقوات على أرض العدو… وستكون الحرب حرب ضرورة لا حرب خيار. وإذا فرضت، ستكون حرباً شبيهة بحرب ليبيا التي قدمت فيها واشنطن الدعم والغطاء السياسي والعسكري وتركت القيادة لحلفائها. أو كما يسميها الكاتب الأميركي روبرت كابلن “الحماية والقيادة غير المكلفة” Leading on the Cheap بما في ذلك ممارسة الضغوط والعقوبات واللجوء للمنظمات الدولية بشقيها السياسي -الأمم المتحدة- والذراع العسكرية -الناتو- إذا كان لابد من عمل عسكري محدود وبدون قوات برية، أو بعمليات كومندوز محدودة الأهداف والوقت، وبتعريف واضح للمهمة ولاستراتيجية الخروج من المواجهة. وهذا هو ما أطلق عليه أحد مسؤولي البيت الأبيض “القيادة من الخلف”.

وفوق هذا فقد أحدث أوباما تطورات وتغيرات مهمة، أولاً: تراجع مكانة ودور وأهمية الشرق الأوسط ككل، الذي لم تجن منه واشنطن إلا الخسائر والتكلفة الكبيرة، وأبقى قضايا استراتيجية مهمة حول العالم خارج أولويات وتركيز واشنطن. ولهذا السبب انتهج أوباما منذ مطلع عام 2012 استراتيجية التحول نحو آسيا والشرق الأقصى وخاصة الصين، بعيداً عن الشرق الأوسط وأوروبا.

ثانياً، الأزمة المالية التي لا تزال الولايات المتحدة تعاني من تداعياتها على رغم تحسن الوضع الاقتصادي وتجاوز الأسوأ، ولكن أية عملية عسكرية ستعني انتكاسة لذلك التعافي ونزيفاً في حرب خارجية بتداعيات وتكاليف باهظة. ثالثاً، تغير مزاج الناخب الأميركي وملله من عقد من الحروب المكلفة في أفغانستان والعراق إضافة إلى الحرب على الإرهاب. رابعاً، عدم إلمام نسبة كبيرة من الشعب الأميركي بتعقيدات السياسة الخارجية التي تبدو لكثيرين لغزاً مبهماً لا يثير اهتمامهم. وفي استطلاع حديث للرأي يعارض أكثر من 60% من الأميركيين إرسال أسلحة للمعارضة السورية فيما يؤيد ذلك أقل من ربع المستطلعة آراؤهم. وفي استطلاع آخر لمؤسسة “بيو” لاستطلاعات الرأي ثبت أن 50% من الأميركيين لم يتعرفوا على موقع سوريا على خريطة بلا أسماء برزت فيها خريطتها ملونة وبشكل بارز. وكل ذلك يُدلل على المأزق الكبير الذي يواجه أوباما في الشؤون الخارجية.

والراهن أن سوريا والعراق وإيران تبرز كتحديات مباشرة تمتحن مبدأ أوباما الذي ينأى بأميركا عن شن حروب وعمليات عسكرية. ولكن النتيجة كارثية على مصالح واشنطن وحلفائها القلقين والمتوجسين من زيادة عدم الثقة فيها حيث يرون سياساتها فاقدة لمصداقيتها في عملية السلام، وفي التعامل مع سوريا، ما يسمح بتقوية نفوذ إيران. ويرون أن التردد الأميركي قد يساهم في حرب طائفية في المنطقة، ما يحولها إلى برميل بارود بأعواد ثقاب كثيرة!

الاتحاد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى