صفحات سوريةعمر قدور

محور الممانعة الإسرائيلي/ عمر قدور

 

 

في الحادي عشر من الشهر الحالي تناقلت وسائل التواصل الاجتماعي صور الفلسطينية لينا خطّاب لحظة الإفراج عنها من السجون الإسرائيلية. السوريون ربما كانوا الأكثر اهتماما بالصورة، وربما وضعوها جنباً إلى جنب مع صور نادرة لمعتقلين سوريين في سجون النظام لحظة الإفراج عنهم، إذ من المعلوم أن النسبة الساحقة من المعتقلين السوريين لم يُفرج عنها، ولم يُتح سوى لقلائل الخروج بذلك المنظر المهين البائس. في الصورة، نرى لينا خطاب تهرول تجاه أهلها برشاقة، ووجهها المبتسم ينضح بالعافية، أما نظراؤها السوريون فنراهم في الصور مهلهلي الثياب، أجسادهم لا تقوى على حملهم من شدة نحافتهم، عيونهم زائغة من أثر التعذيب المتواصل، مع أن بعض أصحاب تلك الصورة لم يقضِ في معتقلات النظام مدة أطول من الستة أشهر التي قضتها لينا في سجون الاحتلال الإسرائيلي “الغاشم!”. أما إذا أردنا مقارنة صورة لينا بخمسة وخمسين ألف صورة لسوريين قضوا تحت التعذيب، وجميعهم كانوا قد تحولوا أثناء الاعتقال إلى أجساد شبه آدمية تقتصر على الجلد والعظم، فلا شك أن المقارنة ستكون مؤلمة ومجحفة.

من المؤكّد أن المقارنة المباشرة صادمة جداً، وستكون مصدر فخر للإسرائيليين. وإذا قارنا مثلاً مجزرة كفر قاسم التي تناقلتها الأجيال على أنها مثال للوحشية الإسرائيلية بمجزرة الحولة التي ارتكبتها قوات النظام وشبيحته فسترجح كفة الأخيرة بضعفي عدد الضحايا. حتى مجزرة دير ياسين التي بلغ أعلى تقدير لضحاياها رقم 360 قتيلاً تبقى أصغر من المذبحة التي ارتكبها النظام في “جديدة الفضل” وذهب ضحيتها 566 مدنياً. بالطبع الجريمة الأكبر لا تمنح تبريراً أو شرفاً للجريمة الأصغر، لكن سيل المقارنات الذي يمكن سوقه، بما في ذلك بلوغ عدد قتلى حزب الله في حربه على السوريين رقماً أعلى من قتلاه في مجمل حروبه ضد إسرائيل، أمرٌ يصعب تجاوزه، وربما بات يتعين علينا التمحيص في صورة إسرائيل التي روّجها محور الممانعة وتجليات هذه الصورة اليوم.

كان دارجاً من قبل لدى العرب القلائل ممن يعترفون بالهولوكست القول بأن الصهاينة تقمصوا صورة جلاديهم فتسببوا بهولوكست مماثل للفلسطينيين الأبرياء. ومعلوم أن العديد من علماء النفس تطرق إلى موضوعة تقمص الضحية شخصية الجلاد، حيث لا يندر أن تتفوق الضحية على جلادها متى ما أتيحت لها القدرة على إطلاق الوحش الذي رباه في داخلها. إلا أننا في الموضوع الإسرائيلي، ومن دون أن نمنح الوحشية الإسرائيلية صك غفران، أمام جانبين: أولهما السلوك العدواني والتوسعي والعنصري الإسرائيلي، وثانيهما المتخيل العام عن العدو الإسرائيلي الذي ساهمت في تكريسه خاصة وسائل إعلام ما يُسمى أنظمة المقاومة، الممانعة لاحقاً. وفق المتخيل، إسرائيل هي مطلق الشر والوحشية بمعزل عن الاعتبارات السياسية التي تحكم قادتها. ولأنها كذلك فهي يمكن أن ترتكب ما لا يخطر في بال من موبقات فقط بسبب العداء والكراهية المتأصلين تجاه العرب. بل إن الصورة كانت أضخم بكثير من هذه الأوصاف، فبعض أسلافنا لم يكونوا يتخيلون الإسرائيلي كائناً بشرياً على شاكلتنا.

بموجب إعلام الممانعة، حتى الثورات العربية اتُهمت منذ اندلاعها بأنها مؤامرة إسرائيلية، وتركز الاتهام بشكل خاص على الثورة السورية من منطلق أن انتصارها سيكسر حلف الممانعة الممتد من طهران إلى الجنوب اللبناني. الطريف في الأمر أن إسرائيل لم تكن بحاجة لتتجشم عناء التدخل في الصراع، وإذا نحينا رضاها عن النظام السوري وحزب الله اللذين يضبطان الجبهة الشمالية وفق قواعد اشتباك معروفة فالمكسب الأهم لها هو رؤية أصحاب ذلك الحلف يمارسون كافة الجرائم التي تبزّ الجرائم الإسرائيلية من حيث الكم والنوع. نعم، بات في وسع قادة عصابات شتيرن وهاغاناه الخروج من قبورهم والانحناء تواضعاً أمام الذين أبادوا مئات آلاف السوريين.

أصحاب حلف الممانعة لم يتقمصوا العدو الإسرائيلي فحسب، وكان ذلك ليهون نسبياً، لقد تقمصوا ذلك المتخيل عن الإسرائيليين بأشد صوره وحشية، ووضعوه قيد التنفيذ. ومع أن القائمة تطول إلا أن استرجاع الانتقادات التي كانت تُوجه لإسرائيل ربما يكون مفيداً. فلطالما، على سبيل المثال، قد قيل عنها أنها دولة خارجة على الشرعية الدولية،اليوم لدينا نظام لا ينفّذ حتى قراراً دولياً يتيماً يسمح بإدخال الأغذية إلى من يحاصرهم، ولدينا حزب يرفض تسليم أربعة متهمين باغتيال رفيق الحريري إلى المحكمة التي أُنشئت بقرار دولي وبموافقة الحكومة اللبنانية، هذا إذا لم نأخذ بالحسبان المرات التي استخدمت فيها روسيا حق الفيتو حماية للنظام أسوة بالفيتو الأمريكي الذي كان يحمي السياسة الإسرائيلية. أما سياسات التهجير القسري التي يرتكبها النظام وحلفاؤه فهي، على الإطلاق، ليست أقل من تلك التي اعتمدتها إسرائيل في مرحلة التأسيس. العنصرية نفسها سواءً كان الدافع عرقياً أو دينياً أو مذهبياً، وربما يُحسب لإسرائيل اعتمادها على عامل الترهيب النفسي أكثر من أعمال الإبادة التي يرتكبها النظام وحلفاؤه. حتى في الحرب الإعلامية الموجهة للخارج يستلهم الإسرائيليون الجدد ما عُرف عن البروباغندا الإسرائيلية القديمة، فإسرائيل قدّمت نفسها بوصفها “أقلية” دينية ضمن وسط معادٍ لها، ما يوجب على العالم حمايتها واعتبار كافة أعمالها العدوانية من مستلزمات الدفاع عن النفس.

العامل الأخير قد يكون قيمة مضافة لحلف الممانعة، إذ لا يكتفي قادته بتقمص صورة إسرائيل الحديثة العهد، بل يضخون “الدماء” في الصورة القديمة لذلك العدو المذهبي الذي لم يتوقف عن ارتكاب المجازر طوال 1400 عام. الجمع بين المتخيَّليْن ليس صعباً كما نتوقع، أليس ما يقوله إعلام الممانعة طوال الوقت صراحةً أو مواربةً إن العدو سنّي إسرائيلي؟

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى